أغمض عينيك.. واستدع صورة أقرب أصدقائك. ربما ترى عينيه، وأنفه الطويل، وشعره، بل وربما ابتسامته. وإذا تخيلته وهو يسير في الشارع فإن ذلك يعكس رؤيتك له. لكن ماذا إذا لم تر شيئا على الإطلاق؟
لا يستطيع جيمس كوك (66 عاما) من نيويورك أن يتعرف على وجوه الناس. فعندما يلتقي بأحد الأشخاص على الطريق يحييه دائما بتحية عامة «أهلا وسهلا»، لأنه ليس متأكدا مما إذا كان التقى به من قبل أم لا. هو يقول «أرى العيون، والأنف، وعظام الخدين، لكنني لا أستطيع رؤية الوجه. بل إنني مررت يوما على ابني وابنتي ولم أستطع التعرف عليهما».
«عمى الوجوه»
* جيمس كوك ليس الوحيد في ذلك؛ حيث إن المصاب بمرض «عمى الوجوه» يمكنه رؤية كل شيء لكن مخه لا يستطيع أن يجمع بين تلك المعلومات التي يحتاجها لكي يفهم أن تلك المجموعة من الملامح تمثل وجه أحد الأشخاص. وعلى الرغم من أن تلك الحالة تعتبر من الألغاز العصبية، فقد حاول بحث جديد إلقاء الضوء على ذلك الداء الغريب.
يبدو أن أحد العوامل الرئيسية في فهم قصة التعرف على الوجوه سيكون من خلال فهم كيفية استطاعة المخ تمييز الأصوات؛ حيث كان بعض العلماء يعتقدون أن الوجوه والأصوات السبيلان الرئيسيان اللذان يتمكن عبرهما الناس من التعرف على بعضهم بعضا، يداران بشكل منفصل من قبل المخ. وبالفعل، هناك حالة موازية لمرض «عمى الوجوه» وهي مرض «عمى الأصوات» الذي يترك الفرد عاجزا عن تمييز الأصوات المألوفة من الأصوات الغريبة.
لكن بدراسة هذين العاملين معا، وجد الباحثون بمعهد «ماكس بلانك» للإدراك البشري وعلوم المخ في ألمانيا مؤخرا دليلا على أن التعرف على الوجوه والأصوات ربما يرتبط بنظام جديد للتعرف على الأشخاص. وباستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي، فحص العلماء نشاط المخ لتسعة عشر متطوعا بكامل صحتهم وهم يقومون بمهام تختبر قدرتهم على التعرف على الوجوه والأصوات. وقد وجد الباحثون أن مناطق المخ ذات الصلة بإدراك الوجوه مثل منطقة الفص القفوي في الفص المؤخري ترتبط مباشرة بالمناطق المسؤولة عن التعرف على الأصوات التي يقع معظمها في الفص الصدغي.
الوجوه والأصوات
* ويساعد ذلك البحث في إيضاح السبب في أن الشخص المصاب بعمى الوجوه ربما يجد صعوبة في التعرف على الشخص حتى وإن بدأ الكلام. وتقول كاثرينا فون كريغستاين، معدة الدراسة، التي تم نشرها في سبتمبر (أيلول) الماضي في «دورية العلوم العصبية»: «إن الأشخاص المصابين بعمى الوجوه لا يمكنهم اكتساب القدرة على إدراك الأصوات والوجوه».
والتحدي الذي يواجه العلماء هو اكتشاف النقطة التي ينهار عندها ذلك النظام. فهل يفقد المخ تلك الصلة تماما، أم أن الناس غير القادرين على التعرف على الوجوه والأصوات هم ببساطة غير قادرين على استخدام تلك الصلات على نحو ما؟.. كما أنه ليس من المعروف عدد الناس المصابين بتلك الحالات؛ نظرا لأن العديد من الناس لا يلحظون أنهم لديهم مشكلة في التعرف على الأصوات والوجوه. كما يصاب بعض الناس بتلك الحالة بعد التعرض لإصابة بالمخ أو صدمة، فيما يصاب البعض الآخر بها منذ الطفولة المبكرة.
بالنسبة للسيد كوك الذي يعيش مع ابنيه البالغين، فإنه اكتشف إصابته بعمى الوجوه بعد إجرائه جراحة بالمخ نظرا لإصابته بحالة مختلفة. وقد وقف ثلاثة من الأطباء عند سريره في المستشفى بعدما أفاق من الجراحة لكي يسألوه كيف يشعر الآن. وكان السيد كوك يعتقد أنه لم يلتق بهم من قبل، ومن ثم كانت استجابته عامة ومحايدة. وبعدما غادر الأطباء، دخلت أمه لكي تطمئن بشأن ما قاله الجراح. وقد اندهش السيد كوك عندما علم أنه كان يتحدث للجراح الذي أجرى له العملية، وقال لها «لم أتعرف عليه».
