|| عندما يتلبس العشق شبح الانتقام || الفصل الثاني
رابط الفصل الاول
http://dorar-aliraq.com/t/433833
الفصل الثاني
===========
بعض ذكرياتنا "وليد" تحمل لنا في حناياها نبضة قلب مختلفة، ربما نبضت لأول مرة حينها، ومنذ ذلك الوقت وهي عالقة بين أجفاننا ولا تضيع صورتها أبدا، عندما كنت في السادسة، كانت تلك الذكرى، وتلك النبضة، متفردة هي كألماسة سوداء نادرة، وغالية للغاية، هل تذكرها معي حبيبي ؟ عندما أصر والدي على تعليمي السباحة، وكنتُ أجبن من مجرد التفكير في الأمر، تعالى بكائي وبدأت في الصراخ، وانهمرت دموعي بشدة، حتى خرجت أنت فجأة من المسبح تاركا هوايتك الأثيرة فقط لتكون إلى جواري، جففت نفسك ووقفت أمامي مادا يديك لأترك أنا الجميع وأختفي بين ذراعيك، باكية، حزينة، قلقة، خائفة، وأتت همستك لتعيدني لبر الأمان وتهدئ من روعي :
" لا تخافي شهد، أنا معك، ولن أتركك أبدا "
ووثقت بك، ومن تلك اللحظة وأنا أفعل، ومن يومها وأنا أسبح كسمكة تسكن المحيط منذ ولادتها، لأنك فقط، رافقتني .
********
علمتك السباحة صغيرتي عندما كنت في السادسة، وأنا الوحيد الذي استطاع إقناعك بالاقتراب من الماء، هتف بي عمي وقتها :
" وليد، شهد ترفض النزول للماء، لم لا تحاول مساعدتها ؟ "
تركت ما كنت أفعله، كنت أتسابق مع صديق لي، لكن عندما ذُكِر اسمك، وحاجتك إليّ، تركت ما بيدي وفي لحظة وقفت أمامك لأجدك باكية بين ذراعي طفلتي، ترفضين تعلم السباحة أو حتى لمس الماء، وعدتك بأنني سأكون إلى جوارك ولن أترك أي شيء يؤذيك، وصدقتني، وأتيتِ معي، طوال الوقت أحملك على ظهري وتطوقين عنقي بذراعيك الصغيرتين في خوف، وبعد لحظات حملتك أمامي وأنت تضربين الماء بكفيك في سعادة، نعم "شهد"، في غضون دقائق ولأنني معك، تعلمتِ، وانقلبت مشاعرك للنقيض، وكم كان يبهجني ذلك ويثير في نفسي شيء من الغرور بأميرتي المدللة .
********
"وليد"، أتذكر أول هدية أهديتك إياها ؟ كنتُ في السابعة حينئذ، كنتَ أنت شابا يافعا وسيما، أشعر أمامك كأنك عملاق طويل وأنا قزم صغير، أخجل منك بشدة، يومها طلبتُ من والدي أن يأتيني بك في الحال، ولأنني أميرته فقد لبَّى هو ولبيت أنت طلبي في ثوان، لعبتُ يومها ومرحتُ كثيرا وحان وقت الهدية، لم أدري كيف أقدمها لك أو أقنعك بمشاركتي العمل عليها، وببساطة طلبت منك وببساطة أكبر وبدون أن تفهم أطعتني كما تفعل دوما، وبعدما انتهيت رحلتْ وأنا خلفك راكضة ألاحق خطوات ساقيك الطويلتين بصعوبة لأهديك إياها، تلك الابتسامة الحلوة التي ارتسمت على شفتيك عندما ناولتك أزهاري وسيارتي المفضلة أخْجَلَتْنِي أكثر، وقبلتك الصغيرة على وجنتي أذابتني خجلا، يومها آذيت نفسي وأنا أركض من أمامك ويومها أحببتك أكثر وأنا أرى اللهفة في عينيك والقلق يغزو ملامحك لجرحي الصغير، أعدت لك قبلتك الرقيقة في خجل أكبر ثم انطلقت هاربة وعيناك تلاحقني وعلى شفتيك ابتسامة حب .
