من إحدى الوسائل المتعبة في تربية الأولاد في أيامنا هذه، هي حصر الطفل وتقييده بنشاطات والعاب معينة، من دون اطلاق العنان لخياله الخصب للعب ما يشاء، فحتى لو أنك لم توفر له العابا فالملل سيحفزه قطعا على ايجادها وهي بنظره ذات قيمة وهدف.
يقول د. ديفيد وايتهيد، أستاذ علم النفس، أن الكثير من الأباء خلال العقد الماضي كان يساورهم لتقيدهم بايجاد (نشاطات والعاب منظمة) لأطفالهم، ليبتعدوا قدر الامكان عن الألعاب التلقائية أو الفوضوية. واستجاب وايتهيد لمسح أظهر بأن 80 بالمئة مِن الاباء يشعرون وكأنهم تحت الضغط لتعبئة اوقات فراغ أطفالهم بالنشاطات والألعاب (المنَظمة) فقط.
لعب فوضوي
يؤكد د. وايتهيد أن تركك لأطفالك يلعبون بمفردهم (أو مع أقرانهم) سيمكنهم من تطوير (قدرات التنظيم الذاتي لديهم)، وهذا بدوره سيؤدي لتحصيل أكاديمي أفضل. (فالأطفال غالبا ما يكون لديهم هدف من العابهم، فالأمر ليس مجرد لعب وعبث فقط).
إنه لأمر غريب، أن يكون مجرد استخفاف (حول لعبهم)، حتى وأن كنت تسعى لتشجيعهم على ذلك. لكن ربما هو السبيل الوحيد للوصول لأهداف الأباء العصريين المتلهفين لتربية أولادهم وفق احدث الطرق: لطمأنتنا أن الذي يبدو لعبا فوضويا وعديم الجدوى هو في حقيقته تمرين لبناء الدماغ.
بالكاد كان د. وايتهيد أول من لاحظ افضلية (اللعب الفوضوي وغير المنظم) في بناء شخصية الطفل. واخذ وايتهيد تجربة الكاتب الصحفي مالكوم جلادويل مثالا على كلامه، فقد بثت له اذاعة البي بي سي وفي برنامج (على أقراص الجزيرة المعزولة) مقتطفات تذكر فيها (جلادويل) طفولته في ضواحي كندا التي كانت مملة وسعيدة في الوقت نفسه.
فلم يكن هناك تلفزيون في بيت جلادويل، ولم كان عنده ما يعمله خارج البيت، لكنه أمضى شوطا كبيرا من طفولته بقراءة الكتب، ورسم خرائط العوالم الخيالية والذهاب خارجا بجولات طويلة على دراجته الهوائية، كان بهذه الطريقة يقتل الكثير من أوقات فراغه، بالمقارنة مع حياة أي فتى آخر بحياتنا المعاصرة، فحياته خالية تماما من أي نشاط يذكر. عندما يستعيد جلادويل ايام طفولته يدرك كم كانت حياته ثمينة وذات قيمة.
اشياء مفيدة
قد يبدو من غير الطبيعي اليوم أن تسمع بأن ثمة اباء يهملون اولادهم ليتركوهم يلعبون بحرية، لكن تذكر أنك حتى لو تركتهم يلعبون لوحدهم، فهم سرعان ما سيجدون العابا تبهجهم، لأن السأم سيدفعهم للتحرك، فهو لا يجعلهم أذكى، بل سيجعلهم أسعد. وسيخلق لهم فراغات، من خلالها يمكن أن تحدث أشياء مفيدة.
في أحد أيام الخريف الماضي، ذهبنا أنا وأختي لمتنزه قريب من بيتنا وأصطحبنا أطفالنا معنا، جلسنا على احدى المسطبات وتركنا الأطفال يلهون مع بعضهم. أرتأينا عدم التدخل في لعب أطفالنا، لكن ماهي سوى برهة قصيرة، حتى أندفع الأولاد بسرعة وبدأوا بالقفز في برك المتنزه.
قفزوا وقفزوا، وبعد ذلك ركل أبن أختي بعضا من ماء البركة الموحل على بقية الأولاد. أنا وأختي كنا مستغرقين عميقا بحديثنا، تجاهلنا مخالفته، فتمادى كثيرا، وبدأ يشكل كرات من الطين ليرشق بها رأس ابني. لهث إبني وكله دهشة من هذه الرشقة المباغتة وأزال الطين عن عينيه، ورمى به ظهر أبن أختي، والأخير بارع في تسمية الألعاب، تصرف بغرور ونفخ صدره الصغير ونادى الأولاد: (دعونا نلعب المدكينز!)
مدكينز!
قواعد لعبة المدكينز بسيطة جدا، مجرد أن تركض بسرعة وترشق بقية الأولاد بكرات الطين الواحدة تلو الأخرى حتى يتجمع الطين عليهم بشكل سميك جداً، لدرجة أننا لم نكن قادرين حتى على تمييز أي منهم، انه العبث واللعب بالمعنى الحرفي. في الواقع، لا شيء يمكنك أن تتعلمه من هذه اللعبة؛ فالكل في وضع لا يحسد عليه، انه محض مرح مثير للأشمئزاز، ومن النوع الذي يمكن أن يحدث فقط عندما يتغاضى الأباء عن لعب اولادهم.
لو اننا إنتباهنا فقط، أنا أختي لهم، لما تركنا الأمر خارج سيطرتنا. لكن ما أن تجمع فريق اولادنا الجماعي الملطخ بالطين في عصر ذلك اليوم، استعدادا لمغادرة المتنزه، مر صبيان قربنا وأبديا اعجابهما واندهاشهما لما حصل، قال أحدهما: (قفوا، اليس ذلك بارداً جداً)، أَتمنى لو كانت أمّي مثلك سيدتي وسمحت لنا باللعب مثلما لعب أولادك. (في تلك اللحظة، أدركت بأن تعليقه قد اتى في محله وأن جلوسنا على المسطبة وأنشغالنا عن ابنائنا جعلهم يستمتعون بتمضية وقتهم ليلعبوا بتلقائية العابا من بنات افكارهم).