حين سجلتُ ابنتي في أول مدرسة لها في أوربا، تذكرت يومي الأول المرعب في مدرستي الأولى في باب الشيخ ببغداد وكيف أنني قد جربت في أول يوم، أول صفعة لامست خدي الغض دون ذنب. بعدها إنزويت في مقعدي كفأر مخافة إثارة إنتباه المعلم الذي كانت مهمته، حسبما فهمتها آنذاك، البحث عمن يضربه. حين يصرخ أحدهم: أتى المعلم! كنت أفكر قبل كل شيء أن أحداً ما سيُضرب! ضربني المعلم دون أن أعرف للآن لماذا!
عدت لذاكرتي، وأنا أعد الدقائق من بيتنا لمدرسة إبنتي الساعات الثلاث يومياً التي كنت أتعذبها طفلاً لكي أصل المدرسة، عصابات الصبيان التي تنتظر عودتي من المدرسة لكي تسلبني حقيبتي المدرسية، والمطر والبرد والجوع الذي كان يفتك بي نتيجة طول الدوام والطريق البعيدة.. وها هي مدرسة ابنتي الآن:على مسافة ثلاث دقائق.. بناية تحتمي بمجموعة من الأشجار المزهرة، وتحيط بها من جهات ثلاث مياه بحيرة صغيرة يسبح فيها السمك والاوز الأبيض.
إستقبلتنا المديرة عند الباب وبعد مصافحتي جلست على أطراف أصابعها لكي تكون بمستوى قامة الطفلة وصافحتها كما يُصافَح الكبار وبدأت الحديث معها عن المدرسة:
"آه لو تعلمين أية حفلةتنكرية سنقيمها هذااليوم ،لاأحد سيعرفك لأنك ستلبسين جلد نمر.. أو تمساح!" وكنت أنا أراقب عيني الطفلة وهما تتسعان دهشة وهي تقول: "بسرعة الى داخل المدرسة أريد ان أكون نمراً.."
زرت ابنتي بعد ساعتين فرأيت كيف أنها قد توسطت حلقة الصغار لتقص عليهم بثقة وهم بكامل الإنتباه، كيف قضت عطلة الأسبوع!
تعلم الأخلاق من خلال اللعب
تركز المدرسة الأوربية في الأيام الأولى على اللعب كوسيلة لإختلاط الطفل مع أقرانه وتنمية جوانب شخصيته إجتماعياً وتَعلمه أخلاق التعامل مع الآخرين:
الحديث: "لن يقاطعك أحد حين تتحدث لذلك لاتقاطع من يتحدث!"
والملكية: "السندويتشة والعصير اللذان تأتي بهما من بيتكم هما ملكك ولكن الأصباغ والسبورة والكرات الملونة التي تلعب بها هنا هي ملك لك ولغيرك!" "كل ماليس لك يتوجب إرجاعه الى مكانه حين تنتهي منه"
والحوار: "إطرح رأيك وإستمع لآراء الآخرين". "حين تنشأ مشكلة بينك وبين زميلك.. إجلسا وتحاورا قبل أن تأتيا اليّ".
ويتعلم الطفل من الأيام الأولى الحدود التي يتحول الفعل عند تجاوزها الى اعتداء على الغير وهي أولى مبادئ "الوعي الحقوقي". وفي المدارس الابتدائية، تولى علاقة التلميذ مع زملائه الآخرين ومع المعلمين عناية فائقة.وتتابع المدرسة سلوك الطالب من اليوم الأول عن طريق تسجيله في سجل خاص بكل طفل ومن ثم مناقشته مع أولياء أمره لكي يتاح للطرفين الوقوف على أية مشكلة في وقت مبكر.
إحترام الطفل وتنمية شخصيته
يتصرف الأوربيون مع الطفل الصغير باحترام، فترى الكبير يقرفص حين يتحدث مع الطفل لكيلا يتعبه، ولكي يشعره بأنه مثله لا يمتاز عليه بالطول فيخيفه.وعندما يوجه الطفل سؤالاً لكبير لا يُزجر. الأوربيون يقيّمون الطفل الملحاح فهم ينصتون لأسئلته مهما طالت، ولا يقاطعونه ناهرين عند طرحه أسئلته، ولا يؤجلون الإجابة عنها بل ينظرون اليها كدليل حيوية وتفاعل مع العالم الذي يكتشفه الطفل لأول مرة بالطبع وكحاجة ضرورية من حاجات تطوره النفسي والاجتماعي، في حين لا ننتبه نحن في مدارسنا وبيوتنا الى ذلك فالطفل الذي يحدثنا ويمطرنا بأسئلته هو "ثرثار" و"مزعج" بل و"غير مؤدب" فهو يشغلنا نحن الكبار عن تأديتنا لمهامنا الجسيمة التي تغدو أسئلة الأطفال أمامها تافهة.
إنتظام الدوام المدرسي
من اليوم الأول يتعلم الطفل (برضى وسرور) أن مكانه هو المدرسة التي يلعب ويرسم ويتعلم بها. لا يسمح للطالب بالتغيب عن المدرسة دون سبب جوهري. ويعتبر التغيب مخالفة تستوجب الإستهجان، بل وأحياناً المحاكمة. ويسري في هولندا ومعظم دول أوربا عرف اجتماعي هو ادانة رؤية التلاميذ ضمن سن التعليم الاجباري خارج المدارس في وقت الدوام فيشتغل المجتمع برمته مراقباً ما يعني أن التلميذ المتسرب من الدوام سوف يجد صعوبة فائقة في استغلال وقت غيابه عن مدرسته.
حالات المرض والاعاقة
من تجربة اليوم الأول يدرك الطفل أن المدرسة ليست بعبعاً مخيفاً بل مكان مريح لتعلم مهارات ممتعة وفرصة للعب واللقاء مع أقرانه، وكنتيجة لذلك يسري في هولندا ومعظم دول غرب أوربا عرف خاص ينظم التعامل بين الطالب المريض ومؤسسته دون تدخل الطبيب أول الأمر. فالمريض "بغض النظر عن زيارته للطبيب" يقرر هو نفسه (أو أهله) مدى ملاءمة حالته الصحية للدوام وليس الطبيب، ويعود سبب هذا الإجراء الى القناعة بأن تعافي المريض بأسرع وقت هو أهم للمؤسسة والمجتمع عموماً من إجباره على الدوام الشكلي بإنتاجية منخفضة واحتمال انتشار عدوى مرضه للآخرين.
نظام ديموقراطي مصغر
وأخيراً فالمدرسة الأوربية ليست بنظام عسكري مصغر. هناك لايعمل بمبدأ الطاعة والتنفيذ غير المشروط للأوامر. لاوجود لطقوس الجلوس مكتوف اليدين، القيام لتحية المعلم ،الجلوس بعد أن يأذن المعلم بالجلوس، منع الضحك والابتسام "الضحك من دون سبب من قلة الأدب"، لامكان للجدية الصارمة ولا لخلق دور مراقب الصف ولا التشجيع على الوشايات الصغيرة والتدرب على مهمات التجسس!