الهاجس هو الخاطر الذي يخطر دوماً في بالنا… يجول ويصول في فكرنا… هو جرح فينا على الدوام ينادينا… يستولي اهتمامنا ويجذب انتباهنا… لن يشفى هذا الجرح النفسي ولن ينتهي إلا بمراقبته بوعي… كلما تأملناه أكثر كان شفاؤه أكبر وأكبر…
لا أمل إلا بالتأمّل… وحده يشفينا ويعافينا… التأمّل شفاء من كل داء ولكل داء دواء…
إذا كان عندك أي هوس انتبه لا تسميه هوساً… لأنه في اللحظة التي تسميه فيها تبدأ بتسميمه… بإدانته ومحاكمته…
إذا أدنت أي شيء لن تستطيع أن تدنو منه… لن تستطيع مراقبته لأنك حوّلته إلى عدو تعدو بعيداً عنه…
لا داعي للإدانة، مهما تكن الحالة استقبلها واقبلها كما هي دون إهانة… عندما تتحامل ضدّها لن تصدّها… لن تحوّلها ولن تغيّرها… المحاكمة ليست درب الحكمة… المحاكمة درب الكبت…
بالكبت ينمو الجرح ويتسرطن من حرج إلى حرج أكبر وأكبر… بدلاً من أن تتصدّى له تصادق معه… اقترب منه بحُب، شاهده كما هو، دون حكم أو محاكمة… تعمق فيه أكثر وأكثر… إنه جرحك، جزء من مسيرتك وسريرتك… يبوح لك بشيء من ماضيك… امضي معه، شاهده… وحدك الشاهد على هوسك وهواجسك… ستتفاجأ كلما اهتممت به أكثر كان أذاه أصغر وسيطرته لا تذكر…
استمتع به… هذا الاستمتاع يعني الاستماع بلا نزاع ولا صراع…
الاستمتاع لا يعني أن تجري وراءه وتصبح له من الأتباع… وإلا ستقول لعقلك الوداع… أيضاً بالكبت سيكون عقلك في ضياع…
الحل لا هذا ولا ذاك… لا بالشرق ولا بالغرب… بل بالوسط… لا بإيقافه ولا بمرافقته… بل بمراقبته… حسيب ورقيب… وهذا هو معنى الصليب… الأقرب لك من كل قريب…
عندما تشفى الجروح تتطهر الجوارح… يزول السم، ويذوب الهم… يتحول الغم إلى نغم… والعتمة إلى نعمة…
كل هوس يهمس لنا بمشكلة لدينا… حالما تحلّها ستحرر طاقة كبيرة فينا… كل واحد منا عنده هوس… وبهذا الهوس ندور وننحبس… مجتمعنا كله مهووس، بعض الهواجس يقبلها الناس فلا يسموها هواجس… وبعضها الآخر لا يقبلوها فتسمى هواجس… الذي يسمى هوساً في مجتمع ما يمكن ألا يسمى هوساً في مجتمع آخر… بل شيئاً محترماً مقدساً…
يختلف الهوس من مجتمع إلى آخر… من بلد إلى آخر… من دين إلى آخر… بعض النساك مثلاً تعد الاستحمام هوساً… من يستحم مرة أو مرتين يومياً يعتبر بنظرهم مهووساً… هؤلاء النساك لا يعرفون الاستحمام ولا الاستجمام… حتى أنهم لا ينظفون أسنانهم.. طبعاً هذا هوس… كذلك تنظيف الأسنان 5 أو 6 مرات في اليوم هوس أيضاً…
لن نستطيع مجادلة ولا مجاملة جهل هؤلاء النسّاك مهما كررنا المحاولة… لأنهم سيقولون في الحال: انظر إلى الحيوانات… أسنانها نظيفة جميلة البنيان… بدون أي تنظيف، بدون أي معجون ولا فرشاة أسنان… الطبيعة تهتم بها… فلا داعي للهم والغم والهوس…
بالنسبة إليهم نحن مهتمين كثيراً برائحة جسمنا… مهووسين جداً بأسناننا وأنفاسنا… وهذه مادية دنيوية… بينما هم لا يعرفون سوى الحياة الروحيّة والدينيّة… لكن باستثناء هؤلاء الناس لا يوجد أحد يعتبر تلك الأشياء هوساً من الأساس… الهاجس هو أي شيء يسيطر عليك… يحولك إلى مرؤوس بائس يائس… ويصبح هو السايس…
أي شيء يتربّع على عرش الرياسة والسياسة ويجعلك تحيا التعاسة…
