من أهل الدار
تاريخ التسجيل: August-2012
الدولة: تحت اقدام امي
الجنس: ذكر
المشاركات: 28,742 المواضيع: 2,975
صوتيات:
7
سوالف عراقية:
0
آخر نشاط: 13/October/2024
السياب …عشر من قصائده تقف على كفة ميزان فيما يقف الشعر العربي على الكفة الأخرى
هل كانت قصيدته “غريب على الخليج” واحدة من أكثر نبوءاته الشعرية استشرافا لمستقبلنا الملتبس؟ لكن صرخته في أنشودة المطر لا تزال تجد مَن يستعيدها في مرآة الواقع “ما مر عام والعراق ليس في جوع″ أي عراق ذلك الذي كانت المومس العمياء تطرق أحجار طرقاته بعصاها؟
أما كان من الممكن أن يكون بويب الذي جفت مياهه واحدا من أشهر الأنهار في العالم بسبب ما كتبه ابن جيكور عنه، لو لم يكن ذلك الابن عراقيا، يحيط به سوء الفهم من كل الجهات؟ كان النوم الأخير قد أخذه فيما كان يستلقي على سرير المريض الغريب في المستشفى الأميري بالكويت في العام 1964 ولم يكن برفقته سوى شاعر كويتي، سيكون عليه في ما بعد أن يروي وقائع الساعات الأخيرة في حياة أعظم شاعر عربي معاصر.
ألم يكن العراق دائما منزلاً للأقنان؟ كان ذلك الفاتح الكبير ورائد الشعر العربي الحديث من غير منازع قد عاش 38 سنة، هي كل حياته التي لم تكن في كل أحوالها على صلة بالسعادة.
حرَمَه القدر من الحب، غير أنه لم ييأس فكتب في بداياته الشعرية “ديوان شعري كله غزلُ “بين العذارى صار ينتقلُ” وفي لحظة اعتراف أمام مرآة الذات خاطب زوجته إقبال “أحبيني “لأن جميع من أحببتُ قبلك لم يحبوني” المتمرد الذي كتب في لحظة ندم كتابه النثري الوحيد “كنت شيوعيا” كان طريد الأحزاب كلها فلم تهنأ حياته بلحظة هدوء إلى أن سلمه القدر للمرض الذي أودى به شابا.
بدر شاكر السياب، عشر من قصائده تقف على كفة ميزان فيما يقف الشعر العربي الحديث كله على الكفة الأخرى.
احتفى به اللبنانيون (جماعة مجلة شعر التي تزعمها يوسف الخال) في الوقت الذي لم يواجهه العراقيون إلا بالجحود والإنكار والعداء. لم يغفروا له حينها أنه حطّم عمود الشعر العربي.
فلم يعش الرجل الاستثنائي في خياله وموهبته وعطائه الفذ حياة استثنائية. كانت حياته سلسلة متلاحقة من العثرات والخيبات، غير أن الشعر لم يهزمه.
ولد بدر شاعر السياب في قرية جيكور التابعة لقضاء أبو الخصيب بمدينة البصرة، جنوب العراق في 24 ديسمبرـ كانون الأول من العام 1926 ابنا لعائلة فلاحية كانت تملك أرضا مزروعة بالنخيل.
كانت تلك الطبيعة الخلابة ملهمته الأولى التي لم تفارقه في حياته القصيرة. فقد والدته وهو في سن السادسة من عمره، وكان لذلك الحدث الفاجع أثره العظيم في حياته.
كان ماهرا في التزامه الشعري من غير أن يقيد ذلك الالتزام بمواقفه السياسية المتغيرة, فكان العراق بالنسبة إليه أكبر من ذلك البلد الذي عذبه ولم يكن كريما معه. لقد ترك لنا السياب عراقا هو في حقيقته أكبر من الجميع.
عاش في بيت جده الذي كتب عنه قصيدته “بيت جدي” حين أكمل دراسته الأولية التحق بدار المعلمين العالية، حيث رغب في دراسة الأدب العربي، غير أنه قرر في العام 1945 أن يتخصص باللغة الإنكليزية، ليتخرج من الجامعة في العام 1948 ويُعيّن معلماً للغة الإنكليزية في الرمادي، وهي الوظيفة التي فصل منها بعد عدة أشهر من التحاقه بها بسبب ميوله السياسي اليساري ومن ثم تم اعتقاله حين أفرج عنه مستردا حقوقه المدنية عمل ثانية في التعليم، غير أنه هرب من العراق إلى الكويت عن طريق إيران عام 1952 خوفا من اعتقاله ثانية بسبب مشاركته في مظاهرات احتجاجية.
بعد سنتين عاد إلى العراق ولأن العمل في الصحافة يومها لم يكن يكفل له لقمة العيش، فقد عمل في مديرية الاستيراد والتصدير مصرا على تخصيص جزء من وقته للعمل الصحفي. لم ترق له وهو الشخصية القلقة فكرة العيش في بغداد وكان يحن إلى حياته في جيكور التي اكتشف لاحقا أنها لم تعد موجودة إلا في خياله، فقرر أن يبقيها حية في شعره. وهو العهد الذي وفى به.
حين قامت الجمهورية عام 1958 انتقل السياب إلى العمل ثانية في التعليم الذي غادره بعد وقت قصير إلى العمل في السفارة الباكستانية، غير أن انفصاله عن الشيوعيين أعاده إلى العمل في مديرية الاستيراد والتصدير التي انتقل منها إلى العمل في مصلحة الموانئ بالبصرة. وهي وظيفته الأخيرة التي غادرها إلى الموت، بعد أن أدخل إلى مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت برعاية خاصة من جماعة شعر لينتقل بعدها إلى المستشفى الأميري في الكويت ويفارق الحياة هناك.
السياب ابن العائلة الفلاحية التي كانت تملك أرضا مزروعة بالنخيل في جيكور بالبصرة تلك الطبيعة الخلابة كانت ملهمته الأولى التي لم تفارقه في حياته القصيرة.
حين سئل محمد مهدي الجواهري وهو آخر الشعراء العرب التقليديين الكبار عن رأيه بالشعر الحديث استثنى الرجل العارف بفنون الشعر السياب من سخريته. كان السياب بالرغم من تطرفه الحداثوي الذي لا يقبل اللبس الوارث الحقيقي للشعر العربي التقليدي. لم يبدأ ثورته الشعرية في قصيدة “هل كان حبا؟” التي هي في حقيقة قيمتها التاريخية قد شكلت لحظة انفصال عن الماضي الشعري العربي إلا بعد معرفة حقيقية بأحوال الشعر العربي في مختلف مراحله. غير أن معرفته بأحوال الشعر العالمي كان لها أثر كبير في ميله إلى التجديد.
لم تكذب نبوءته. لا يزال السياب أعظم شعرائنا المعاصرين.