كانت تقف عند مدخل كركوك الشمالي في لحظة تريدها راحة في رحلة نزوح ثانية، فقد كانت الاولى من تلعفر الى سنجار ومنها الى كركوك او أطرافها. تقف وحولها صغارها وعين تبحث عن زوجها الذي لم يكن قد نزل من على ظهر الشاحنة التي تنقلهم الى اللامكان.. قالت (حين المطر، كنت وزوجي نمسك قطراتها التي تتسرب من شقوق سقف غرفتنا مخافة ان تبلل الصغار. قررنا ان نبيع كل ما نملكه ونصلح السقف وفعلنا حالمين بشتاء آمن، وجاءت الموجة السوداء وغادرنا السقف وفي زاوية الغرفة لعبة صغيرتي وفي الاخرى همسة حب وابتسامة خجلى). تذكرت كلماتها هذه مع اول قطرة مطر، تراها اين الان؟ في اي (لا مكان)، اذ قال زوجها (لا يهم الى اين تصل بنا الشاحنات، الى خيمة، غرفة او قصر، كلها لا مكان بالنسبة لنا، طالما انها ليست تلك الغرفة التي هيأها لي والدي ليلة عرسي).
النازحون وقصصهم وتلك السيدة التركمانية من قرية بير اوجلي التي فقدت زوجها شهيدا وهو يدافع عن حياة اسرته وجيرانه أدهشتني وهي تقول بتفاؤل (لولا الشر ما عرفنا الخير، ولولا الحزن ما عرفنا الفرح). واكدت انها اجلت حزنها على زوجها لتساعد النازحين من قريتها والقرى الاخرى وقطعا انها خبأت الدموع في زاوية قلب ليوم ستعود به الى بيتها وتصطدم بذكرى حب لتعلن حزنها. كانت مع عشرات العوائل تسكن حسينية غير مكتملة البناء هاجمها انتحاري بسيارة مفخخة ولم اراها بعدها.. قالت (السكن في الهيكل متعب صيفا) وتساءلت (هل ترانا سنعود الى قريتنا قبل الشتاء؟)
الشتاء، حميمية اللحظات الدافئة قرب مدفأة، ابتسامة ام وصغيرها يرفض اكمال واجباته المنزلية متوسلا اليها ان يكملها بصفه في اليوم التالي. الشتاء ومطر يجلب الخير ويبعث على الحلم.. اي حلم لنازح؟ ونازح يسكن وعائلته في صف مدرسة تشير قطعة الدلالة الصغيرة انه (الصف السادس ب)، قال (لم تسمح لي ظروف والدي المالية ان اكمل دراستي، كنت قد نجحت من الخامس الابتدائي وبتفوق وارغمتني الظروف الى مساعدة والدي في الحقل، ها انا في الصف السادس الابتدائي) ويبتسم بوجع ويتركني بدمعة جامدة.
بدأ الشتاء وبدأ الدوام، ومئات الالاف من النازحين ساكني المدارس لا يعرفون اللامكان الذي سيذهبون اليه و(يحسدون) اولئك الذين نجحوا في الحصول على خيمة في مخيم اسس على عجل وتبللت كل موجوداتهم التي لا تتجاوز الفرش بأول مطر..
من المسؤول عن احزان النازحين ومواجعهم؟ اين ذلك المسؤول الذي يتنازل ويمسح دمعة طفل يبكي لأن كرته الصغيرة فجرتها الموجة السوداء ويستمر يحلم بها وقدماه لا تقدران على مقاومة ارضية المخيم الممتلئة بالحصو ودمعة صغيرة تحتضن لعبتها التي فقدت شعرها بسبب سياج ظهر الشاحنة.
اين سيكون هذا اللامكان الذي سيستقر به النازحون الى حين نأمله ان لا يكون بعيدا..
نرمين المفتي