راقب هذا الهوس… هذا الوسواس الخنّاس الذي يوسوس للناس… راقبه بصمت… الصمت هو الدرب السديد لتصبح السيد من جديد… بالصمت نصبح سيد كل حال وكل انفعال… سيد على نفسك… سيد عل هوسك… السيد هو المجاهد… هو الشاهد على كل وافد… دون أن يقول هذا جيد وهذا فاسد…
لا تبعده ولا تتبعه… فقط تابعه… إذا أبعدته ستصاب بالجنون وإذا تبعته ستصاب أيضاً بالجنون… وحده السكون يحررك من هذا الجنون…
مرة من المرات قرر مدير أحد أشهر مشافي الأمراض العقلية الاستقالة من منصبه… بعد عدة سنوات من الخدمة… هذا القرار دفع الصحافة المحليّة لمقابلته حالاً دون انتظار… أخبرنا يا دكتور، ما هي الأخبار؟؟ هل ستعود إلى عملك الخاص أم ماذا ستختار؟؟؟
أجاب الدكتور: يمكن أن أفكر بهذا الخيَار… يمكن أن أعود لعملي الخاص وأحيا باستقرار… ولكن من جهة أخرى يمكن أن أصبح أبريق شاي… قد تكون هذه هي نهاية المسار….
طبعاً بعد أن تحيا فترة طويلة مع المجانين… مع العديد العديد من أباريق الشاي ستصبح مثل هؤلاء المساكين… من عاشر القوم صار منهم…
عندما يكون عندك هدف بأن تكون شيئاً ما فهذا هوس… لا يهم سواء أردت أن تكون رئيس جمهورية، رئيس وزراء، أو أبريق شاي… تتغير الأواني لكن ذات المعاني…
هنالك ناس عندهم هوس يوسوس لهم من الصباح إلى المساء أن يصبحوا رؤساء… هنا الحيرة الكبيرة… ماذا بعد؟؟… كيف سيتابعون المسيرة…
هنالك ناس تريد أن تصبح من الأغنياء… تحقق الثراء… وبعدها تعرف أنها من الأغبياء… الإنسان لديه طاقات هائلة… إذا أصر على شيء سيحققه… لا أحد سيمنعه… يمكننا تحقيق أي نوع من أنواع الحماقة والبلاهة… ولكن ماذا بعد؟؟ بعدها سنجد أنفسنا بكل أسف فارغين… ضائعين… تائهين… بلا هدف…
كل المهووسين عندما تتحقق هواجسهم يشعرون بالضياع… لكن يكون الوقت قد ضاع… إذا كان عندك هوس… تركض وراءه بكل نفس… ستصبح له تابع… وعاجلاً أم آجلاً ستحس أنك ضائع…
سوءا تحقق الهاجس أم لم يتحقق ستشعر بأنك بائس يائس… في الحالتين لن تعرف سوى الخسارة والمرارة…
الطريقة الثانية هي الكبت… تكبت هذا الهوس وتراكمه فيك… حتى لا تراه أمامك… فتظن أنه لم يعد لديك… لكنه سينمو بأعماقك… سيواصل تأثيره عليك… على تصرفاتك وسلوكك…
سيصبح هو السيّد الآمر… وأنت العبد المأمور… متبعاً أوامره… لاحقاً به… منساقاً إليه…
الحل ليس بالكبت ولا بالفلت… لا تحتار… لا تختار أي منهما… هذا هو السر في كل اختبار…
الحل بالوعي… بالتعرّف على هذا الهوس بدون تطرّف… وهذا أفضل تصرّف… تعرّف عليه بصمت… الهاجس هو انعكاس لنفسك أنت… لنفسيتك أنت مهما كنت… شاهده فقط دون أن تسميه… لا تقل هذا صالح وهذا طالح… تصالح معه بدون مصلحة… وشاهد كيف يتحوّل الجرح بالمشاهدة إلى فرح ومرح…
كيف تفتح القعدة وتحل المشكلة… وتتحرر الطاقة متحولة من طاقة محدودة إلى طاقة لا محدودة… من طاقة سلبية إلى طاقة إيجابيّة عجيبة…
هذه هي أعجوبة التأمل… التي تحوّل النار إلى نور… كلنا من نور الله… من النور… إلى النور… بالنور…
رد مع اقتباس
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة qasim wazireah
