شكلت مقاهي شارع الرشيد في بغداد، جانباً من شخصية هذه المدينة، فمنذ افتتاح هذا الشارع في 23 تموز 1916، وازدهاره السريع، تحولت المقاهي المنتشرة على جانبيه إلى منتديات ثقافية شكلت مناخاً أدبياً وثقافياً وفنياً منذ أواخر أربعينيات القرن الماضي، جذبت الأدباء والكتاب والمسرحيين والتشكيليين من بغداد وخارجها.

تلك المقاهي التي كانت جزءاً من نسيج شارع الرشيد، هي مقهى البلدية، وعارف آغا، والزهاوي، وحسن عجمي، والبرلمان، والشابندر، والبرازيلية. وفيها ولدت المحاولات الأولى لتجاوز القصيدة العربية التقليدية، ومن بين جدرانها أعلنت البيانات الشعرية وتكونت الجماعات التشكيلية، وخلف واجهاتها الزجاجية تصاعد الجدل الثقافي ممزوجاً بدخان السجائر ليدفع بالحركة الفكرية والثقافية من خلال الأسماء التي عرفت بالريادة في المشهد الثقافي العراقي والعربي.

شارع الرشيد ومقاهيه، وأزقته، ودور عرضه السينمائي، وحاناته، وملاهيه، وفنادقه، ورواده، وعابروه، يلخص حكاية بغداد، بل وسيتاح له أن يرسم ملامح المدينة والبلد برمته، فهو عين بغداد وناظم نصها التاريخي، كما يقول الناقد «ياسين النصير»، يقدم الصورة بكل تناقضاتها التي يندر أن تجتمع بمكان واحد، جمعها الروائي «غائب طعمة فرمان» بروايته «خمسة أصوات» الصادرة عام 1967، وكذلك فعل الروائي فؤاد التكرلي في روايته «الوجه الآخر» 1957. غير أن دور المقهى مع مطلع السبعينيات بدأ بالتراجع والضمور حتى إذا حل العقدان التاليان «الثمانيني والتسعيني» تحولت المقاهي إلى عيون أمنية ترصد كل همسة، وترقب حركة الداخل والخارج والواقف والجالس والمتحدث والصامت، وتدبج تقارير يومية بالغة الدقة عن كل كبيرة وصغيرة في حياة روادها. كما يذكر الصحفي حسن العاني.


المقاهي الأدبية
عرفت بغداد المقاهي في العهد العثماني، وأقدم الإشارات التي وصلتنا ما ذكره «نظمي زاده» في كتابه «كلشن خلفا» عن إسم أقدم مقهى كان قائماً حتى مطلع القرن العشرين يعود إلى سنة 1590 شيده «جغالزاده سنان باشا» والي بغداد، وكذلك شيد هذا الوالي خاناً مجاوراً للمقهى حمل الاسم الذي عرفه البغداديون بـ «خان جغان»، ومنذ ذلك الحين أصبح هذا المقهى المجاور للمدرسة المستنصرية، مجمعاً للعلماء والأدباء.

ومن الجدير الإشارة إلى ما ورد في رحلة الرحّالة البرتغالي «تكسيرا» عام 1604 الذي قال واصفاً المقاهي المطلة على جانبي دجلة، إن أصحاب المقاهي كانوا يستخدمون الموسيقى لاجتذاب الزبائن. في عام 1882 بلغ عدد مقاهي بغداد 83 مقهىً كما ورد في «سالنامة ولاية بغداد»، وازداد عدد المقاهي إلى 599 مقهى في سنة 1934 كما ورد في جريدة العراق البغدادية.

كان مقهى الزهاوي الذي افتتح عام 1917 أقدم مقهى يجمع النخب الثقافية من وجوه المجتمع وأدبائه في حينه، منهم الشاعر المشهور جميل صدقي الزهاوي، والشاعر معروف الرصافي، وشاعر العراق الكبير محمد مهدي الجواهري وعالم الاجتماع الشهير علي الوردي ومن هذا المقهى كان «الزهاوي» يرد على مقالات عباس محمود العقاد التي تناقلتها الصحافة العراقية والمصرية تحت عنوان المعارك الأدبية في الثلاثينيات، كما شهد هذا المقهى حلقات السجال والمناقشات الطريفة التي انعقدت بين الشاعرين الزهاوي والرصافي وشغلت الناس بأجوائها، وانقسم الجمهور بسببها.
لكن الرصافي لم يلبث أن ترك مقهى الزهاوي، مفضلاً عليه مقهى «عارف آغا» الذي اتخذه مقراً جديداً له، ولمريديه الذين أحاطوا به، ولم يبق الأمر على هذا النحو، إذ جرت بعد سنوات مصالحة بين الشاعرين بحضور أعداد غفيرة من الأدباء والمثقفين والسياسيين.

