لماذا الغرب متقدم في العلوم الدنيوية، والصناعات، والقوة الحربية، والنظام؟..
ولماذا نحن المسلمون متأخرين في كل ذلك ؟!!!!!…
المسلمون كانوا أسبق من الغرب في التقدم، فحضارتهم العلمية سبقت بقرون عدة، أما الغرب فلم ينهض ويتقدم إلا منذ ثلاثة قرون، فما الذي كان ليتقدم المتخلف، ويتأخر المتقدم؟!!..
وفي الوقت الذي بدأ في الغرب بالنهوض، كانت الحضارة الإسلامية في خفوت، وبسرعة هائلة تقدموا، وبمثلها تأخرنا… فما السبب في ذلك؟!..عاشت أوربا ظلاما قرونا متطاولة، اعتنقت خلالها النصرانية المحرفة ودانت بها شعوبها، ولما كان دينها محرفا لم ينفعها بشيء، فلم تفد منه في محو التخلف عن نفسها، بل زادها جهلا وظلاما، حيث منعت من التفكير إلا من خلال الكنيسة، وضمن الحدود التي ترسمها، وخضعت للقسس والبابوات خضوعا مطلقا، في نشاطها الفكري، فبقيت كما هي لم تتقدم خطوة إلى الأمام..
ثم طرأ عليها حدث مهم، كان نقطة تحول في تاريخ أوربا، وبداية لمرحلة جديدة، مختلفة كلية عن مراحلها السابقة، كان ذلك سقوط الإمبراطوية الرومانية في المشرق، تحديدا بلاد الشام، على يد الصحابة رضوان الله عليهم، ثم بعد ذلك توسع الفتح الإسلامي في بلاد الروم، حتى تم فتح القسطنطينية عاصمة الكنيسة الشرقية الأرثوذكسية، في القرن التاسع.
هذا التحدي الجديد الذي صار يهدد عروش الملوك والبابوات في أوربا كان حافزا لإعلان الجهاد المقدس ضد المسلمين، فبدأت الحروب الصليبية، و من خلال الحروب والفتوحات احتك نصارى أوربا بالمسلمين..
وقع الاحتكاك:
بين أمة لا تعرف الغلو ولا التبعية المطلقة، وتؤمن بأهمية العقل والتفكير الصحيح، وتنزل الإنسان منزلته اللائقة، فلا تهدر كرامته في بدنه أو عقله، باسم الدين، أو الخضوع للسيد أو الملك أو القسيس..
وبين أمة لا تعرف شيئا من ذلك، ولم تفكر يوما أن لها حقوقا، هضمت ومحيت من كتب القانون وشريعة البابوات..
كان ذلك الاحتكاك سببا مهما في استفاقة نصارى أوربا، وشعورهم بمهانة إنسانيتهم على يد الملوك والبابوات، فكانت تلك نقطة البداية لاشتعال نار التمرد على السيطرة الجائرة ضد عقل الإنسان..
عمق هذا الفهم الجديد تتلمذ كثير من الأوربيين على يد علماء المسلمين، في جامعات الأندلس وصقلية والشام، في شتى العلوم الدنيوية، وإدراكهم مدى التحرر العقلي الذي ينعم به المسلمون في غير ما يضر.. بخلاف شعوب أوربا..ولهذه العوامل بدأ العقل الأوربي مستحسنا طريقة عمل العقل الإسلامي، معجبا بتحرره من التبعية والخضوع الجبري بغير حق، والاستحسان والإعجاب باب التقليد والمحاكاة، وهذا ما كان:
فقد نشط العقل الأوربي في التفكير، خارج الحدود المرسومة له بأمر الكنيسة، فاصطدم بها، وناله العقاب الرادع، فقد قتلت الكنيسة وحرقت كل من يسول له عقله أن يفكر بأمر يخالف ما قررته فجعلته حقيقة لا تقبل الجدل، وكحال كل الثورات، فإن الثورة العقلية أخضعت وقطعت في أول أمرها، لكنها في نهاية الأمر انتصرت، فسقطت أمامها كل عائق كان يعوقها، سقطت عروش البابوات والملوك، وسقط معها الدين النصراني المحرف، فانطلق العقل الأوربي، متحررا، بلا قيود..
