نحن هنا نتحدث عن المقاهي، مكان يجمع الناس للحديث عن مشاكلهم وأزماتهم كما انها محطة لاستراحتهم وقضاء ساعات فراغهم. تعتبر المقاهي من اقدم المنتديات الاجتماعية التي جمعت الرجال بمختلف اعمارهم في وقت لم يكن هنالك تلفاز ولا وسائل تكنولوجية، بل إن بعض المقاهي البغدادية كانت منطلقا للعديد من التجمعات السياسية والقرارات الخطيرة ومصدر وعي ومعرفة بمستجدات الحياة بالنسبة لاهالي بغداد وحتى في المحافظات.
فهل ياترى فقد المقهى بريقه ؟ ولماذا هذا العزوف عنه ؟ وأين اختفت المقاهي البغدادية وروادها ؟أسئلة وأخرى تبحث في انفراط مفردات من علاقات حميمة ظلت لعقود عديدة تشكل ظاهرة كونت نفسها اجتماعيا بأجيال عديدة كانت حريصة على أن يظل المقهى مكانا للتواصل والتعارف والمعارف ..فما الذي حل بالمقهى؟..
تباينت الآراء حول أهمية المقهى وضرورة الحفاظ عليه والبدائل الحديثة التي أخذت تفرض نفسها ، فهل تغير رواد المقاهي؟ في البدء لابد من القول إن معظم المقاهي الثقافية في بغداد تقع في شارع الرشيد على طوله وفي الفروع وتنتهي في الباب المعظم عند مقهى الآداب ، وأشهر هذه المقاهي هي : الزهاوي ، وحسن عجمي ، والبرلمان ، وعارف أغا ، والبرازيلية ، وياسين في شارع أبي نواس. وقد اندثر مقهى البرلمان ومقهى ياسين ، ومقهى(عارف اغأ) اندثر إذ كان يجلس فيه بعض الأدباء والشعراء والمثقفين . أما مقهى الشابندر فيقع في شارع الرشيد ويرتاده بعض المثقفين والكتاب وعدد من المحامين وكتاب العدل، ومازال يعد محطة استراحة ، فبعد تجوال الكتاب والشعراء في سوق السراي والبحث عن ضالتهم من الكتب النادرة يجلسون في هذا المقهى . ومقهى حسن عجمي مازال يعج بالمثقفين والكتاب والشعراء وهو قريب من سوق السراي أيضا ومازال تقليد يوم الجمعة سائدا فيه إذ يحضر عدد من الأدباء والكتاب والشعراء في هذا اليوم.
*حدثنا الباحث الصحفي ( عبد الرحمن الجنابي ) الذي يحمل أرشيفا كاملاً عن مقاهي بغداد بأن المقاهي على أنواع : منها المقاهي الكبيرة ، والمقاهي الصغيرة (الجيخانة) والمقاهي المعلقة (كهوة المعلكة) ومقاهي الشواطئ (كهوة الجرداغ) ، ومقاهي الطرف ـ وهو مايهمنا في هذا التحقيق ـ والتي يدعى الواحد منها ب(كهوة الطرف)، ويجلس في هذا النوع من المقاهي أبناء المحلة الواحدة وهم على مقربة من بيوتهم . ولقد كان مقهى (قهوة الطرف) البنية الأولى التي دفعت لتشييد مقاه كبيرة ارتبطت بالأحداث السياسية والاجتماعية . والمقهى سابقا كان المتنفس الوحيد للناس ، وهو يعد كمنشأ اجتماعي ارتبط بتاريخ حياة اجتماعية كاملة عبر تاريخ بغداد بمختلف عصورها ثم كان مركزا لاستقطاب الحوارات والنقاشات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية ، فكان قلما يخلو حي من أحياء بغداد من مقهى خاص بشبابه ورجاله كما لم يخل سوق أو مركز تجاري من مقهى يجمع أصحاب المهنة الواحدة.
* ويذكر التراثي (عبد الله البياتي) عن مقاهي بغداد أن انتشارها كان يلفت النظر ويدعو إلى الاستغراب وأصبحت هذه المقاهي مستراحا لذوي الميول المتقاربة والمهن المتشابهة ويتردد عليها التجار والموظفون والأدباء والشعراء والعمال ويجلسون فيها ويدخنون (النرجيلة) و(السكائر) أو يشربون الشاي والقهوة ويلعبون اللعب المسلية كالطاولي والدومينو والمنقلة وهذه اللعبة خاصة بالبغداديين.
