كريم النجار*
تهتم المؤسسات البلدية ودوائر الهندسة التابعة لها في معظم المدن الأوروبية، وبشكل صارم، في إيلاء الموروث المعماري أهمية قصوى، أولا للحفاظ عليه كما توارثوه منذ عشرات ومئات الأعوام بأعتباره جزءا مهما من الحياة العامة، وثانيا في ترميمه وصيانته وإدامته السنوية المتواصلة، كي لا يندثر وسط الأبنية الحديثة الشاهقة التي تعتمد على مواد مختلفة، كالالمنيوم والزجاج والمعادن المختلفة والمواد الصلبة الأخرى. المسألة لا تتعلق بالإصالة فقط، بل تتعداها إلى كون هذه العمارة بواجهتها ودواخلها التراثية التي تعتمد أصول فن الهندسة الكلاسيكية وفخامة الانشاء والوحدات الزخرفية في الهياكل والأعمدة والشبابيك والترابزينات، هو ما يعطي ويرسم الفخامة والأبهة على تخطيط الشوارع وشكل المدينة وحيويتها.
حين تتطلع وأنت تزور أغلب المدن الاوروبية، ستشاهد حتما بعض الأبنية والعمارات التي يتم هدمها، أو يعاد بنائها، أنهم يحافظون على الواجهة التراثية بشكل تام، بعمل مساند ضخمة واحاطتها بهيكل حديدي ضمانة عدم مسها أو تصدعها أو تخريب جزء منها، ومن ثم الاشتغال بدقة على إعادة بناء التفاصيل الداخلية، التي يتم تحديثها وفق البناء والتصميم الحديث، الذي يراعي التطور التكنولوجي بكل اشكاله ووحداته الفنية والتقنية، وبعد أن يتم ذلك، ستشاهد بناية حديثة بواجهة تراثية عريقة، وهنا تكمن سمة المزاوجة بين الحديث والقديم، حيث شكل العمارة الخارجي القديم يبقى قائما كما هو، والتفاصيل الهندسية الداخلية متغيرة وفق الرؤية العصرية ومتطلبات واقع اليوم.
لكن الهولنديون كسروا هذه القاعدة في عمارتهم الحديثة، حيث لم يقتصروا فقط على الحفاظ على واجهات البنايات القديمة التي تدل على مهارة وصنعة وجمالية تلك الأبنية، خصوصا التي تطل على الأنهر والقنوات المائية العديدة المحيطة بمدينة امستردام وبقية المدن الأخرى، ورغم أن الهندسة المعمارية الهولندية مشهود لها بالابتكارات التصميمية الغرائبية والمستقبلية، في (الجسور والأنفاق ومحطات المترو والقطارات وتخطيط الشوارع والساحات، والبيوت والشقق السكنية الجديدة، والبنايات المنشأة حديثا) لكنهم لم ينسوا قيمة التراث والفلكلور الذي توارثوه عبر قرون طويلة من الزمن.
سوق حدوة الحصان في روتردام
سوق (حدوة الحصان) في روتردام
أفتتحت الملكة (مكسيما) زوجة ملك هولندا، قبل شهرين بناية (السوق التجاري الشعبي) التي تقع في وسط مركز مدينة روتردام الهولندية، وقد اطلقت عليها الاوساط الاعلامية والهندسية الهولندية بـ (التحفة المعمارية) الجديدة، باعتبارها تمازج بين الفولكلور والعمارة الحديثة، كما وصفتها صحيفة (الغارديان) البريطانية بأنها من أهم 10 أبنية أسواق في أوروبا.
انشأت هذه البناية على مساحة 10 آلاف متر مربع، حيث كان يشغل هذه المساحة سوق شعبي مفتوح تحيطه أبنية حديثة، كبناية المكتبة المركزية للمدينة وبناية المترو وبعض العمارات الشاهقة المختلفة التصاميم.
