[frame="3 10"]حفظ الله بذاته مقام حبيبه صلى الله عليه وسلم بعد أن نوَّه عنه فى محكم آياته عمَّا يتخيله المتأولون وينتحله الجاهلون من زيادة فى ذاته صلى الله عليه وسلم ، حتى قال البوصيرى رضي الله عنه:
دع ما ادعته النصارى فى نبيهم واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم
فلا تقل إنه إلهٌ- حاشالله - ، ولكن قل عبد الله وأضف إليه ماشئت ، فمادمت وصفته بالعبودية لله فانسب إلى ذاته ما شئت من شرف وما شئت من كرم ، لأن كل ذلك من إكرام الله ومن تعطفات الله على عبده ، إذاً .. إذا كان الأمر كذلك لماذا يسوق البعض هذه الحجج؟
هؤلاء هدانا وهداهم! حالهم كحال إبليس ، عندما أمره الله أن يسجد لآدم رفض خوفاً أن يسجد لغير الله ، فخاف على الله ولم يسجد لآدم ، فى حين أن الذى يأمره بالسجود لآدم هو ربُّ العزة عز وجل ، فكلما مدَحَت للناس فى رسول الله أو وصفت رسول الله يدَّعون أنهم خائفين على الله
أعيرونى أفهامكم نحن نتكلم فى حضرة العبودية ، وحضرة العبودية قل ما شئت فيها ، ولا يوجد أحدٌ فى الأولين ولا الآخرين يستطيع أن يصل إلى وصف العبد بالوصف الذى وصفه الله به فى القرآن الكريم ، مهما تكلَّم المتكلمون جميعاً لن يستطيعوا أن يصفوه بما وصفه به القرآن فانظر إلى قول الله فى القرآن: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً} النساء64
{إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} أين يذهبون؟ المفترض أن يذهبوا لله ، لكن الله قال:{ جَآؤُوكَ} لم يقل حتى اذهبوا للكعبة ، لأن المؤمن العادى أعظم عند الله من الكعبة ، فقد قال صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالكعبة: {مَا أَطْيَبَكِ وَمَا أَطْيَبَ رِيحَكِ ، مَا أَعْظَمَكِ وَمَا أَعْظَمَ حُرْمَتَكِ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَحُرْمَةُ المُؤْمِنِ عِنْدَ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ حُرْمَتِكِ: مَالِهِ ودَمِهِ}{1}
ولكن الله قال: {جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} لابد من استغفار الرسول ، ثم بعد ذلك:{لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً} لوجدوا الله بمعانى التواب وبمعانى الرحيم فيك ، لأن معانى الأسماء والصفات تظهر أين ؟ تظهر فى "عبد" فالله جلَّ وتنزه فى ذاته ، لا يستطيع أحدٌ أن يطلع على ذرة من كمالاته إلا إذا ظهرت فى عبيد من عبيد ذاته ، فأسماء الله الحسنى تظهر فى العبد وهو نبينا وإمامنا وحبيبنا وشفيعنا صلى الله عليه وسلم
وخذوا الدليل من كتاب الله وهذه للتمثيل وليس للحصر ، نبدأ منها بقوله سبحانه فى المحكم المنزل فى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} الأنفال24
الله ينادى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} ، لبيك اللهم لبيك ، {اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ} ، الله والرسول ، يكونا اثنين {إِذَا دَعَاكُم} ، من الذى يدعو هنا؟ لم يقل الله (إذا دعاكما) بلفظ المثنى ، ولكن بلفظ المفرد ، من يريد الله ، الرسول ، إذاً الاستجابة لرسول الله هى الاستجابة لله ، هذه واحدة ، وخذوا مثالا آخر
{وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} التوبة62
وهنا أيضاَ {وَاللّهُ وَرَسُولُهُ} اثنان { أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} لم يقل الله (يرضوهما) ، ولكن قال { يُرْضُوهُ} والضمير يعود على أقرب مذكور وهو رسول الله ، إذاً الذى يُرضى رسول الله سوف يُرضى الله
وأيضاً : {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ} النساء80
