مجتمعات المعرفة : رؤية وتجربة
هاني العبندي
يحدث أحيان أن نتبادل أطراف الحديث عن مفاهيم تُجمِعُ عليها البشرية ، كالعدالة والصدق والشفافية وما إلى ذلك من الأمور التي نطلق عليها تسمية المبادئ والقيم . ويدور بين الحين والآخر في أروقة الحوارات ذات الطابع النخبوي والعام الحديثُ حول مقدار العلاقة بين تفشي الجهل وبين غياب الأثر الحقيقي لكل تلك المفاهيم المشار إليها ، لا سيما عند تلك المجتمعات الإسلامية الشرق أوسطية التي يكثر فيها نسبة الأمية بالمفهوم التقليدي والمعاصر والتي تؤكد على عدم تجاوز الركيزتين الأساسيتين للبعد المعرفي (وهما : القراءة والكتابة) علاوة على أدوات أخرى جديدة تعين على تحصيل المستوى الأوّليّ لتجاوز أمّيّة العصر الحديث ، تلك الأدوات التي نجدها في مراكز البحث العلمي ، ومن تلك المراكز : The National Science Foundation ، The Scripps Research Institute (TSRI) . ويجدر بالذكر ، ما أوردته المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ألسكو) من أنّ نسبة الأمية في الدول العربية 19.73 % وأنّ نسبة الأمّيّة منها لدى الإناث 60.60% ، وأنّ نسبتها عند الذكور 39.42% وذلك في بيان وزِّع قبل أيّام في مناسبة الاحتفال باليوم العربي لمحو الأمّيّة من العام المنصرم 2014 .
وإن محاولة إجراء بحث عن حقيقة وجود هذه المراكز العلمية في عالمنا العربي والإسلامي سوف تبوء بالفشل الذريع ؛ فما هو موجود لا يعدو كونه مجرد هياكل حجرية وأجهزة ، مع وجود عددٍ من حمَلة التخصصات العلمية الذين لا يحملون الهمَّ العلمي والمعرفي إلا من أجل تحقيق نرجسيتهم ، إلا من رحم ربي . و بحثتُ عن المراكز العلمية في العالم العربي والإسلامي على حد سواء ، ولم أعثر عليه عبر محرك البحث ( Google ) إلا على المركز العلمي العربي للأبحاث والدراسات الإنسانية ، ويحتمل وجود غيره من المراكز العلمية إلا أن الغالب من هذه المراكز هي في الدراسات الاجتماعية . وحتى يكون حكمي موضوعياً ، لا يمكن مقارنة الإنفاق المالي ، الشعبي والرسمي ، على المراكز والمؤسسات العليمة البحثية التي في العالم العربي بما هو في العالم الغربي الذي يساعد الباحثين على التقدم في العمل البحثي ، هذا فضلا عن أهمية وجود الحرية في عملية البحث العلمي التي تغيب في المجتمعات العربية .
إنَّ ما أوردته في الأعلى يمثل مفارقة مؤسفة ومؤلمة في عالمنا العربي مصدر الرسالات السماوية ، ويبدو لي أن أحد أبواب هذا البؤس يتمثل في الفجوة بين القيم والمبادئ التي نصّت عليها جميع الأديان السماوية والبشرية ، بل وحتى تلك القوانين الدولية التي وقَّع عليها الكثير من دول العالم العربي والإسلامي ، وبين واقع هذه المجتمعات ، كالفساد في مختلف المؤسسات الرسمية والأهلية وكثرة الرشاوي التي تؤسس للكسب غير الأخلاقي والاستخفاف بالنظام .
وتُعد الحاجة لوجود الكفاءات العلمية في المجتمعات على اختلافها مسألةً حيوية في تكوين البناء الاجتماعي وتقدمه الحضاري ؛ ولذلك استفادت المجتمعات الغربية من هجرة الكفاءات العلمية العربية والإسلامية ، وقد كان من أسباب هذه الهجرات غيابُ مراكز الأبحاث العلمية وغياب الحريات و الاضطرابات الأمنية ، ويُقدَّر عدد المهاجرين ١١ مليون مواطن من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ، يعيشون في الخارج في عام ٢٠١٣ وفق تقديرات الأمم المتحدة .
