عندما يتلبس العشق شبح الانتقام || الفصل الثالث
رابط الفصل الاول
http://dorar-aliraq.com/t/433833
رابط الفصل الثاني
http://dorar-aliraq.com/t/433835
الفصل الثالث
*********
كثيرا ما كنت أتمنى إيقاف عقارب الساعة وإعادتها للوراء، ربما لزمن كنتُ فيه طفلتك، أميرتك، مليكتك، ربما لوقت كنتَ أنت فيه عاشقا مخلصا حنونا، في طفولتنا، أو حتى مراهقتنا، ربما قبل حادثة والدك التي قلبت حياتينا رأسا على عقب ودمرت شيئا ما بداخلك بكل قسوة وعنف، أتعلم أنه على الرغم من حبي لوالدي، ورغبتي في سعادته، كنت أنت دوما تحمل رقم واحد، وصفة الأول في حياتي، سعادتك هي ترياق همومي، وألمك قواطع حادة تذبح قلبي ببطء، ها أنا أبتسم، كل لحظة معك نُقِشَت بحبر الوشم داخل ثنايا عقلي، لا يمكن إزالتها إلا والألم يصول ويجول بداخلي، فأكتفي بالاحتفاظ بها لأن محاولة محوها أكثر إيلاما وأشد قساوة، لتتمكن هي مني أكثر وتثير الوجع بين جوانحي كل لحظة .
********
أميرتي، دوما الحزن يقتل شيئا فينا، شيئا أغلى ربما من الحياة نفسها لكننا على الرغم منا تبقى صدورنا تحتفظ بأكسجينها وقلوبنا تضخ دمائها، وفي لحظة تومض ذكرى حلوة لترتسم ابتسامة كسيرة على شفاه اعتادت التهدل لأسفل في وجع، روعتك وبراءتك كانت هي دوما صاحبة تلك البسمة على شفاهي، طيبة قلبك الصغير وحنانك، آسرة لتلك النبضة التي تتفلت من قلبي فجأة لتعلن عن تجدد حبي وعشقي لك يوما بعد يوم، مالكة لتلك اللمعة التي تظهر في عيني عند مرورك على صفحة ذهني الممتلئة بالسواد، أتذكرين "شهد" ؟ ذكرياتنا كثيرة، أغلبها مؤلم بل وقاتل، لكن بعضها يستحق التذكر، يستأهل الاحتفاظ به في أعماق كل خلية في أجسادنا ليبقى دوما سلطانا عليها، في عمر التاسعة، كنت تغارين أكثر، وأنا ابتهاجي بذلك لا حد له، ولا مثيل لمقداره بداخلي ، طفلتي أنت، عمري ضعف عمرك لكن قلبك أضعاف أضعاف قلبي الصغير دوما بين أصابعك، وأنا كنت أبادلك غيرة بغيرة، ابن خالتك، ذلك الفتى المتزلف الأحمق، الذي ظن أنه ولي أمرك، وأنك ستكونين له يوما، كان يصغرني بثلاثة أعوام، ويرى أنه الأفضل بل والأنسب لك، أتذكرُ عندما أصرت خالتك أن تقيمي معها، قالت بالحرف تحادث عمي في حزم :
" نحن أولى بابنة أختي عبد الله، كيف ستعيش معك وأنت وحدك ؟ من سيرعاها ؟ وحتى زوجة أخيك لن تظل مسئولة عنها للأبد، دعها تأتي لتستقر معنا وعندما تكبر بما يكفي تقرر أستعود لتحيا معك أم تستمر في حياتها معنا "
كان العم غاضبا لأقصى درجة، هتف فيها بعصبية :
" ما الذي تقولينه رقية ؟ هل تريدين مني ترك طفلتي لك ؟ وماذا عن ابنك ؟ هل ستعيش معه ؟ طفلتي لن تغادر منزلي وأنا فقط من سيرعاها ولا يهمني كم سيكلفني ذلك من طاقة أو عناء "
تماسكت هي أكثر، كنت أتطلع إليها بدهشة، تبدو قوية حازمة على الرغم من أنني أنا الرجل الشاب أتطلع إلى عمي بنوع من الرهبة، ورثتُ عنه ومنه الكثير، وأكثر ما كان لي منه نصيب هو صرامته وصوته الهادر المخيف حين الغضب، ربما عيناي كذلك لكنني دوما تميزت بالقسوة، سمعتها تقول ما زلزلني من الأعماق وكدت وقتها أقبض على عنقها عاصرا إياها حتى تنتهي أنفاسها :
" حينما يحين الوقت عبد الله ستكون شهد زوجة لولدي، لا تقلق، سأرعاها لآخر لحظة "
كيف جرؤتْ على التفوه بتلك الأحرف مجتمعة ؟ ألا تعلم أنك لي أنا ؟ من ولدها هذا ؟ ذلك المنمق الوسيم الصغير المدلل، الذي لم يعبر مرحلة الطفولة بعد على الرغم من كونه يكاد يماثلني طولا ؟ من تظن نفسها ومن يظن ذلك الصغير نفسه ؟ نهضت وقتها من مقعدي فجأة واقتربت منها قائلا في صرامة وعصبية أنستني حدود اللياقة والتعامل مع الكبار :