********
عندما كنتِ في السابعة من عمرك، كنتِ فاتنة "شهد"، بريئة، ملائكية الطلة، بجديلتين قصيرتين في لون الكستناء وغمازتين مشهيتين، لمعة عينيك بلون العسل في ضوء الشمس، وابتسامتك تنفرج عن سِنَّة مفقودة زادتك براءة، كنتُ أكبرك بتسع سنوات، فارقا جعلني في عمق مراهقتي بينما أنت في بِرْكَة طفولتك تسبحين، و تحبين لعبي معك ومشاغبتي لك، تجبرين العم أن يأخذني من بين كتبي لآتي راكضا لمنزلك المجاور لمنزلي، يمازحني :
" هيا وليد العب مع شهد، أميرتنا أمرت أيها الفارس "
وكنت أستجيب لأميرتي الصغيرة، أحملها وألف بها فتصل ضحكتها للغيوم، تمحو رماديتها وتحولها لسحب قطنية في قصة أطفال، كنت تعشقين السيارات، وألعابك كلها صبيانية غريبة، يومها أحضرتِ سيارة كبيرة وأمرتني :
" هيا وليد لنملأها بالزهور من حديقتنا "
لم أفهم سر طلبك وقتها، لكن عندما عدت لمنزلي ووجدتك تلحقين بي بسرعة محاولة لف شريطة ملونة رقيقة على اللعبة المحملة بالأزهار فهمت، كانت هديتك الأولى لي، تناولتها منك بسعادة وطبعت قبلة على وجنتك، ضحكتُ بعدها بشدة وأنا أرى احمرار وجهك خجلا طفلتي، انطلقت تركضين وخجلك يتضاعف وأنا أقف حاملا هديتك ومتطلعا إليك، التفتِ إليّ بسرعة لأبتسم لك وفي اللحظة التالية كنت على الأرض متعثرة في أحد قراميد رصيف الحديقة، هُرعت نحوك وقلبي ينتفض لهفة، آذيت ركبتك وقدمك، سالت دماؤك وكنت تبكين في صمت، كما اعتدت منك صغيرتي، كل ألمك وحزنك ودموعك في سكون، حملتك بين يدي وعدت مسرعا لمنزلي، وضعتكِ على أريكتي المفضلة وربتُّ على رأسك بحنان، ثم انطلقت لأبحث عن شيء أُسعفُكِ به، وبعدما انتهيت من ربط ضمادة ركبتك ورفعت رأسي إليك، رأيت ابتسامتك اللطيفة الخجول، وبسرعة طبعتي قبلة على وجنتي وانطلقت خارجة من المنزل وعيناي تتابعك في وَجْد انحفر بداخلي حتى هذه اللحظة .
********
أكره العودة بالزمن، أمقت استعادة الذكريات، فكل ذكرى نسجْتُهَا في عقلك مؤخرا، محتْ باحتراف ذكريات البراءة ولمحات العشق القديم، زرعَتْ مكانها أشجار الوجع لتمتد جذورها حتى البداية مبعثرة سمومها في تربة قلبك الصغير، ومع ذلك في أحايين كثيرة ترتسم على شفتي ابتسامة حنين عندما يطوف بعضها بخيالي، فأستمتع بطيفها وأحلق معها مستعيدا بعض نبض كان قد تاه مني في زخمة قسوة تغلغلت في الشغاف حتى فتكت بها، دوما كنتِ طفلة صغيرتي، حتى بعد العشرين واكتمال أنوثتك ظللتِ طفلة، بريئة، شقية، تبثين عطفك على الجميع، وأنت ابنة الثمان من العمر كنتِ منطلقة بشدة، ومعي كنت أشعر أنك مختلفة، تتصرفين كالكبار أحيانا، وأحيانا أخرى كطفلة مدللة متملكة مغرورة، كان الشتاء قد حل والبرودة القارصة بدأت تتسرب للعظام، وبدأ العام الدراسي، عامك الثالث في مدرستك الصغيرة الراقية، وعامي الأول في جامعتي، صممتِ أول يوم أن أصحبك بنفسي دون والدك أو والدي أو حتى والدتي، وأمام زميلاتك عرفتني بكل غرور وتملك يطغى على صوتك الطفولي الحاد "وليد، خطيبي" ، يومها لم أتمالك نفسي، فقط حبست ضحكاتي حتى ابتعدت عنكِ، لأنني لو أطلقتها أمامك طفلتي لكنتُ جثة هامدة بعدها بلحظات، نعم أعلم جموحك وبراءتك المختلطة بشيء من نزعة السيطرة على الرغم من سنوات عمرك القليلة، ضحكت زميلاتك كثيرا وكن يعلمن أن هذا سيغيظك، ولأنني أعلم بركان غضبك جيدا عندما يبدأ في الثورة وصب حممه فقد وضعت ذراعي حول كتفيك وانحنيت مقبلا رأسك بحنان قائلا في حب لم يكن مصطنعا بالتأكيد :
" حسنا مخطوبتي، ها قد أوصلتك لمدرستك كما أمرتِ أميرتي المدللة، سأعود للمنزل الآن وعند موعد انصرافك ستجدينني بالانتظار طوع أمرك "
ثم انطلقت مبتعدا مفرغا ضحكاتي التي كادت تحبس أنفاسي بصدري والذهول مرتسم على وجه صديقاتك الصغيرات ممتزجا بالزهو و التفاخر على وجهك مليكتي .