تلك الأسباب تعيدنا للمربع الأول ، وهو الفجوة بين حقيقة الرسالات الدينية والاتفاقيات القانونية الدولية وبين تجليات الواقع الاجتماعي التي لم يتم تجاوزها حتى يومنا هذا ، بل إن الفجوة في اتساع مستمر حتى أصبح هناك حالات كثيرة من الخروج على الأديان . ويطرح بعض المفكرين فرضيَّة أن تقدم الدول العالم الغربي سببه تطبيق النظام العلماني الذي يؤكد على أن الدولة على مسافة واحدة بين كافة المواطنين ، وأن للجميع الحق في ممارسة اعتقاده دون وصايا دينية .
ولا تزال المباحثات الفكرية قائمةً حول هوية الدولة وتأثيرها على تكوين المجتمع ، غير أن الملاحظ في تلك المجتمعات المتقدمة تقديرها للكفاءات العلمية على مستوى الدولة والمجتمع ، وعدم وجود فساد عالي المستوى كما هو في المؤسسات التعليمية في الشرق الأوسط. .
ومما يفاقم ضعف المجتمعات العربية والإسلامية على المستوى العلمي والمعرفي أنها ابتليت في السنوات المتأخرة بوجود ظاهرة الحصول على الشهادات الأكاديمية الوهمية التي تصدر من جامعات وهمية ، أو حتى جامعات لا تمتثل للمعاير الأكاديمية المعروفة في أوساط الجامعات العريقة . ويمكن تعريف الجامعة الوهمية ، وفق رؤية وزارة التعليم العالي السعودية ، على أنها “ وثيقة صادرة من مؤسسة أجنبية وهمية افتراضية ليس لها وجود على أرض الواقع ، أو مؤسسة تجارية غير مرخص لها في بلدانها لتقديم أية برامج أكاديمية ، كما أنها ليست معتمدة من هيئات الاعتماد الأكاديمي المعروفة عالمياً ”.
وقد ساهمت هذه الظاهر في خلق شخصيات تدعي حصولها على مرتبة علمية أكاديمية ، في حين إنَّ كثيرًا من هذه الشخصيات لم تضع قدَمًا متوجِّهةً نحو المقاعد الجامعية يوما ، وإنَّما تمّ ذلك عن طريق دفع مبلغٍ ماليٍّ للحصول على هذه الشهادات أو للدراسة عن بعد دون وجود مناهج أكاديمية علمية معتبرة ورصينة كما في الجامعات العريقة . وهذا السلوك يؤكد على غياب أهم ركيزة في المسيرة العلمية وهو الصدق ، فضلا أن تلك الشهادات التي تمَّ نيلها ، تؤكد هي الأخرى على انعدام الكفاءاة العلمية عند من يقوم بهذا الفعل . ومثل هذه الظاهرة ، تؤسس لخلق نخبة وهمية تختبئ خلف ألقاب إمّا تم شراؤها أو أنها لا تحمل الصفة الأكاديمية الحقيقة ، وإن كان الشخص المعني بالدراسة عن بعد قد قدم بحوثاً ، فهو في نهاية الأمر لم يملك لا الدراسة ولا الخبرة الأكاديمية الحقيقة .
ويمكن حصر بعض أسباب وجود هذه الظاهرة في المجتمعات العربية والإسلامية على النحو التالي :
أوّلا : البحث عن التقدير الذاتي الوهمي ، لا سيما للشخصيات المغمورة والتي تبحث عن الأضواء الإعلامية والاجتماعية ، وهم في حقيقتهم يمثلون الوجهاء الجدد من هذا الجيل ، لاسيما مع تطور وسائل الإتصال ووجود الشبكات الاجتماعية . وثانيًا : محاولة منافسة النخب الأكاديمية التي درست في الدول الغربية ، ونجد هذا التنافس يكثر عند رجال الدين . ويتمثًّل السبب الثالث في الكسل العلمي ؛ حيث إنَّ البعض يعتقد أن الدراسة عن بعد ، لا سيما بالصورة التقليدية التي تعاني من نقص في مقومات المناهج العلمية الأكاديمة ، هي أيسر من سواها .