" من تتزوج من ؟ شهد لي أنا ومن يحاول الاقتراب منها أول ما سيراه بعدها هو تراب القبر وحساب الملكين "
كلاهما تطلع إلي في ذهول وقتها، أكان كلامي صادما لهذه الدرجة ؟ هل بدوت مخيفا أو مرعبا أو ربما شيطانيا ؟ كانت ملامح العم تكاد تحمل ابتسامة أما ملامح خالتك فكان بعض الرعب يكسوها والذي لم يلبث أن تحول لغضب وهي تهتف في وجهي بحزم :
" كيف جرؤت وليد على التحدث إلي بهذا الشكل أو التحدث عن ابني وتهديدي هكذا ؟ لقد جننت حتما، أتظن نفسك وصيا عليها ؟ "
للحظة شعرت أن ملامحي تكتسي بالنيران وأنها ستمسك في جسدها لا تتركه إلا وقد فارقت الحياة، اقتربت منها أكثر وبصوتي الخافت الصارم همست :
" نعم أنا مجنون في كل ما يخصها خالتي، لذلك لا تفكري فيها أنت أو صغيرك المدلل بهذا الشكل أبدا، وهي لن تترك هذا المنزل ما حييت أنا "
قذفت بقنابلي وهربت تاركا إياها تنفجر في وجهيهما، العم بدا سعيدا أكاد أجزم أني لمحت ابتسامته وأنا ألتفت بسرعة مغادرا المكان، وهي أعتقد كنت لأكون جثة لو كانت عيناها تطلق سهاما أو رصاصا قاتلا، لكنني فقط كنت أطير فرحا وأنا أثبت حقوق ملكيتي لك أمام الجميع بصراحة وجنون ولأول مرة .
********
كنت أراقبك بصمت، بسعادة، أكاد أقفز من الطابق العلوي لأتعلق بعنقك، "وليدي" لقد اعترفتَ أنني لك، كما جزمتُ بها أنا منذ زمن، خالتي المسكينة، ظلتْ تتطلع إلى الباب الذي خرجتَ منه لدقيقة أو ربما يزيد ثم عادت تلتفت لأبي هاتفة في صدمة :
" عبد الله، أسمعت هذا ؟ تلك الفتاة ليست آمنة هنا ؟ الفتى مجنون ماذا لو آذاها ؟ "
وجدت ابتسامة تعلو شفتي أبي فاستكان قلبي، كان رده قاطعا :
" هو فقط عاشق رقية، لا تقلقي، صغيرتي بأمان وخاصة لأنه هو هنا "
التقطت كلماته وعدت لغرفتي آمنة مطمئنة، وابتسامة حب تعلو شفتي، ربما كنت فقط مجرد طفلة، لكن قلبي كان كقلب أنثى مكتملة وقد تشبع بالعشق .
********
وأيام أخرى تمر أميرتي، عشقي لك في نمو مستمر بدون حتى قطرة ماء، فقط رؤياك تحييه وتزيده يوما بعد يوم، وغيرتي عليك تكاد تقتلني في كل لحظة، ها أنت الآن في الحادية عشرة، جميلة، على عتبات الأنوثة، شعرك الثائر دوما يثير الخيال، وتلك الشفاه الرطبة عندما تنفرج في ابتسامة تزلزل قلبي في كل مرة، عيناك ورحيق العسل الذي يصب فيهما صبَّا، وصوتك الذي بدأت تختفي حدته تدريجيا ليكتسب نعومة الأنثى، أما غيرتك أنت فلي أن أتحدث عنها ولا حرج، كم كانت تسعدني وتشعرني بالنشوة، بل تشعرني برجولتي، بالزهو والغرور، لأنها صادرة منك أنت طفلتي، قد أبتسم الآن متذكرا ذلك اليوم في جامعتي، عندما كنت أتحدث أمامها مع بعض زملائي، ورحلوا لتبقى معي غريمة طفولتك "أروى" كانت تحادثني في أمر لم أنتبه له جيدا فقد كنت متعجلا أريد الرحيل لأشبع عيني منك، نعم كنت أعجبها أو فلنقل كانت تحبني، لكنها لم تكن تعلم أن قلبي من ممتلكات أخرى لازالت تخطو أولى خطواتها بعيدا عن مهد الطفولة، فجأة وبدون مقدمات وجدتك حائلا بيني وبينها، عيناك تشتعلان بالنيران وشفتيك مزمومتان في غضب، ابتسمت لك، ابتسامة أنت فقط تعلمين معناها، همست برفق :
" مرحبا شهد، ما الذي أتى بك إلى هنا ؟ "
بصوت خرج من بين أسنانك التي كادت تتكسر بسبب ضغطك عليها :
" كنت مارة من هنا، وقررت أن آتي إليك لنعود للمنزل سويا، أخبرتني أن محاضراتك ستنتهي في موعد عودتي اليوم، ما رأيك ؟ "
ما زالت ابتسامة عشقي تكلل شفتي، كان ردي :
" بالطبع، فلنعد معا "
ثم رفعت عيني لزميلتي بابتسامة هزيلة قائلا :
" عذرا أروى سأعود مع شهد الآن، لنتحدث لاحقا "
مع ابتسامة انتصار ونظرة ظافرة سرتِ إلى جواري وأنت تؤكدين أن صك ملكيتي ما زال وسيظل أبدا بحوزتك أنت صغيرتي .
