الإمام الصادق عليه السلام .. قيادةٌ و بصيرةٌ نافذة




تتجلى للمرء عظمة أهل البيت عليهم السلام، أنهم جمعوا في أشخاصهم، أشرف الخصال والصفات، فهم من جهة النسب يعودون الى شجرة النبوة.. ومن ناحية العلم، فهم ثمرة الرسالة السماوية، عقيدةً وأحكاماً وأخلاقاً، وفي الجهاد فهم في قمة الصبر والتضحية والإباء.
والإمام جعفر الصادق عليه السلام، فرعٌ من هذه الدوحة المباركة، ورمز للعترة الطاهرة المحتسبة، فقد خلّد رسالة جده رسول الله صلى الله عليه وآله، بما بثّ من علوم، ونشر من فقه وحديث جدّه صلى الله عليه وآله. وقد جسدت حياة الإمام عليه السلام، الدعوة الى العدل أمام سلاطين الجور والاستبداد، والجهر بالحق أمام دعاة الظلم والباطل، والصمود أمام قوى الانحراف والتضليل، مع كل ذلك، كان فيض علمه عليه السلام، يمدّ بالمعرفة علماء البصرة والكوفة و واسط والحجاز، وينير عقول الأعلام في عصره، أمثال مالك ابن أنس، وأبي حنيفة وابن جريح، ويحيى ابن سعيد الأنصاري، وأيوب السجستاني، وغيرهم.
كان للإمام الصادق عليه السلام، مكانة خاصة وفريدة في نفوس كل الذين عاصروه، فعامة المسلمين وجمهورهم، كان يرى الامام عليه السلام سليل بيت النبوة وعميد أهل البيت عليهم السلام، ورمز المعارضة للظلم والطغيان الأموي والعباسي، وان حبه، والولاء له، فرضٌ على كل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر.
فكما أن أهل العلم والصلاح كانوا يرون في الإمام الصادق عليه السلام، إماماً وعالماً، كذلك كانت رؤية أهل السياسة والحكم، لاسيما في مرحلة أفول الدولة الأموية، وصعود نجم العباسيين، فقد كانوا يرون فيه الشخصية الاجتماعية والدينية الأولى في الأمة، لذا كانوا يتعاملون مع هذه الحقيقة بحذر شديد، وعينهم على مصالحهم الخاصة المبيّتة. وبما أن الأمة شهدت مرحلة دموية ومظلمة مع تداعي الحكم الأموي، وتبعاً لذلك تزايد نقمة أبناء الأمة على المظالم والتجاوزات والانتهاكات الأموية، كان من الطبيعي أن تكون راية التغيير والإصلاح، بل الثورة بيد أصحابها الشرعيين، وهم أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله، الذين ضحوا وبذلوا لإحياء الدين ومعالمه وقيمه. وفي نفس الوقت بدأت استعدادات العباسيين لانتهاز الفرصة والقفز الى قمة السلطة، مستفيدين من أجواء الرفض والنقمة الجماهيرية من جهة، والمظالم التي لحقت بأهل البيت عليهم السلام من جهة أخرى، في مقدمتها واقعة كربلاء واستشهاد الإمام الحسين عليه السلام، فكان أول شعار رفعه العباسيون بوجه الأمويين هو «يالثارات الحسين». بيد إن علم الإمام الصادق عليه السلام، وبصيرته ومنزلته، تجعله أسمى وأرفع من المزايدات السياسية، فرفض العروض العديدة بالمشاركة في العمل السياسي ضد الأمويين، وأن يكون هو القائد للمسيرة، بحيث يتحرك من خلاله العباسيون ويستفيدون من الشرعية التي يمنحها لهم الإمام عليه السلام.
هنا الاختبار العسير.. فالدولة الأموية ماثلة للسقوط، وهذا يعني للشيعة بشكل عام، و أحفاد رسول الله صلى الله عليه وآله، فرصة تاريخية لردّ الحقوق والمظالم، بغض النظر عن الانتقام.. إلا أن الإمام الصادق عليه السلام، كان له رأي آخر، يستمده من بصيرته القرآنية وعلمه الرباني، حيث إن الخوض في دماء المسلمين بحاجة الى منهج متكامل، تكون أطرافه؛ الفرد والمجتمع والقيادة.. لذا كان يرى عليه السلام، أن أي تحرك، وإن كان نزيهاً في منطلقاته وأهدافه، فانه لن يصل الى مبتغاه، بسبب الأجواء السياسية الحاكمة التي كان العباسيون يسيطرون عليها.
ولعل في القصة المعروفة لذلك الرسول الذي بعثه «أبو مسلم الخراساني» الى الإمام عليه السلام في المدينة، بأن هنالك الآلاف ينتظرون خروجك للبيعة وتولي الأمر، وهم سيوف مشرعة بين يديك... فأمر ذلك الرسول بالدخول في تنور مسجور بالنار، واللهب يتصاعد منه، فارتعب من ذلك وهو في أشد الاستغراب، وبينا هو على ذلك، وإذا بأحد أصحاب الإمام يحضر، فأمره عليه السلام نفس الأمر، فلم يتردد لحظة واحدة في النزول الى جوف التنور وجلس فيه، كمن يجلس في زاوية بيته، فقال الإمام لذلك الرسول: كم عندكم مثل هذا..؟! فقال: يابن رسول الله.. لا يوجد حتى شخص واحد من هذا.
من هنا، نفهم أن مكانة ومنزلة الإمام الصادق عليه السلام، لم تكن محصورة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله، مع عظمة هذا الدور الحضاري، إنما كانت للإمام شخصيته القيادية الفذّة التي أعطتنا، وأجيال الأمة دروساً في التعامل مع الأحداث السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وعدم التسرّع نحو المكاسب الآنية.







كتبه: الشيخ علي ياسر العكيلي

المصدر