وأما عن النتائج المترتبة على هذا السلوك الذي يضعف المجتمعات ، فعلى رأسها : أولا ، السماح بمساواة الجاهل والفارغ من الفهم والتجربة العلمية والأكاديمية ، بمن تغرَّب واجتهد في الدراسة ، وساهم في إعداد البحوث للمتخصصين في مجالات دراستهم . وثانيًا ، تأطير العلم والمعرفة بالعناوين البراقة عوضا عن الحث على قيمة العلم والمعرفة دون المسميات . وأخطر هذه النتائج ، أن هذا السلوك يخلق فجو بين النخبة الأكاديمة الحقيقة وبين المجتمع حينما تتصادم مع هذه النماذج التي تسيء للمجتمع وللعلم والمعرفة .
كثيراً ما نصادف الطلابَ في المجتمعات الغربية في مقاعد الدراسة ، الطلاب والطالبات الذين يفوقوننا كثيرا في العمر ، بل إنَّ بعضهم أباء وأجداد . هذا مؤشر على مدى استشعار قيمة العلم والمعرفة في المجتمع الغربي ، على العكس تمامًا من المجتمعات العربية والإسلامية ، بل إنَّ بعضهم يعاني من أمراض مزمنة ، ومع ذالك يواصل الدراسة .
تلك المشاهد تفصحُ عن المسافة الزمنية والفجوة الكبيرة بيننا نحن القادمين من الشرق الأوسط ، وتشعرنا بالخجل الشديد ، وفي الوقت ذاته يعدُّ أحدهم عنصرًا محفزًا لنا على أن نستمرَّ في تحصيل المعرفة والتعليم حتى نهاية العمر .
ومن المواقف التي تؤكد على حيوية هذا المجتمع ، أنِّي في أثناء حوار مع زميلة دراسة ، وهي جدة وعندها أحفاد ، حيث كان الحوار حول مفهوم كلمة الزواج وما يحدث في المجتمعات الغربية في قضية ما يعرف ( بالزواج المثلي ) ، قالت : “لا أقبل بتوصيف هذا السلوك باعتباره زواجًا ؛ لأن ذلك تغيير للمفهوم كليا . قولوا عنها أي شيء ، ولا تقول زواج” . هذا الحوار ما كان يمكن أن يكون بهذه الصورة في بيئة العالم العربي والإسلامي ؛ حيث التابو الديني والسياسي يسيطر على المؤسسات التعليمية من مراحلها المبكرة حتى العليا .
هناك كثيرٌ من المواقف التي تصيبني بالدهشة ، وقد تركت أثرًا إيجابيًّا على تجربتي المتواضعة في الحياة الدارسية الأكاديمية لمرحلة البكالريوس .
أما من يعمل في دراسة مرحلة الدكتوراه ، والتي لم أصل لها بعد ، فأنا أنقل هنا تجربة صديقة ، حيث تقول : تخرج من الصباح الباكر ولا تعود إلا اليوم التالي في كثير من الأحيان ، ما بين مواد دراسية والعمل على رسالة الدكتوراة ، رغم أنَّها زوجة وأمّ . هذا النموذج ، وغيرها كثير من النماذج المشابهة ، يوضح المعنى الحقيقيّ للتحصيل العلمي الأكاديمي ، وليس كما يفعل البعض .
ولا تزال مجتمعاتنا تعد من مجتمعات الجهل ، ولعل أسوأ ما يمكن هذه المجتمعات به هو اعتيادها القفز على النتائج وتجاوزها ، وصناعة التبرير تحت عناوين لا تمتلك الصمود العلمي ، تارى باستخدام وادعاء المثل والقيم والمبادئ ، وتارى أخرى بالتقليل من النتائج . ومن هنا ، نسمع أو نقرأ أن أسباب وجود الجهل هو – على سبيل المثال – نظرية المؤامرة ، ونسبه لرجال الدين فقط , إلا أنَّ تلك النظرية ليست سوى مسكنات تُستخدَمُ وتُبث عبر الإعلام والصحافة ومختلف وسائل الاتصالات الحديثة .
إنَّ مجتمعات المعرفة لا تكترث بالعناوين البراقة ولا بالمظاهر ؛ ولهذا فلا يطلب منا الدكتور في مقاعد الدراسة في الغالب أن نقول له دكتور مايكل مثلا ، بل يكفي الاسم فقط من دون حرف الدال ، أمّا في مجتمعاتنا فيتوجَّب أن تضع الاعتبار والأهمية لهذه الألقاب التي في حقيقتها لا تسمن ولا تغني من جوع . إنه الفرق الشاسع يا سادة بين مجتمع المعرفة ومجتمع الجهل .
بانوراما الشرق الاوسط..