بعض المصادر تذكر أن بدء الحياة الأدبية للسياب انطلقت من هذا المقهى، عندما بدأ بنشر قصائده الأولى في جريدة الاتحاد.

يقول الشاعر «حسين مردان» في مذكراته التي كتبها حينما جاء من مدينة بعقوبة عام 1947، وكان عمره عشرين عاماً: «الدهشة تشدني من كل جانب حتى وصلت إلى «مقهى الزهاوي» حيث يجلس محمد هادي الدفتري وخضر الطائي وعبد الرحمن البناء. وكانت الزيارات بين أدباء وشعراء المقاهي عادة طريفة تشكل نواة متفجرة للحوار والمصادمات الأدبية».
أما جماعة مقهى «حسن عجمي» فكانت تضم الصحفي المشهور عبد القادر البراك والجواهري وجلال الحنفي وكمال الجبوري وغيرهم. ويذكر حسين مردان علاقته بهذه المجموعة، فيقول: «كنا نحن الأدباء الشباب نعامل كل هؤلاء بتقدير فائق، وكانوا بدورهم يشيدون بنتاجاتنا فيساهمون بدفعنا للتجديد والابتكار، وشيئاً فشيئاً بدأت أصبح نقطة لتجمع أدبي جديد».

يعد مقهى حسن عجمي من أكثر المقاهي شهرة وعراقة، فقد حافظ على حضوره واستمراره عقوداً طويلة، وارتبط إسمه بشارع الرشيد الشهير، وتردد عليه معظم الأدباء والمثقفين، ومن الرواد الذين ارتبط المقهى بهم الشاعر محمد مهدي الجواهري الذي كان يجلس فيه قبيل إلقائه قصائده الوطنية المحرضة إبّان انتفاضة عام 1948، فكانت الجماهير المأخوذة بسحر قصائده وبلاغتها وتأثيرها، تنطلق من جامع الحيدر خانة لتطوف في شارع الرشيد غاضبة منددة بالمعاهدة الجائرة التي وقعتها الحكومة مع بريطانيا.

وفي مقال نشره الناقد «صالح هويدي» في جريدة المدى، يقول: «في الأربعينيات والخمسينيات توافد على هذا المقهى إلى جانب الجواهري، كل من، كمال الجبوري، والسياب، والبياتي، وعبد الأمير الحصيري، وسواهم من وجوه الفكر والأدب والإبداع، يتداولون الرأي ويعقدون حوارات في مختلف شؤون الفكر والثقافة. ولم يتوقف هذا المقهى عن استقطاب الأجيال الأدبية التالية كجيل الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، تلك الأجيال التي شهدت حراكاً ثقافياً أوسع، وتطويراً لآفاق التجربة الإبداعية وتوليداً للاتجاهات والرؤى والمفاهيم الجديدة.

لم يكن مقهى حسن عجمي محطة عابرة في حياة الأدباء العراقيين، بل كان منتدى موّاراً ومسرحاً حقيقياً لذلك الحوار الفاعل والخصب بين المبدعين، فهو المحطة قبل الأخيرة التي وجدوا فيها ملاذهم، قبل أن يهجروه منذ بضع سنوات ويتخذوا من مقهى الشابندر في شارع المتنبي مقراً لهم.