إذن، لم يتقدم الغرب إلا بعد أن نجح في التخلص من معوق الفكر (= الكنيسة)، وكان احتكاكهم بالمسلمين دافعا لمثل هذه الثورة، تعلموا فيه إنسانية الإنسان، وزرع فيهم الأمل لاسترداد تلك الإنسانية، التي فقدوها مع حكم الإقطاع والكنيسة.
وعقلاء الغرب ومفكروه يشهدون بفضل المسلمين على أوربا في النهضة الحديثة، تقول الألمانية "زيغريد هونكه" في كتابها "شمس العرب تسطع على الغرب":
"إن هذا الكتاب يرغب أن يفي العرب دينا استحق منذ زمن بعيد".. ص14وإذا كان من أهم أسباب تقدم الغرب هو التخلص من الدين المحرر وإزاحته من طريق التفكير، فإنه على العكس من ذلك، قد كان من أهم أسباب تأخر المسلمين هو ضعفهم في أخذهم دينهم بقوة، كما أمر الله تعالى: {خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون}..
فقد تراخت قبضتهم على الدين، فكثر فيهم البدع، والخرافات، والتواكل والتقصير وترك العمل، والحرص على الدنيا..
إن الدين المنزل الحق المحفوظ من التبديل لا يمكن أن يعوق البشرية عن مصالحها، من تفكير صحيح، وإنتاج مفيد، إنما الذي يعوق الدين المحرف، وهذا فرق ما بين الإسلام والنصرانية، في هذه القضية..
لما كان المسلمون يقبضون على دينهم تقدموا، فلما تركوه تخلفوا، ولما كان النصارى يتبعون دينا محرفا تخلفوا، فلما تركوه تقدموا..
واليوم المسلمون في رجوع إلى نقاء الدين وصفائه، لكنهم يجدون عوائق جمة أمام استرداد الأمجاد ومنافسة حضارة الغرب، فهم وإن طبقوا الإسلام على وجه مقبول إلى حد ما، إلا أنهم لم يستطيعوا التخلص من سلبيات لصقت بهم، وللغرب دور في ذلك، فحالهم كحال الجاني التائب المسجون، لايجد طريقا للخروج، ليستعيد نشاطه ويصلح ما مضى، فحبسه مؤبد..
الغرب القوة الأولى في الأرض اليوم حكم على الأمة الإسلامية بالسجن المؤبد في التخلف والتبعية المطلقة في كل شيء، فهو يخطط لقمع كل حركة استرداد لتراث الأمة وحضارتها، ويئد كل عمل للارتقاء والتقدم، ويستعمل لأجل ذلك وسائل كثيرة..
فمن أساسيات مراكز القرار في الغرب اليوم، العمل على ضمان تفوق الغرب الدائم المطلق، في كل الميادين الحيوية، مهما كلف ذلك من ثمن، ولو كان الثمن الإفساد والإفقار، بل ولو كان الثمن إزهاق الأرواح وسفك الدماء بغير حق، يستوي في ذلك الأطفال والشيوخ والنساء والضعفاء.
نعم إن المسلمين يتحملون جزءا كبيرا من سبب التخلف، لكن ذلك لا يعفي الغرب من التهمة، فالكل يشهد، في كل بلاد الإسلام، ما يخطط له الغرب، بكل عناية وحرص، لتبقى هذه البلدان متخلفة:
بدأ ذلك منذ سقوط دولة الإسلام، وتمزقها على يد الغرب إلى دويلات، لها حدود وجارات، بعضها غنية، وبعضها فقيرة، فأما الفقيرة فزادوها فقرا، وأما الغنية فخططوا لإفقارها، تسعى في سداد ديونها الربوية المتراكبة، وتلك الحدود خلقت جوا من الاضطراب والقلق الدائم بين الجارات، فبين كل دولة ودولة مناطق متنازع عليها، هي فتيل حرب في أية لحظة، بالإضافة إلى تصدير الفساد الأخلاقي وترويجه وجبر الناس عليه والاضطلاع بمهمة تحرير المرأة.
