هذا كلام أردت به تسرية وفائدة لأفراد الأسرة أجمعين..
يجد فيه الأب بعض ما فاته وكثيراً مما ألفهُ. وترتاح إليه ربة البيت بعد عناء يوم عمل، أو وصبٍ من كثير من أشغال المنزل.
وينتفع به الشباب، إناثاً وذكوراً، لأن الحب الشبابُ. ولا أسعد من هذه العاطفة الانسانية لهؤلاء الذين يدخل الحب قلوبهم من دون استئذان، فيحفظونه في تهطال دموعهم، وتهدج أصواتهم، وارتجاف أطرافهم، وشحوب شفاههم.
كان يصف نفسه بأنه: فلاح المطارات.
أما الحب فكان مؤجلاً، مقصياً، ربما لأن انطوان سانت اكزوبري، لم يكن قد التقى الأرملة: كونسويلو، بعد.
كان حراً بما فيه الكفاية، داخل الفضاء السماوي، وفوق الأرض، كما ذلك "الأمير" الهائم في روايته الأثيرة على قلوب الصغار والكبار: "الأمير الصغير".
بيد أن وجوده في الفضاء السماوي منحه نعمة التأمل.
لنرجع إلى كتبه: "طيران الجنوب" و"طيران الليل" و"الطيار الحربي"، سنجد فيها ذلك التوقد الذي يحيي الوحدة والعزلة في الأعالي، بل وذلك الارتباط بالشجاعة الشخصية على الرغم من أنه لم ينظر إلى نفسه كشجاع.
يقول: "أدركت لماذا وضع أفلاطون الشجاعة في آخر الفضائل، لأن فيها قليلاً من الحدة، قليلاً من الخيلاء، كثيراً من التحمل، وشعوراً رياضياً بسيطاً".
لكنه كان يقدس الصداقة: إن أنبل أنواع المحبة هي التي تجمع بين رجلين يطيران فوق الجبال، فوق القمم من أجل ايصال بريد من عالم إلى آخر، ربما كانت بين محتوياته رسالة حب.
ولذلك، دخل سانت اكزوبري، الى قلوب الذين قرأوا رواياته، فأحبوه طياراً باسلاً يدافع عن وطنه الفرنسي إبان الحرب العالمية الثانية، مثلما شغفوا بأخباره وهو يقاتل ضمن "السرب الأممي" إلى جانب الجمهوريين الأسبان ضد "كتائب" الجنرال فرانكو اليمينية.
لكنه لم يكتب في الحب الرومانسي، مع أنه كاتب اخلاقي فريد، لا يجاريه، بل لا يبزه في هذا المضمار، إلا "اندريه جيد" الذي كتب أكزوبري كتابه "القلعة" تأسياً بـ "الأغذية الأرضية" لصاحبها اندريه جيد.
الفراشة تقترب
لكن الحب الرومانسي، كان يقترب منه، واكزوبري -حينذاك- يجلس في العاصمة الارجنتينية: بوينس ايرس، مثلما كانت "الحقيقة" تُعيد طرح نفسها أمام "الأمير الصغير" فوق كل كوكب في هذا الكون الذي يرسم مداراته الأخلاقية طفل يريد له البراءة، كما هو بريء أيضاً.
وفي غضون ذلك، كانت الأرملة: كونسويلو، تقترب منه، كما تقترب الفراشة من الشمعة، ليحدث ذلك الذوبان العجيب، والتماهي الأكثر غرابة، بين النار والروح.
لكنها كانت غير متيقنة من انها سوف تجد لدى اكزوبري ما يمكن ان تحلم به امرأة في سنواتها الثلاثين، امرأة مجربة، حيال رجل أكلته التجارب، وهو ينقل البريد على متن طائرة تجارية بمحرك واحد، متنقلاً بين باريس ومراكش وجبال الانديز.
لقد فقد أحد أصدقائه، في إحدى رحلات طيرانه الليلي، وسقطت بهما الطائرة البدائية، لكنه نجا من الهلاك باعجوبة، ليعود سالماً إلى باريس، ومعه دفتر من المراثي في الأصدقاء الخلّص الذين يموتون قبل أوانهم، بينما هم في ذروة الشوق إلى الامساك بزهرة الحب الأولى التي انغمر فيها "أندريه جيد" كثيراً حتى لقد صار ناسكاً في زي غير النساك.
في السماء العالية
وفي مطعم صاخب بمدينة بوينس آيرس، تقدم رجل صديق للأرملة كونسويلو، وقال لها: "هناك - وأشار إلى رجل جسيم- طيار بارع يريد أن يريك النجوم".
حسبت الأمر مزحة، فوافقت على الفور.
وهو، سانت اكزوبري، لم يكن يمزح: لقد فتنته تلك المرأة الأرجنتينية السمراء. وازداد افتتاناً بها عندما قبلت معه الطيران كما يريده هو.
قال لها قبل بدء الرحلة: إنني أحب النجوم أكثر من أي شيء آخر.
لم تحر السيدة جواباً، بل ربطت حزام الأمان حول جسمها، كأنها ترتبط بهذا المغامر الليلي في رحلة عمر قصيرة، لكنها ملأى بأرقى تجارب الحبّ وتحققاته.
اندفع اكزوبري بالطائرة الصغيرة إلى أعلى، إلى أعلى، إلى أعلى، إلى أعلى، ثم أدارها في وضع أفقي، وأدار وجهه، أيضاً، نحو السيدة كونسويلو، وقال: قبّليني!
صعدت الحمرة إلى وجنتيها من شفتيها، ولم تقبله.
كان انطوان سانت اكزوبري، يدرك الآن، ان لحظته الهاربة قد حان الامساك بها، وان عليه ان يقدم لهذه السيدة السمراء، أجمل وأعظم ما في قلبه: الحب.
شعرت السيدة، الآن، ان محرك الطائرة قد توقف.
مرت لحظات سريعة وقاسية.
قالت: اكزوبري ماذا تفعل؟
قال: أوقفت محرك الطائرة، وسوف نسقط ميتين إذا لم تقبليني!
قبلته في الحال. لكن الطائرة الصغيرة، كانت تنحدر نحو الأرض.
صرخ بها: كونسويلو، هل تقبلين بي زوجاً؟
طوقت عنقه بذراعيها، وقالت له:
-اكزوبري، أحبك!
لحظات سريعة ومباغتة من قبلة أكثر سرعة من السرعة ذاتها، في عمق الفضاء، بينما كان محرك الطائرة يهدر مرة أخرى، ومعه أيضاً يهدر قلبان، وجدا في الحب خلاصهما النهائي.
بعد ذلك بفترة وجيزة، ترملت كونسويلو مرة أخرى، بيد أنها لم تكن مثل أي امرأة أخرى. وهل ذاقت امرأة أخرى حلاوة الحب في الأعالي، تحت النجوم، قبلها؟
في 31-7-1946 اختفت طائرة سانت اكزوبري، ولم يعثر لا عليها ولا على قائدها. لكن "فلاّح المطارات" تحول إلى حارس حقل الحب.
مصرع خاص
حسناً أيتها الرسولة السمراء،
عندما تسد الأبواب في وجهي،
ويدرج اسمي على رأس قائمة المطلوبين،
سأفصد وريدي، نافورة
وبدمي أكتب اسمك على بوابات السماوات السبع
لأنني، ببساطة
ببساطة متناهية
ببساطة متناهية وشديدة
ببساطة متناهية وشديدة جدا
أحبك،
أحبك،
أحبك!
(المجنون)