*ويقول التراثي (رائد العبيدي) : إن للأحياء الشعبية والبغدادية القديمة مقاهيها التي يحتشد فيها أبناء المحلة أو الذين يمتلكون فائضا من الوقت والفراغ لا سبيل عندهم لقضائه الا في هذه المقاهي التي تفتح أبوابها للزبائن منذ الفجر وحتى أواخر الليل، وقديما يلجؤون بكثرة إلى هذه المقاهي لعدم وجود الستلايت والانترنيت وقلة النوادي ودور العرض السينمائية والمسارح والمتنزهات. كما لم تكن وسائط النقل متوفرة بحيث تسهل عليهم الخروج إلى أطراف بغداد وضواحيها حيث الخضرة والهواء الطلق ومنظر الطبيعة الجميل ، ولكن انحسر ظل تلك المقاهي لأسباب كثيرة منها توسع شوارع بغداد وتطور العمران فيها ما أدى إلى زوال الكثير منها لإضافة أرضها إلى شوارع وتحول عدد آخر منها إلى عمارات سكنية وحوانيت ومطاعم ، لهذا لم يبق ألا القليل. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى تضاءل عدد رواد المقاهي بسبب توفر وسائل اللهو مثل الستلايت والنت ، إضافة إلى عدم الأمان لذلك لم تعد الحاجة ماسة لخروج الناس من بيوتهم والذهاب إلى المقاهي . ولهذه الأسباب وغيرها فقدت بغداد الكثير من المقاهي التراثية ولم يبق منها الا القليل الذي امتدت اليه يد أمانة بغداد وحافظت عليه.
عندما دخلت لبعض هذه المقاهي شعرت بأن جدرانها وبواباتها وكل ما فيها من معالم ومظاهر تراثية من تختات ونركيلات وسماورات كلها تعبق برائحة الماضي وذكرياته التي تستثير همم العاشقين لماضي بغداد وتراثها .
*التراثي (محمد السامرائي) قال : إن سبب انتشار المقاهي كان الحاجة إلى الراحة ليلاً لحراس الطرف واجتماع أصحاب الطرب ليلاً أو الاستراحة واجتماع الوافدين من العشائر والزوار (بائعين ومشترين) من التجار اليها ، ثم تصنفت حسب الأسواق والمهن ..وكانت القديمة من هذه المقاهي تستخدم فيها مقاعد من طين ثم ارائك من جريد النخل ثم من الخشب (كرويتات).
وكان البعض من الناس غايتهم اللهو وسماع الغناء والموسيقى ومشاهدة الرقص.والبعض يحضر مجالس الوعظ التي هي اشبه بمدرسة شعبية ، ويحضر مجالس القصص ، والقاص هو الرجل الذي يجلس في الطرقات وفي الجوامع وفي الاسواق يذكر للناس شيئاً من الآيات والاحاديث واخبار السلف..
ومن خلال اللقاء مع بعض كبار السن ذكروا لي أنهم يتسلون بالجلوس على مقاعد المقهى خاصة اذا كان امام ابواب منازلهم .
*فيما تحدث (الحاج ابو خالد) متقاعد قائلاً :الذين عاصروا مقاهي بغداد القديمة يعرفون وجود مقاه لكل الاصناف والمهن وللكثير من الهوايات أواستمدت اسماؤها من مهن روادها كالعمال والطلبة والادباء والفنانين والتجار.
*ولفت انتباهنا أحد اساتذة التاريخ واسمه (هيثم محمود العبيدي) يقول: بأن أي مورخ عراقي للحركات السياسية في العراق الحديث عليه أن لا يتجاهل دور بعض المقاهي البغدادية في هذه الحركات ، فهي مراكز للتفاعل المجتمعي ، وتبادل المعلومات ، وتعد بحق جزءا من تاريخ الحركات الوطنية في العراق ، وهناك عدد من الكتاب ممن تصدى لدور مقاه محددة كانت محل التقاء وتجمع الادباء والشعراء وابرزها البيروتي ومقهى حسن عجمي في الحيدرخانه ومقهى الزهاوي .
*وأكد التراثي (عبد الخليل ابراهيم ) بأن المقاهي كانت مكانا للفكر وملتقى الكلمة وأمكنة تتيح لروادها التعرف على الكثير من الشخصيات والآراء ألا انها بدأت بالانقراض .
