«أحتسي القهوة ثم أعود إلى البيت لأنصرف إلى المطالعة.. أنا نهم في القراءة»، هكذا تحدث يوما صانع مجد الدراما التلفزيونية والإذاعية والمسرحية الفنان الفلسطيني الراحل محمود سعيد.
نعم، غادرنا إلى دار البقاء قلب عربي كبير لم تسعفه الدنيا ليقول أشياء كثيرة يخفيها في جعبته. ظل قرابة أربعين سنة يناضل بالكلمة على المسرح والشاشة الصغيرة والكبيرة دون أن يحقق ـ على الأقل ـ مجده ومجد المرحلين الفلسطينيين بالعودة المظفرة إلى القدس.
طفل يافا ذو السبعة أعوام يجرد مسلسلا طويلا من المعاناة، انطلاقا من مرارة الهجر سنة 1948 وحتى عام النكبات 2014، حيث لم يستطع العرب جميعهم الاعتراف حتى بتمرير طلب تصويت مجلس الأمن على مسودة القرار الفلسطيني قبل نهاية السنة الميلادية الأصعب في تاريخ وجود الأمة.
شخصيا لم أذكر يوما تعلقي بفنان شهم يمثل صورة البطل العربي الضائع مثلما تعلقت بحضور الفنان النبيل محمود سعد. كان حقا طيفا من خيال وفارس مغوار لا يشق له غبار.
صوته يعيد لي ذاكرة الاسترجاع، قريبا من الأبيض وبالأسود خلال فترة السبعينيات من القرن الذي ودعناه.
صوت جهوري صاعق يلمع كبريق زجاجي يخطف الأبصار، صمد على أرضية قاعدتها الفنية بدايات لمرحلة تأسيس، تفتقت فيها عبقرية رجل خط لفن التشخيص الملتزم طريقا وعرا لا يتكرر، مثله مثل فطاحل مثل لهم في مسرحيات شاهقة، مثل الشاعر السوري الكبير محمد الماغوط من خلال نصه الجميل :»المهرج» والروائي السوداني الكبير الطيب صالح من خلال روايته الناجحة «موسم الهجرة إلى الشمال» و»موقعة عنجر» لنزار ميقاتي، و»موال الأرض» لعايدة عبد العزيز. أتذكر عبر نوستالجيا تتماهى ونوبة سرد أسير تلك الملامح السمراء البدوية القاسية، ممزوجة بخشونة صحراوية ونظرات تربك الرائي على امتداد المدى، محمود سعيد في دور رومانسي عارم في مسلسل «فارس» ذي الشهرة الواسعة، ظلت أصداؤها تتردد لسنوات طويلة وأسّست لمجموعة أعمال تلفزيونية وسينمائية على النمط القروي، تلقفتها المحطات العربية كافة، وقد شاركته سميرة توفيق بطولة معظمها.
سر غريب ظل يسكنني تجاه هذا الشاعر المجدد الذي تقاذفته أريحة الزمن، متناثرا هنا وهناك، في القاع السحيق من عصبيته العربية، أنا وأقراني ممن أوغرهم نبض ساحر صنديد، غير شكل الشخصية العربية سيكولوجيا، وخلخل أسئلة شائكة حول مصير اللغة في التعبيرات الفنية المعاصرة، سرعان ما مثلت حبل انزياحها للذائقة المستنهضة للغة الضاد، وأعلت شأنها وأقامتها على مقعدها الشاغر، بعد قعود جبري لم تنفع معه قصائد حافظ إبراهيم أو أحمد شوقي أو إبراهيم اليازجي.
ذلكم السر الخطير الذي جعل من أسطورة الفنان محمود سعيد واحدا ممن أزاحوا عن فن التمثيل صفته الإنغلاقية، متمردا على المعنى الآني للدور الذي يقتفيه بعد حفظ النص المسرود. متكلسا بالتجربة التلبسية المتحققة في الذات كمحور للتركز القيمي، في الانتماء للنص كائنا يمشي وروحا تخفق في الأمكنة والأزمنة.
إن موت محمود سعيد بالنسبة لي فقد للكينونة الدرامية العربية، من حيث هي وعاء تتعالى فيها الذوات عن الوجود، وتتهافت فيها الأوردة عن تقلبات لا تخفي مواتها الأبدي بعد سقوط أيقونتها.
سأبقى مخلدا لذكراه أينما رحلت وارتحلت، في السبات والغيلة التي أصابت آثارنا، وللمحق الذي يتلف كل لحظة من جأروا بالعربية ملاذا للتائهين. وسأبقى أردد في نفسي سوابغ مقاماته الشجية، في الأدوار الحياتية الجميلة التي تقمصها طيلة ممارسته لفن الدراما، في مسلسلات تكاد تكون علامات مفصلية في تاريخ الشاشة والمسرح العربي، ويكفي أن نذكر هنا أعماله العظيمة: «سر الغريب، من وحي البداية، حكمت المحكمة، بيروت في الليل، صقر العرب، أسير المحراب، غروب، وتعود القدس، الرسالة، فارس»…إلخ.
نم قرير العين أيها الفارس العربي، نم مبتسما أيها الملهم الشامخ في ذرى الليل الأثيل.