********
لم أكن أتعمد أبدا "شهد" إثارة غيرتك، لكنك كنت تفعلين، ومع من ؟ أكثر من كنت أعلم أنه وأمه ينتظرون إشارة من والدك لتملكك، ابن خالتك السخيف " كريم" ، ذلك الفتى الرقيع الذي يماثلني طولا على الرغم من فارق السن بيننا، كان وسيما أعلم، يحبك ! أبله من لا يرى ذلك، كنتِ طفلة مشاغبة مثيرة للجنون وجنونك استحوذ على قلوب الكثيرين ، بعد حادثة "أروى" بأشهر قليلة جئت لمنزلك لأراك، كنت سعيدا للغاية فنتيجة تعب العام كله قد ظهرت وكُلِّلَت بالنجاح، بقي عام واحد طفلتي لأتخرج وأعمل مع والدي وعمي وبعدها فقط بأعوام أخرى ستكون هي الأطول تصبحين زوجتي، وهنا رأيتك، تقفين معه على عتبة المنزل، تبتسمين في سعادة بل وتضحكين في مرح، والتافه تمتلئ عيناه بالعشق، كيف واتتك الجرأة لتفعلي ذلك ؟ في لحظات كنت أمامكما محاولا التماسك قدر استطاعتي، انقلبت ابتسامتك لقليل من التوجس والرهبة في حين بدا عليه هو الضيق والغضب، هتفت فيك حانقا :
" ماذا تفعلين بوقوفك هكذا شهد ؟ يمكنكما الحديث بالداخل إن أردتما لكن ليس أمام الجميع بهذا الشكل الفج "
عقدتِ حاجبيك في غضب طفلتي، كان ردك باردا على الرغم من توجسك :
" وما دخلك وليد ؟ لم أمنعك من اصطحاب صديقاتك أو الوقوف معهن أمام منزلك، وكريم ليس صديقي، إنه ابن خالتي العزيزة، والكل يعلم ذلك "
تدخل الأحمق جانيا على نفسه :
" أنت يا هذا لمَ لا تحتفظ برأيك لنفسك، لستَ وليّ أمرها "
التفتُ أنا إليه بغضب وما أتذكره بعدها أن قميصه كان في قبضتي في حين تعانق قبضتي الأخرى أنفه ثم تنتقل لفكه فمعدته ليسقط عند قدمي أرضا متأوهاً والدم يغمر وجهه، لم ألتفت إليه للحظة، فقط كانت أصابعك الصغيرة في قبضتي أكاد أحطمها وأنا أجرك جرا إلى منزلك وأدفعك داخله بعنف حريصا ألا تكون دفعتي من القوة بحيث تؤذيك أو تسقطك أرضا، ثم انطلقت كإعصار مغادرا المكان وأنا أهتف في حزم غاضب في وجهه :
" إياك أن تفكر فيها يا فتى، أو تتحدث معي بهذه الطريقة مرة أخرى، أو دعني أخبرك شيئا أفضل، لا تُرني وجهك مجددا "
وغادرت المكان كثور هائج دافعا بقدمي كل ما صادفَتْه في طريقها .
********
يومها "وليدي" كدت أموت فزعا ورعبا، كاد يتوقف قلبي قلقا وخوفا عليك، أتصدق أنني لم أهتم لأمر "كريم" ومدى الإيذاء الذي يمكن أن تلحقه به، فقط كنت مرتعبة أن تتمادى وتؤذيه بشدة فينقلب الأمر عليك أنت، سعيدة أنا ؟ نعم بل وأكاد أطير من السعادة، دفعتني للداخل فانطلقت للنافذة أطل منها لأرى ما ستفعله، وجدتك تقف أمامه صارخا بكلمات لم أتبينها ثم خرجت من المكان كعاصفة تطيح بكل شيء أمامها، تنهدت بارتياح وعدت لغرفتي أفكر بك وأحلق معك في سماء أحلامي غير عابئة بالصغير النازف أمام بابي .
