كان الحاكم هو الحجاج الثقفي...
إليكم الأحداث.
دخل غلام لا يتجاوز العاشرة من عمره على الحجاج في قبته الخضراء، وعنده وجوه القوم ووجهاء العرب.
نظر الغلام إلى القبة، وقلب بصره فيها، ثم قال بسخرية واستهزاء:
اتبنون بكل ريع اية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون واذا بطشتم بطشتم جبارين)
وكان الحجاج متكئاً فاستوى جالساً، وقال: يا غلام إني أرى لك
عقلاً وذهناً، أحفظت القرآن؟
الغلام: أخِفتُ على القرآن من الضياع حتى أحفظه؟ فقد حفظه الله
﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ اَحلَفِظُونَ﴾
الحجاج: أجمعت القرآن؟
الغلام: أَوَكان متفرقاً حتى أجمعه؟
﴿إِنَّ عَلَيْنَا جمعه وَقُرْآَنَهُ)
فاخذت الحجاج الدهشة، وراح يفكر، ثم قال: أأحكمت القرآن؟
الغلام: أوليس الذي أنزله حكيماً حتى أحكمه؟ ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ
آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾
: وهنا تتجلى قوة التحدي في اللعب بالألفاظ، فقد كان الحجاج من
أذكى أهل زمانه، فساءه أن تتحطم قوته أمام غلام ضعيف، فقال:
الحجاج: ويلك ماذا أقول؟
الغلام: الويل لك أنت، قل: أَوَعيت القرآن في صدرك؟
وتوقع من في المجلس أن يأمر الحجاج بقتل الغلام، ولكنه سأله:
من أنت؟
الغلام: عبد الله.
الحجاج: من أبوك؟
الغلام: الذي زرعني.
الحجاج: أين نشأت؟
الغلام: في الجبال.
الحجاج: من أرسلك إلي؟
الغلام: عقلي.
الحجاج: أفمجنون أنت؟
الغلام: لو كنت مجنوناً لما وقفت بين يديك كأني ممن يرجو فضلك
ويخاف عقابك.
الحجاج: ناولني هذه الدواة.
الغلام: لا.
الحجاج: ولم؟
الغلام: أخاف أن تكتب بها معصية فأكون شريكك فيها.
الحجاج: ولكن أريد أن آمر لك بخمسين ألف درهم تستعين بها
على ألا تعود إلينا.
فضحك الغلام.
الحجاج: ما أضحكك؟
الغلام: عجبت لجرأتك على ربك، تصدَّقْ بهذا المبلغ على من
ظلمتهم وأهلكت راعيهم فإن الحسنات يذهبن السيئات.
فغضب الحجاج غضباً شديداً، واستفتى من حوله قائلاً: ما ترون
في أمر هذا الغلام؟
فأشاروا عليه بسفك دمه.
عند ذلك قال الغلام: جلساء أخيك خير من جلسائك يا حجاج.
الحجاج: أخي؟ من؟ الوليد؟
الغلام: بل فرعون، فإنه لما استفتى جلساءه في موسى أشاروا عليه
بتركه، وهؤلاء أشاروا عليك بقتلي.
فقام رجل من القوم وقال: هبه لي يا مولاي.
الحجاج: هو لك لا بارك الله لك فيه.
فضحك الغلام حتى احمر وجهه ثم قال: والله لا أدري أيكما أحمق
من الآخر، الواهب أم المستوهب؟
الرجل: أأنجيك من القتل وتقابلني بهذا؟
الغلام: أوَتملك لنفسك نفعاً أو ضراً؟
الرجل: لا.
الغلام: فكيف تملك لنفسي أنا؟
فأُخذ الحجاج بفصاحة هذا الغلام وقال: يا غلام أمرنا لك بمئة
ألف درهم، وعفونا عنك لصغر سنك، ورجاحة عقلك، فاخرج. ولئن
رأيتك في مجلسي هذا فسأدق عنقك.
الغلام: ما كنت لأقبل هبة تذيلها لفظات التهديد والوعيد،
أما عفوك فبيد الله لا بيدك يا حجاج، لا جمعني الله وإياك حتى يلتقي
السامري وموسى. ثم خرج لا يلوي على شيء