فطاعة رسول الله هى طاعة الله مباشرة بوضوح كامل
وأيضاً: الفتح10
{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا} لم يقل كأنما ولكن قال: {إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} للتأكيد ، { يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} فقد وضع الأنصار والمهاجرون أيديهم ثم وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده اليمنى فوق أيديهم ، ووضع يده اليسرى وقال: هذه عن عثمان ، لأنه كان غائباً فى مكة
وهنا نتسائل ، يد من التى كانت فوق أيديهم؟ يد رسول الله ، أليس كذلك؟ فلو قال الله (يد الله فوق أيديكم) لكانت هناك يد أخرى فوق أيدى الموجودين بما فيهم رسول الله ، لكنه قال: { يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} فاليد التى كانت فوق أيديهم يد رسول الله صلى الله عليه وسلم والتى وصفها الله بأنها يد الله ، ونحن بذلك لا نُدخل الحبيب فى الألوهية ، ولكن نوضح أن الله أنابه صلى الله عليه وسلم مقام نفسه فى هذه الخصوصية ، فهى نيابة عن حضرة الله
وبعد هذه النماذج القرآنية نقول أن القاعدة الجامعة المانعة عندنا: {العبد عبدٌ وإن علا والربُّ ربٌ وإن تنزَّل} فلن نصف العبد بأنه أصبح رباً ، ولن نصف الربَّ عز وجل حاشاه أنه حلَّ فى عبد ، فلا يوجد أحدٌ فى الأمة سابقاً ولا لاحقاً وقع فى هذه الخطيئة
فنحن جميعاً كما علَّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نقول فى التشهد فى الصلاة: {وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله} كما سبق وألمحنا ، فسبحان من علَّمه فأحسن تعليمه وأدَّبه فأحسن تأديبه وربَّاه فأحسن تربيته
إذاً هذه قضية وقع فيها الشيطان عندما خاف بها على حضرة الله ، وامتنع عن السجود لآدم مع أن الذى أمره هو الله ، وكذلك وقع فيها الجاهلون فى زماننا والأزمان السابقة ، فخافوا على مقام الله ، مع أن الذى عظَّمه وكرَّمه هو الله ، والذى أمرنا بتعظيمه وتكريمه هو الله لا أحد سواه {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} الفتح9
تعزِّروه: أى تساعدوه وتعينوه على تبليغ دعوة الله ، وتوقِّروه: أى تبجِّلوه وتعظِّموه وترفعوا شأنه ومقامه كما وضعه الله ، فلن يستطيع أحدٌ منا أن يصل إلى أقل القليل مما ذكره القرآن فى شأن رفعة مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم
الإمام أبوالعزائم رضي الله عنه لما تكلم عن رسول الله وأفاض فى الكلام عنه قال فى النهاية: {وكلٌ يتكلم على قدره بما شرح الله صدره ، أما كمالات هذا الدُرى المنير الممنوحة من العلى الوهاب ففوق الإدراك والتصوير، وماذا نقول فيمن قال الله فيه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} الأنبياء107
وماذا نقول فيمن قال الله فيه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} سبأ28
ثم قال بعد ذلك:
على قدرى أصوغ لك المديحا ومدحك صاغه ربى صريحا
ومن أنا يا إمام الرسل حتى أوفِّى قدرك السامى شروحا
ولكنى أحبك ملء قلبى فأسعد بالوصال فتىً جريحا
وداوى بالوصال فتىً معنَّى يروم القرب منك ليستريحا
{1} اللفظ لابن ماجه، مصنف الصنعاني والترغيب والترهيب عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، وقال الألبانى في السلسلة الصحيحة رقم : 3420 {هذا وقد كنت ضعفت حديث ابن ماجه هذا في بعض تخريجاتي وتعليقاتي قبل أن يطبع "شعب الإيمان" فلما وقفت على إسناده فيه وتبينت حسنه بادرت إلى تخريجه هنا تبرئة للذمة ونصحاً للأمة داعياً: (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) وبناء عليه؛ ينقل الحديث من "ضعيف الجامع الصغير" و"ضعيف سنن ابن ماجه " إلى صحيحيهما}