********
في نفس اليوم ليلا أتت خالتك، ثائرة، هائجة، لن أترك حق ابني، وستكون عقوبتك وخيمة "وليد"، ابتسمت عندما رأيته، لكمتين فقط وتَشَوَه وجهه الفاتن، يالا البائس الصغير، اختبأت أنت في حجرتك وجلستْ هي مع والدي وعمي وأمي بحضوري أنا والمدلل، كان ينظر إلي بغضب قابلته بلا مبالاة وابتسامة ساخرة تزين شفتي، في صفي كان الجميع حتى والدك، عمي، ولم أدري لمَ ؟ فقط والدي أنا نهرني بعض الشيء واعتذر منها ومنه، طلب مني الاعتذار فهببت واقفا بعنف جعله ينتفض في مقعده، واتسعت ابتسامتي الساخرة، اتجهت نحوه وانحنيت قليلا هامسا :
" لا تقربها ثانية، ويمكنني أن أضمن لك ألا أؤذيك "
تركته يحدق في بصدمة وغادرت المكان، كان الفتى يمتلك مقدارا رائعا من الجبن منعه عنك بالفعل وكم أراحني هذا، حتى رآك صديقي عندنا في منزلي، وجدته فجأة يتطلع إليك وإلى جسدك الصغير، كنت مجرد طفلة لكنه فقط فتى أرعن لا يعلم ما هو مقدم عليه، أطلق صفيرا خافتا وأشار إليك بطريقة فجة هامسا لي ولم أكن قد رأيتك بعد :
" من تلك الفاتنة الصغيرة وليد ؟ "
عقدت حاجبي في دهشة و أنا ألتفت خلفي لأجدك، بعدها تفجر بركان الغضب بداخلي ثانية وانهمرت حممه من عيني وأنا أدير وجهه نحوي بقسوة هاتفا :
" وما شأنك بها ؟ إنها مجرد طفلة "
عاد يعاندني هامسا وهو ينظر نحوك ثانية :
" طفلة ؟ حقا ؟ كم عمرها بالضبط ؟ وحتى إن كانت صغيرة، فبعد عامين أو ثلاثة ستصبح أنثى مكتملة النضوج "
لم أدر ما حدث بعدها لكنني كنت أدفعه خارج منزلي بعنف، وقطعت علاقتي به نهائيا بعدها والوغد لم يفهم لمَ، يومها أنت أيضا لم تفهمي سر غضبي وأنت تقفين أمامي وأنأ أصرخ في وجهك :
" لا تخرجي هكذا ثانية شهد، عودي لمنزلك، لم تعودي طفلة "
تطلعت لنفسك يومها في دهشة ولمحت لؤلؤة تسقط من عينيك وأنت تهرولين من أمامي في حزن .
********
آذيتني يومها "وليد"، كنت آتية إليك أرغب في استشارتك في أمر ما يخصني ويهمني رأيك فيه بشدة، لكنك فقط أحبطتني وأخفتني وتركتني أهرب من أمامك باكية في سرعة، أحيانا تكون غيرتك قاسية "وليدي"، دوما أبرر لنفسي ذلك بأنك تعشقني، وكلمة عشق عندما تذكر مع اسمك في جملة واحدة كانت تنسيني هموم العالم وجُل مآسيه، قررت أن ألغي أمر استشارتي وأنفذ ما أراه صحيحا وأفاجئك به فأنت لم تمنحني الفرصة لأَخْذِ رأيك أو اطلاعك على ما أنتويه، وبالفعل في اليوم التالي قررت ونفذت وحان وقت مواجهتك، كنت قلقة بعض الشيء لكنني كذلك كنت أعلم أنني أقوم بما هو صواب خاصة مع تشجيع والدي الحبيب لي، أنهيت ما أقوم به واتجهت لمنزلك بخطوات مترددة لأجدك في الحديقة تقرأ أحد كتبك بإمعان ولا تشعر بشيء حولك، وقفت أمامك لثوان دون أن تشعر بوجودي ثم خرج صوتي متحشرجا وأنا أحدثك، كم كانت النظرة على وجهك تساوي كنوز العالم حبيبي، يومها تضاعفت سعادتي كالمعتاد، فكلما أرافقك أو أقترب منك أو تكون راضيا عني، لا يهمني أي شيء آخر في اتساع هذا الكون .