الأدباء بطبيعتهم لا يحبون المكوث طويلاً في مقهى واحد، وكان يصيبهم الملل من كثرة تكرار الوجوه نفسها، أو بسبب توسع دائرة المجموعة وحدوث استقطابات جديدة، ما يضطر بعضهم للانتقال إلى مقهى آخر ومجموعة جديدة، ففي نهاية الأربعينيات انتقل الشاعر حسين مردان إلى مجموعة مقهى البلدية التي كانت تضم، رشيد ياسين، وبلند الحيدري، وزهير أحمد القيسي، وكان شعراء وأدباء الكليات يهرعون إليهم بمجرد الانتهاء من دروسهم، ومن هؤلاء الطلاب، بدر شاكر السياب، وعبد الرزاق عبد الواحد، وأكرم الوتري. فقد كانت تلك المقاهي جامعات حقيقية للأدب والشعر، كما يذكر حسين مردان، ويقول أيضاً: «كنا نعيش في جو من الصداقة الصميمية. فعلبة الدخان التي كان يملكها أحدنا تطرح على الطاولة لتكون مشاعة للجميع، وكان أكثرنا مالاًَ هو الذي يدفع ثمن أكواب الشاي، كذلك كنا نشترك في نظم القصائد وكتابة المقالات النقدية.

يقع هذا المقهى في باب المعظم، مقابل وزارة الدفاع ببغداد، ويذكر «هويدي» عن دور هذا المقهى، فيقول: «شكل في حينها مركزاً من مراكز استقطاب الوجوه الأدبية والثقافية، الخمسينية والستينية، أمثال: الشاعر بدر شاكر السياب، وبلند الحيدري، وعبد الرزاق عبد الواحد، وعبد الأمير الحصيري، وخالد يوسف، وسامي مهدي، وحميد سعيد، وجماعة كركوك «فاضل العزاوي، وفوزي كريم» وغيرهم، ما جعله مظهراً من مظاهر خصوبة حركة الأدب، وضرورة من الضرورات الثقافية، فقد شهد هذا المقهى، ولاسيما في مرحلة الستينيات، وفود أدباء المحافظات إلى بغداد للدرس والإقامة، ومناقشات في الشعر ومشكلاته وقضاياه، والتجديد وملابساته وما ينشر من نتاج في الكتب والصحف والمجلات، إلى جانب كون المقهى مكاناً لخروج الأفكار والاتجاهات الجديدة، ويذكر أن الشاعر عبد الأمير الحصيري كان المركز الذي تلتئم حوله أغلب جلسات المقهى مع أصفيائه وزملائه الستينيين».

أما الناقد مالك المطلبي فيدون ذكرياته عن تلك الفترة، فيقول: «في عام 1959 في بدايات العهد الجمهوري الجديد، كنا نجلس، عادل كاظم، وأحمد المفرجي، وسركون بولص، وشريف الربيعي، وحكمت الدراجي، في حلق مقهى البلدية المضاء إضاءة باهتة بخطوط شمسية تائهة، فكان عادل كاظم يعدنا بعظمة قادمة، وكان سركون بولص كله إشارة إلى حرب تحرير في الضلع العمودي للشعر، وحكمت الدراجي على وشك أن يؤسس حزباً، وأحمد المفرجي ينظر من شرفة. وكان الوجود الأعظم للحصيري وغاراته غير المنتظمة على جمع مقاهي الرشيد أدخلت بعد ذلك في سجل أفعاله الغليظة لتكوّن منه حيوان المقاهي بلا منازع».

وبانتقال حسين مردان إلى مقهى الدفاع، التحق بمجموعته عدد من المثقفين والكتاب وعلى رأسهم المسرحي صفاء مصطفى، وكمال القيسي، والممثل يحيى فائق، وغائب طعمة فرمان، ومصطفى الفكيكي، وفي هذا المقهى بدأ حبهم للشطرنج لتواجد عمالقة اللعبة وأبطالها حينذاك فيه، وفي أجوائها ولدت الشخصيات الحقيقية لرواية «خمسة أصوات» لغائب طعمة فرمان، وفي تلك الفترة وصل جبرا ابراهيم جبرا إلى العراق وانضم إلى جماعة (كافيه سويس) المقهى السويسري، والتي كانت ترتبط بمجموعة حسين مردان أيضاً، الذي لم يكن يهتم بهم كثيراً لما يبدو عليهم من مظاهر الترف البرجوازي، ومن هؤلاء الرسام جواد سليم، ونجيب المانع، وعبد الملك نوري، ونزار الملائكة، ونزار سليم، وكان ساطع عبد الرزاق هو حلقة الوصل بين الجماعتين، وقد استطاع بمساعدة بلند الحيدري سحب حسين مردان إلى ذلك المقهى الأنيق، ولكن إخلاصه الطبقي كما يقول مردان: «كان يدفعني إلى العودة إلى أصدقائي القدماء، كانت جلساتنا الطويلة تبدأ من شروق الشمس ولا تنتهي قبل الساعة الثامنة مساء حيث نتسرب إلى الحانات المجاورة لمنطقة الميدان، الذي كان قلب بغداد النابض حينذاك، والحقيقة أن المقهى كان يعتبر البيت الدائم لكل منا، ومن أشهر الخصومات التي كانت تحدث في هذا المقهى بين السياب وعبد الوهاب البياتي، فقد كان الصراع في حقيقته يدور حول الزعامة الشعرية.