ثم بعدها عاد إلى المنزل واستمرت الحالة. وبعد ذلك بعدة أشهر، كان لا يزال لا يستطيع التعرف على ابنه، ناهيك عن أصدقاء ابنه الذين كانوا يعاودونه. وقد تحول أصحاب البقالة التي كانت يتعامل معها دائما إلى غرباء.. كذلك وجوه الجيران. وقد تنقل بين اخصائي أمراض عصبية وآخر حتى أدرك أحدهم أنه مصاب بمرض عمى الوجوه كنتاج في الغالب للجراحة. وعلى الرغم من أنه لا يوجد أي علاج للسيد كوك فإن اكتشاف السبب في أنه لم يعد قادرا على التعرف على وجوه أولاده كان يمثل نوعا من الراحة «كان من الطيب أن أعرف أن ما أشعر به حقيقي وليس مجرد شيء في خيالي».
ولكن دوري فريم (51 عاما) من بروكلين كانت أقل يقينا بشأن سبب إصابتها بعمى الوجوه نظرا لأنها لا تتذكر أنها كانت تعاني من مشكلة في التعرف على الوجوه خلال طفولتها. وعلى الرغم من أنها تعرضت لإصابة بالغة بالرأس في عمر السادسة عشرة عندما سقطت من على ظهر حصان، فإنها ليست متأكدة مما إذا كانت تلك الحادثة هي التي أدت إلى إصابتها بتلك المشكلة عند البلوغ أم لا. وتقول السيدة فريم «أستطيع الرؤية تماما. لكن عندما أشيح بوجهي لا أستطيع استرجاع الصور في رأسي».
خطط التكيف
* ولم تكن السيدة فريم تدرك أن لديها مشكلة حتى علمت بشأن إصابتها بعمى الوجوه من خلال إحدى دروس علم النفس التي كانت تحضرها. وعن ذلك تقول السيدة فريم «إنه مثل عمى الألوان. فأنت لا تدرك أنك ترى الألوان على نحو مختلف عن الآخرين إلا عندما يخبرك أحد بذلك».
ويقول براد دوشين، الذي يدرس عمى الوجوه بدارتماوث، إنه بعدما يلقي محاضرة حول عمى الوجوه عادة ما يقترب منه بعض الناس الذين أدركوا للتو أنهم يواجهون صعوبة في استدعاء صور الممثلين أو التعرف على الزملاء في الشارع، مؤكدا «أعتقد أن هناك الكثير من الناس الذين يواجهون صعوبة في ذلك لكنهم لا يدركون». ومن دون علاج فإن المصابين بعمى الوجوه يجب عليهم أن يعتمدوا على استراتيجيات بسيطة للتكيف «إنهم يستخدمون كل الإشارات التي يستخدمها الآخرون لكن بدرجة أكبر».
وعلى سبيل المثال تتذكر السيدة فريم تسريحة أحد الأشخاص وشكل جسمه والطريقة التي يتحرك بها «لكن عندما يحلق زوجي شعره، أستغرق بعض الوقت لكي أعتاد على ذلك».
ولدى السيد كوك استراتيجياته الخاصة، فهو يعرف أنه إذا ما رأى رجلا طويلا وأشقر في المطبخ فإنه في الغالب ابنه. وإذا ما رأى امرأة طويلة وشقراء تنظف المنزل فهي في الغالب ابنته «لكنني أخطئ في التعرف على أصدقائهما» كما يقول.
ولتلك المشكلة عواقب اجتماعية غير متوقعة. فكيف تشرح لكل من تلتقي به أنك ربما لا تستطيع التعرف عليهم لاحقا؟ تقول السيدة فريم «أشعر دائما بالخوف من أن أجعل الآخرين يشعرون بأنهم لا يمثلون أهمية خاصة لي نظرا لأنني لا أستطيع التعرف عليهم».
لقد كان السيد كوك ذات مرة على موعد غرامي مع فتاة ذات شعر أسود تعرف حالته، وعندما استأذنها في الذهاب للحمام وعاد رأى امرأة جميلة ذات شعر بني تجلس وحدها فجلس في مقابلها؛ عندئذ هرعت الفتاة التي كان يخرج بصحبتها إلى الطاولة لكي تخبره بأنه يجلس على الطاولة الخطأ.
لكن السيدة فريم ليست على نفس القدر من الانفتاح بشأن حالتها، فعندما تكون على موعد مع أحدهم تحاول الوصول مبكرا حتى تتعرف صديقتها عليها أولا. لكن السيدة فريم تستطيع مع ذلك التغلب على تلك الصعوبات، رغم أن أزمة الإصابة بعمى الوجوه ما زالت في مقدمة تركيزها «ما زال الأمر غريبا بالنسبة لي. أن تخطئ بين ذاتك وآخر في المرآة وتشعر بالسخافة عندما تدرك أنك أنت الشخص ذاته».
* خدمة «نيويورك تايمز»