الدهانة والسويدان وصبابيغ
الطابع الغالب لهذه المحلات ان سكانها خليط من الناس الذين يسيطرون على اسواق الشورجة والتي كانت تقوم وما تزال حتى الان بتجهيزالمواد الغذائية حيث توجد فيها علاوي الطعام والفاكهة وفيها مخازن للعطارين. ونظرا لضيقها فقد انتقل القسم الاكبر من تجار الفاكهة والتمور الى علاوي جديدة في مدينة «جميلة» وهي حسنة التخطيط واسعة يسهل الوصول اليها والتسوق منها بالجملة والمفرد.
الى جانب اسواق الشورجة تقع الاسواق التي تباع فيها الاقمشة والملبوسات وفيها العديد من باعة السجاد الايراني والعراقي كما يوجد فيها العديد من الخياطين. والمحلات المذكورة اعلاه شأنها شأن محلة باب الشيخ فيها معامل شعبية كثيرة يحترف اهلها صناعة الحياكة بمختلف انواعها، كالازر والعباءات والشراشف وفيها المصابغ، هذه الصناعات كانت قائمة الى عهد قريب وقضي عليها بعد الاحتلال البريطاني، بسبب رخص البضائع المستوردة من بريطانيا ومن اليابان. فماتت تلك الصناعات النفيسة لانها صناعات يدوية واليد العاملة مهما كانت رخيصة لاتستطيع ان تزاحم المعامل الميكانيكية التي تنتج بالالوف والملايين من الامتار من الاقمشة الشعبية الرخيصة.
نجد اسماء عائلات كثيرة مشتقة من حرفهم، فعائلة الازري ومنها الشاعر المعروف علاء كاظم الازري حرفتها حياكة الازر، عائلة الجرجفجي حرفتها حياكة الجراجف، عائلة الصباغ ومنها المرحوم صادق الصباغ حرفتها البصم على القماش كذلك المزرقجي وغيرهم.
عائلة بيت العطار
من ابرز العائلات في هذه المنطقة ومن طبقة التجار عائلة العطار السادة الحسنية المعروفة، وهم ابناء عم مع الاسرة الحيدرية في الكاظمية، كذلك اسرة السيد عيسى واسرة آل البير وآل الجواد اسرة آل عطيفة في الكاظمية.
واهل بغداد يطلقون عليهم جملة «السادة جوى الطاق» ذلك لوجود اطواق بارزة في بيوتهم قرب سوق الشورجة حيث تصور البعض ان هذه الاطواق تعبر من دار الى دار اخرى.
وخلال اكثر من مائتي سنة كانت رئاسة التجار والوجهاء في هذه المحلات تكاد تكون منحصرة بين هذه الاسر ولهم اوقاف خيرية في بغداد وفي العتبات المقدسة وخانات للزوار في المحمودية وغيرها.
وكانت لهم مكتبة علمية وادبية في غاية النفاسة وكنت اسمع ان الشيخ رضا الشبيبي رحمه الله يذكر انه سبق وان شاهدها في شبابه وهي عامرة في العهد العثماني، وانه استنسخ منها بعض نفائس المخطوطات، الا انها مع الاسف الشديد تولاها من لم يحسن صيانتها. وانتقلت تلك النفائس الى المتاحف والمكتبات الاوربية، ويقال ان الاب انستاس ماري الكرملي قد استولى بطرق مختلفة على بعض هذه الكنوز بحجة تعويض ما نهب من مكتبته خلال الحرب الاولى، وعن طريق الشراء مع العلم انها موقوفة لاهل العلم لايجوز بيعها.
فقد حدثني من اثق به بان رئاسة التجار كانت معقودة في اواسط القرن التاسع عشر لاحد افراد اسرة بيت العطار السادة الحسنيين. وانه على عادة اهل بغداد انذاك يكون لوجهاء بغداد دار مستقلة ملحقة بدورهم لاستقبال الضيوف وتسمى «الديواخانة» فمساء تنعقد جلسات للتعارف والتحدث بين من يرتاد هذه الدواوين. في احدى المرات اقبل احد التجار مع اصدقاء صاحب الدار على عادته فوجد انصرافا واهمالا من صاحب الدار مما استوجب احساسه بعدم الارتياح اليه، ولما ابدى عتبه واستغرابه لعدم الترحيب به ورد سلامه على الاصول المتعارف عليها، افهمه صاحب الدار ان تاجرا من اهل الموصل قد اشتكى للسيد العطار من سوء معاملة هذا الرجل، الامر الذي ادى بصاحب الدار ان يتثاقل في استقباله والاحتفاء به. فما كان من الزائر الا ان اعتذر وخرج يبحث عن التاجر الموصلي وارضاءه، عندئذ اقبل عليه صاحب الدار وشكره على انصاف التاجر الموصلي الغريب.
الحقيقة هذه لوحة تظهر لنا كيفية تعامل الناس انذاك بعيدا عن نفوذ السلطة وكيف يتوصلون لحل الخصومات، ورد الحقوق وفق اعراف وقواعد ادبية يلتزمون بها حيال الغريب والقريب، هذا في الواقع يدخل من باب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر...
منقول