*سألته ولماذا بدأت بالانقراض ؟
ـ أجاب : بعد أن امتلأت حياة الناس بالعمل فضلاً عما أوجدته التكنولوجيا الحديثة من وسائل الترفيه التي دخلت كل بيت ، ولكن برغم ذلك علينا أن نعتز بوجود المقاهي لأنها جزء من ماضينا وتراثنا .
*وعن أهمية تطوير وانشاء المقاهي .. سألنا أحد المهتمين بهذا الموضوع المهندس ( رياض فاضل ) : ما المطلوب لإنشاء مقاه جديدة في مركز المدينة؟
ـ أجاب: أن يكون المقهى في منطقة سكنية وأن يكون صاحب المقهى عراقيا بغداديا لكي يقوم باحياء تراث آبائه واجداده وله الرغبة الملحة لذلك، وأن يتصور أن المقهى ديوان عربي متطور.. وأن يحافظ على سمعة المقهى وخاصة عند احتوائه على العاب مسلية كالطاولي مثلاً ، أسوة بالمقهى البغدادي القديم الذي افتقدناه .
*ترى ما المشاكل التي تقف عائقاً أمام تطوير المقاهي القديمة؟
ـ قد تكون رغبة صاحب المقهى في البقاء في مقهاه وذلك لحمايته من قانون الايجار والقوانين التي تبدل المقهى إلى عمل ثان .
*وكيف يمكن تطوير المقاهي القديمة؟
ـ عن طريق احياء التراث البغدادي العربي، إذ كانت المقاهي سابقا ذات طابع اجتماعي تبادلي بين حشدين من سكان البر وسكان الماء. كانت العلاقة اشبه بحوار تتخلله أبنية ، أما الآن فقد ادار البعض ظهره لها بسبب الستلايت والانترنيت .
بعدها وجهت سؤال إلى شرائح مختلفة من الناس ، فكانت الاجابات مختلفة أيضا ، فالبعض يصفها بأنها أماكن غير مقبولة وأحيانا غير محترمة ، وبعضهم الآخر قال اختفت المقاهي بسبب التلفاز والنت ، فيما راح آخرون يعلنون الاختفاء لأسباب عديدة مثل تعب أو وفاة أصحابها ولا يوجد من يكمل مسيرة هذه المقاهي ، وبعض أصحاب المقاهي حولها إلى مطعم أو سوق تجارية.
وبالرغم من قيام أمانة بغداد بالحفاظ على معالم أبرز المقاهي البغدادية القديمة وأحياء تراثها وتاريخها العريق الا أن معاول الهدم طالت اجساد بعض هذه المقاهي وازالتها أو غيرت من معالمها وطرازها التراثي لغايات تجارية بحتة.. هذا ماقاله المواطن (طارق العابد) مدرس .
وأخيرا ًتحدث المواطن (سامر حامد ) موظف - واصفا المقهى بأنه ديوان أدبي وتمنى حمايته من الغول التجاري ، وأضاف "لمقهى الطرف حرمة لدى ابناء المحلة .. اذ كانت محطة لكل من ينشد الراحة والتأمل برغم ضجيجها، وتعد واحدة من معالم المحلة وميزتها ". و شاركنا الحديث صديقه (اسامة ناصر) قائلاً "لا اريد الجلوس في المقهى لأنها تحولت إلى مجمع للغيبة والنميمة وفحشاء القول والمنكر" ..
وفي نفس الوقت الذي اختفت فيه ملامح مقاه مهمة ومعروفة، نشطت مقاه صغيرة في بعض الشوارع و المحلات وعلى بعض الارصفة يتجمع فيها كبار السن والمتقاعدون. واتفق اغلبهم على ان المقهى هو المكان الوحيد الذي يحتاجه كبار السن كونهم اكثر شريحة تحتاج الى اماكن لقاء وتسلية. يقول (ابو مرتضى)/ متقاعد "انه يضطر الى ركوب سيارة مسافة غير قليلة ليذهب الى المقهى للقاء من هم في مثل سنه كون جميع المقاهي في منطقته والمناطق القريبة قد اختفت، ويتمنى ان تعود أيام زمان وتعود المقاهي الى ازدهارها كونها دليلا على جمال الحياة البغدادية وبساطتها وفرصة للتواصل الاجتماعي".
منقول
ابو النون