فالفتن تحيط بدول الإسلام من داخلها وخارجها، فقد زرع الغرب في دول الإسلام من يحمل الولاء الكامل له، وليس فيه أدنى ولاء لبلده وأهله، فهو وطني في الظاهر، لكنه مستغرب، من بني الجلدة، لكنه غربي الهوى، ليس له قصد إلا إلحاق الأمة بالغرب، ولو كان في ذلك تحطيمها في قوتها واقتصادها وأخلاقها.. فهذه الفئة تسعى دائما لإضعاف الأمة، وضمان تفوق الغرب.
وقد أنشأ الغرب منظمات دولية:
- كهيئة الأمم المتحدة ولجانها..
- وصندوق النقد الدولي.
- والبنك الدولي.
- ومنظمة التجارة العالمية.
لتكون أداة لضمان تفوقه على كافة شعوب الأرض..!!!!!.....
فهي تستخدم للتدخل في سياسات الدول، واقتصادياتها، تفتعل الأزمات السياسية والاقتصادية، ثم تتدخل هذه الهيئات في صورة الناصح المشير والمنقذ، وليس لها قصد إلا تعميق المشكلة، فهي تقرض مثلا دولة فقيرة، لكن بشروط وزيادات ربوية تعمق المشكلة وتزيد الدولة فقرا إلى فقرها، كل يوم، فالزيادات الربوية لا تقف عند حد، وهكذا تصبح هذه الدول المقترضة في الدين إلى الأبد، وذلك يستنزف الناتج القومي.
وفي مثل هذه الأحوال العصيبة، والمشاكل التي لا تنتهي، تفتقر بلاد الإسلام إلى أهم أسباب التقدم، من استقرار وأمن ورخاء، ويكون بدلا عنها الاضطراب وقلق الحرب والفقر..
كما ينصرف جهدها في الحفاظ على القيم، ودفع أولئك المستغربين من بني الجلدة، الذين يشغلون الأمة كل يوم بما لا يعود عليها بالنفع، بل بالضرر، الذين لا هم إلا الكلام عن المرأة وحقوقها المزعومة، ودعواهم وفريتهم العريضة أنها مظلومة، يحكمون على الأمة أن تعيش حالة حرب مع الأخلاق الوافدة الفاسدة الدخيلة على المجتمع، تستنزف جهدها وطاقتها في ذلك..
فهؤلاء الأعداء من الداخل ومن الخارج هم من أكبر أسباب تخلف الأمة، والعدو الخارجي هو الأكبر، وإنما الذي في الداخل تبع له، ولولاه ما وجد.إن الإنسان هو الإنسان في كل مكان في الأرض، فالإنسان الشرقي ليس أقل من نظيره الغربي، من حيث ملكة التفكير والعقل...
فكل ما في الأمر أن الغرب من سياسته تبني العقول الذكية، بفتح المجال لها لتبدع وتنتج، على العكس من سياسة الشرق، خاصة بلاد الإسلام، إلا ما ندر، الغارق في مشاكله الخاصة، الذي لا يفكر في تبني العقول الموهوبة، مما يدفع بكثير منها إلى الهجرة إلى حيث الاحتضان والرعاية العلمية (= الغرب)، وليس من العسير أن نبحث عن أعداد ليست بالقليلة من العلماء العباقرة من المسلمين يديرون مراكز علمية غربية، طبية وفلكية وصناعية، وغير ذلك..
نعم هناك محاولات جادة من بعض الدول الإسلامية، مثل دولة ماليزيا، للتقدم، وقد قطعت شوطا مهما في هذا المجال، فتحررت من هيمنة الغرب، إلى حد ما، واستفادت من الطاقات في الداخل، فبدأت عملية التطوير تؤتي ثمارها، فذلك يعلمنا أن التقدم الإسلامي غير محال، وأن التحرر من الهيمنة الغربية ممكنة، بشرط:
صدق العزيمة، والقوة في العمل، والتميز في الأداء، حتى تكون الصبغة إسلامية، والتخلص من المصالح الشخصية، والتخلص كذلك من الفئات الفارغة التي تشغل الأمة ولا تفيدها بشيء.
ولا يعني ذلك أن الغرب سيسكت، بل سيمارس كل ما يضمن له التفوق، لذا على المسلمين الاستعداد للرد على كل وسيلة يتخذها، فعليهم إذن حسن التخطيط للتقدم، كما أن عليهم حسن التخطيط لصد كل ما يتخذه الغرب لعزلهم عن المقدمة..