وخلال تواجدهم في هذا المقهى في بداية عام 1948 صدر ديوان بدر شاكر السياب (أزهار ذابلة) وديوان عبد الوهاب البياتي (ملائكة الشيطان) وفي السنة نفسها طبع بلند الحيدري مجموعته (خفقة الطين) وأصدرت نازك الملائكة كذلك ديوانها (شظايا ورماد).

في تلك اللحظة التاريخية وبولادة جيل جديد تمرد على القصيدة العمودية، يقول حسين مردان: «هكذا بدأت حياة المقاهي الكئيبة ترصع سماء الشعر القديمة بنجوم ذات بريق جديد، وقد قوبلت هذه المجموعات الشعرية بشيء من الحماسة من قبل القراء الشباب ومن المثقفين بصورة خاصة، إلا أنها استقبلت بنوع شديد من الحذر من جانب المتزمتين من عباد الثالوث الشعري المتكون من الزهاوي، والرصافي، والجواهري. في الوقت الذي كانت فيه شهرة الزهاوي قد أخذت تميل إلى الاصفرار وخمدت ألسنة اللهب على حافة بركان الرصافي. وبرز الجواهري مرتدياً بردة الزعامة. ولم يكن هناك من يرفض الاعتراف بقيادة الجواهري للحركة الشعرية. فقد كانت قصائده ترن في كل مكان. وعندما صدر ديواني (قصائد عارية) في مطلع عام 1949 وأمرت الحكومة بمصادرته وتقديمي إلى المحاكمة بتهمة إفساد أفكار الشباب وقف الجواهري بصفي مدافعاً».

ولمقهى الشابندر حكايته - يرجع تأسيسه إلى عام 1917 - فقد استقبل منذ العشرينيات والثلاثينيات الصحافيين والأدباء والمحامين والباحثين ووجوه المجتمع، ومن رواده حسين جليل وزير العدلية في العهد الملكي والباحث والمحامي المعروف عباس العزاوي. وفي فترة السنوات الأخيرة احتضن المقهى جمهور المثقفين من أدباء وفنانين وصحافيين من مختلف الأجيال وصار ملتقى لتجمعهم في يوم الجمعة من كل أسبوع، ومسرحاً لمناقشاتهم وحواراتهم المتصلة، وهو المقهى الوحيد الذي حافظ على تقاليده كمقهى ثقافي وما زال بفضل صاحبه «محمد الخشالي» الذي فقد خمسة من أبنائه أثناء حادثة تفجير شارع المتنبي قبل عامين.