صالات سوق حدوة الحصان من الداخل
جاء المظهر الخارجي الرئيسي لبناية (السوق الشعبي التجاري) على شكل حدوة حصان، حيث يحتوي جسد البناية المقوس على عشرة طوابق تضم 228 شقة سكنية ومكاتب تجارية، والسرداب التحتاني يحتوي على كراج تسع مساحته 1200 عجلة وسيارة نقل. أما من الداخل فهو عبارة عن صالة طويلة ذات طابقين مفتوحة وعالية جدا، تماثل في تصميمها ليوان الخانات والمخازن الكبيرة، وأيضا يطابق جوهرها روحية ساحات تدريب وسباق الخيول. هذه المساحة المفتوحة على وسعها، قسمها المعماري المشرف إلى مجموعة كبيرة من الأكشاك والمحلات التي تبيع الفاكهة والخضار والاسماك واللحوم والحلويات والمكسرات، يعلوها فضاء مقوس مزين بالألوان واللوحات الزاهية بشتّى أشكال الزهور، والتي تضيف البهجة والمتعة البصرية عند الزائرين ومرتدي هذا المكان.
مبنى فندق (أنتيل INNTEL) في زاندام
هذا المبنى مختلف تماما عما هو مألوف في العمارة الهولندية، بوحداته التركيبية الخارجية، حيث يتكون من واجهات لمنازل مختلفة تشتهر بها هذه المدينة (Zaandam) المحاذية للعاصمة امستردام من جهة الشمال، والذي أستثمرها المصمم بتشكيل هندسي جعل البيوت فوق بعضها البعض، وكأننا نشاهد هرما متكون من عدة منازل بواجهات خضراء مطعمة باللون الأبيض والأزرق ومعشق بالقرميد الأحمر، وسط أبنية وعمارات سكنية خضراء تسر النظر وتضيف بهجة على المكان، إضافة بإحاطته بالمياه بعدة جوانب منه، وكأنه مركب يعوم فوق الماء، كناية على تدفق الحياة والربيع الدائم.
قاعات وصالات وفندق إنتل في مركز مدينة زاندام شمال العاصمة أمستردام
يمثل هذا التصميم المتفرد، وسيلة مبتكرة لربط الحاضر بالماضي، التقليد والابتكار، المعاصرة بروحية الفولكلور. حين يمر من جنبه الزائر، لا بد وأن ترتسم الإبتسامة على محياه، ليس لغرابة الشكل فقط، بل أنه بهجة اللون الربيعي الذي يشي بالحياة الدائمة الخضرة، أو كما يصفه الناقد المعماري الهولندي (جوناثان كلنسي) بالبناء اللذيذ الذي يشيع الألهام والطمأنينة.
والفندق متكون من 12 طابق مغلف بالخشب المعالج والقرميد بشكل تام ويحتوي على 160 غرفة وصالات كبيرة وقاعات للمؤتمرات، زينت الغرف جميعها بصور كبيرة من تراث وأجواء وحرف هذه المدينة، بحيث تكون متداخلة ومتناسقة مع الآثاث.
خلاصة
من البديهي نرى أن المهندس والمصمم المعماري الأوروبي بشكل عام، والهولندي بشكل خاص، لم يتعالى على الموروث، وأعتباره جزء من الماضي تجاوزته امكانيات التكنولوجيا والتطور المتسارع في مواد البناء المختلفة والابتكارات الحديثة التي طرقت علوم الهندسة. لكنه يحاكي ويتناغم مع الأجواء الساحرة التي خلقتها العمارة القديمة بنقوشها الهندسية وألوانها المبهجة والمرحة التي تجعل من البيئة والمحيط لوحية فنية مرسومة بعناية، وتجاوزا للكتل الكونكريتية أو الزجاجية الصماء وذات الالوان الإحادية، التي تقف مصدا وحاجزا ثقيلا للبصر التي عمت الكثير من المدن الكبيرة.
*كاتب وناقد عراقي