مقهى البرازيلية
شكل مقهى البرازيلية العهد الذهبي في الحياة الأدبية والفنية في العراق، إذ أصبح لكل أديب شخصيته الخاصة، وظهرت وجوه أخرى جديدة كالشاعر رشدي العامل، والقاص نزار عباس، ومحمد روزنامجي، والصحفي الكبير عبد المجيد الونداوي، وهناك وخلف الواجهة الزجاجية العريضة وحول منضدة صنعت من أعواد الخيزران كان يجلس الفرسان الأربعة، حسين مردان، وعبد الوهاب البياتي، وكاظم جواد، وعبد الملك نوري، الذين أصبحوا نقطة الارتكاز لكل أطراف الحركة الأدبية في العراق، ومع أنهم كانوا مختلفين من ناحية اتجاهاتهم الأدبية، إلا أنهم شكلوا وحدة متراصة ضد كل بوادر الشعوذة ومحاولات الارتداد، كما يذكر حسين مردان، وفي تلك الفترة انضم إلى هذه المجموعة، كل من سعدي يوسف، ومحمود الخطيب، وماجد العامل، وكان يحضر للبرازيلية أحياناً بعض المفكرين المعروفين كالدكتور فيصل السامر، والأستاذ ابراهيم كبة، والدكتور علي الوردي، وغيرهم، وفي مقهى البرازيلية بالذات نشأت التيارات والأفكار التجديدية في الشعر والأدب.. يذكر أن هذا المقهى كان مسرحاً لبدء مسار الحركة التشكيلية ونهضتها في العراق على أيدي الفنانين الكبيرين جواد سليم، وفائق حسن. ومن أشهر رواد هذا المقهى بلند الحيدري، وفؤاد التكرلي، ونهاد التكرلي، وغائب طعمة فرمان، وفيه أيضاً ولدت فكرة تأسيس اتحاد الأدباء العراقيين عام 1952، ولكن الحكومة التي كانت تتعقب خطوات كل شاعر وأديب، شعرت بخطورة مثل هذا التجمع الأدبي، فأوعزت لعدد من مرتزقة الأدب بتقديم طلب مشابه، وقد أجيز الطلب فعلاً، وفي سنة 1952 ألقي القبض على حسين مردان من قبل البوليس السري، بعد صور ديوانه المثير للجدل، «قصائد عارية» وبعد توقيف طويل في معتقل أبي غريب قدم إلى المجلس العرفي العسكري وحكم عليه بالسجن لمدة سنة، ولما عاد مردان إلى البرازيلية، كان يقول: «الفرسان الثلاثة كعهدي بهم يجلسون خلف الواجهة الزجاجية ويتحدثون عن الحلم المشترك نفسه، وكانوا قد فصلوا من وظائفهم فصاروا يفكرون بالهرب بصورة جدية، وقد حقق ذلك كل من عبد الوهاب البياتي، وكاظم جواد، ولم يبق معي غير عبد الملك نوري، ولم أكن أملك من الوقت ما يكفي لعيادة مقهى البرازيلية لأنني كنت أعمل كمحرر في جريدة الأهالي، ولكني كنت كثيراً ما أفر من الجريدة إلى المقهى، فقد كان الجلوس وراء الزجاج خلف منضدة الخيزران قد وصل بي إلى درجة الإدمان».

أما مقهى البرلمان الذي يقع قبالة جامع الحيدرخانة، فقد دون «ابراهيم الوائلي» جانباً من ذكرياته عنه بقوله: «كان مزدحماً بالمرتادين، كانت الصحف توزع على الراغبين في قراءتها، ثم إعادتها مقابل أجر لا يتجاوز عشرة فلوس، وكان يرتاد المقهى الصحافي عبد القادر البراك، والشاعر بلند الحيدري الذي يسلّم ويجلس وهو يمزج الضحكة الخفيفة بالانفعال والتذمر من فراغ الجيب، ولكنه لا ينسى الحديث في الشعر واللغة، وكثيراً ما يدخل الشاب النحيل بدر شاكر السياب وهو يتهادى في مشيته ويتأبط كتاباً فيجلس ويشارك في الحديث.

وفي مقعد قريب يجلس الشاعر حسين مردان والسيجارة لا تفارق شفتيه وأحاديثه في الشعر والنقد. والشيخ علي البازي شاعر المؤرخين جاء من الكوفة. «نحن في سنة 1959م» والحديث للوائلي: «وهذا بدر شاكر السياب يخرج من المقهى وكنت قادماً إليه فيسلّم وقد امتص المرض دمه وزاده شحوباً على شحوب، قلت: إلى أين بدر؟ فقال: لست أدري، ولعله كان يعاني أزمة تصطرع في أعماقه فلا يدري إلى أية جهة يصير، وسألته ما رأيك في اتحاد الأدباء الجديد؟ فقال: لا أدري فقلت له: أتشارك فيه؟ فقال: ها.. لا أدري، كنت أتمنى أن يحتل بدر مكانه في الاتحاد. ولكن السياب كان ساكتاً لا يدري ما يقول سوى ابتسامة تعبر عن حيرة وشرود فكر، وافترقنا على غير ما اتفاق، ثم غاب بدر وهو يصارع أزمته ومرضه واغتاله الموت بعيداً عن محبيه. وفي السنين القريبة جاء شاب من النجف كان من المأمول أن يكون له شأن في دنيا الشعر وكنت أستمع إليه وهو ينشدني قصائده الرقيقة ويسمع مني الإطراء والثناء ولكنه أخذ يرتاد مقهى الرشيد وقد لعبت به الشمول، ولم ينفع معه النصح فمات وهو شاب، إنه عبد الأمير الحصيري. وبموت الحصيري انتحر مقهى البرلمان وتحول إلى مطعم. وفي هذا المقهى اتخذ الجواهري مكاناً له، وشهد حركة دائبة من الأدباء الذين توافدوا عليه، وخصوصاً من محافظات القطر، فكانوا يتبادلون قصائدهم، ومناقشة هموم الجيل والظواهر الثقافية والحراك الخصب آنذاك.

وثمة أمران تميز بهما هذا المقهى، أولهما: اتخاذه تقليداً أسبوعياً لالتئام الأدباء والفنانين فيه في عطلة الجمعة من كل أسبوع، ولإسهام جيل السبعينيات فيه وحضور صوته الذي بدأ بمنازعة أدباء الستينيات وتجلي مناظراتهم فيه.
لكن هذا المقهى ما لبث أن استقطب أجيالاً أدبية أخرى دخلته وكان لها هامش اجتهاد إبداعي كجيل الثمانينيات والتسعينيات. يقول «مالك المطلبي» عن هذا المقهى: «حفظت التقاليد الأدبية حتى صبيحة انتحاره وكانت الكنبات العشر التي تحتل الشريط الملاصق لشارع الرشيد محرّمة إلا على الأدباء، سامي مهدي، وخالد علي مصطفى، عبد الأمير الحصيري، ويوسف الحيدري، وفوزي كريم، عبد الرحمن مجيد الربيعي، وطراد الكبيسي، وموسى كريدي، وجليل العطية، ومالك المطلبي، وجليل حيدر، ورزاق ابراهيم حسن». ويضيف المطلبي: «كل الأدب الذي يسمى بالتسمية اللانقدية (الستيني) ولد في البرلمان، أهم المشروعات الثقافية خطط لها هناك. البرلمان سيرتنا الذاتية جميعاً. اليوم لم يعد البرلمان إلا اتجاهاً».

في نهاية الستينيات، ظهر مقهى سمي بمقهى «المعقدين» في بداية شارع السعدون، ليس بعيداً عن شارع الرشيد، كان يضم مجموعة من الأدباء المتمردين على السائد في المشهد الثقافي، المتطلعين إلى الاتجاهات الحديثة في الأدب العالمي، كالمسرح الفقير، والمسرح الأسود، والتغريب، فضلاً عما شهدته مناقشاتهم في العبث، والوجود، والعدم، والالتزام، جعلت منهم جيلاً خارجاً على الذائقة التقليدية لعموم الأدباء، كما يذكر صالح هويدي، وهو ما كان وراء سلوكهم الانطوائي وتحفظهم إزاء المجموعات الأدبية الأخرى وإطلاق تسمية المعقدين عليهم، ولعل من أبرز أدباء هذه المجموعة الشاعر عبد الرحمن طهمازي، وشريف الربيعي، وأنور الغساني، وقتيبة عبد الله، والرسام ابراهيم زاير. ويقول عنهم «المطلبي»: كانت تسمية المعقدين العلامة الملائمة على الصراع الأدبي المفتوح وبناء الشخصية التي تقترح الحداثة، لا كإنتاج نصي، بل كمناخ للحياة.

اختفت اليوم المقاهي الثقافية في بغداد واختفى معها روادها الحالمون بالقادم العظيم، وتناثرت ألواحها بعد هبوب رياح الخراب، ليس اليوم، بل منذ سبعينيات القرن الماضي، إن نكسة الثقافة تمنع ظهور أي فكر جديد، فمقهى الزهاوي لا يزال قائماً وحسن عجمي كذلك، لكنهما لم يعودا يضجان بتلك الحيوية، فاتسعا للعابرين، لأدباء لا ينتمون إلى الأدب، وتحول مقهى البرلمان إلى مطعم، والبرازيلية إلى محل تجاري، وأصبح مقهى عارف آغا ورشات حرفية، ونهضت المكتبة الوطنية على أنقاض مقهى البلدية، ووقفت عمارة تجارية مكان مقهى ياسين الذي كان ملتقى للسياسيين والأدباء.
منقول