********
يومها أخبرتهن بأنني أقتني صك ملكيتي لك، أنت خاطبي، وستكون زوجي، سخرن مني، لكنك قبلت رأسي وودعتني مناديا إياي بمخطوبتي وأميرتي، علت الصدمة وجوههن فكانت مدعاة لفخري و ماءا يرتوي به غروري، بعد ذهابك أقبلن يسألنني بلهفة :
"من هو ؟"
"كيف تعرفت عليه ؟"
"إنه رائع"
"أليس كبيرا قليلا شهد"
"بل كبير كثيرا"
"ربما لكن مع الحب، لا قلق بشأن العمر"
" لقد نادها أميرتي، كان هذا رومانسيا "
" أحسدك شهد "
وبلهفتهن زاد فخري ونبتت زهرة غروري يانعة، وكأنني لم أكن معهن تركتهن في خضم تساؤلاتهن وانصرفت أحلق في خيالي معك، كنت مغتاظة منك للغاية وبعد انتهاء اليوم وجدتك بانتظاري، حان وقت إفراغ غضبي في وجهك عزيزي، كانت الابتسامة تملأ وجهك وتزيدك وسامة فخفتت حدة غضبي فجأة لأبادلك إياها، مددت يدك إلي فلم أناولك يدي، ستستشعر الآن غضبي وتحاول استرضائي كما اعتدت منك، نظراتك المندهشة وعدم الفهم المرتسم على ملامحك أسعداني، فها أنا على الرغم من فارق السن بيننا أسبب لك الارتباك، سألتني يومها في قلق :
" شهد ! ما بك ؟ هل أغضبتك في شيء ؟ "
سرت أمامك لعدة خطوات ثم عدت ألتفت إليك وأقترب منك، كان ردي حانقا غاضبا وقتها :
" إياك أن تقبلني ثانية أو تحيطني بذراعك وليد، نحن لم نتزوج بعد لتفعل ذلك، مازلنا في مرحلة الخطبة "
والدهشة بعدها على ملامحك أصبحت تقاس بالوزن، كدت تضحك مني يومها وتبدي سخريتك، كيف لطفلة صغيرة مجنونة مثلي أن تخطبك وتمنعك من لمسها بل وتتشاجر معك لأجل ذلك ؟ كنت منتشيه للغاية بتسلطي وتعنيفي لك، مبتهجة بصمتك وتطلعك المذهول لي، تقدمت إلى السيارة وجلست في انتظارك وأنت تنظر إلي وابتسامة ساحرة تعلو شفتيك، تلك الابتسامة لا زالت محفورة بذاكرتي حتى اليوم "وليدي" .
********
صراخك في وجهي نفض قلبي بعنف يومها "شهد"، كأنني أخطأت وارتكبت جرما بالفعل، بعدها كان قراري أنك أنثاي، أنك ثمرة لم تنضج بعد ولا يصح لمسها، بل حتى لا يجوز النظر إليها حتى يحين وقت قطافها، ثمان سنوات صغيرتي وأنا الشاب اليافع كنت أمامك كطفل اعترف بذنبه في سكون، ابتسامتي كانت انعكاسا بسيطا لمشاعري وقتها، وانعكاسا لمستقبل تمنيته معك .
********
أتعلم "وليدي" ؟ بعضنا إن لم يكن جميعنا لا نشعر بمدى أهمية بعض الأشخاص أو الأشياء في عالمنا إلا بعد فقدها، عندما أمرتك بعدم لمسي، كنت أشعر بأنني بالفعل مخطوبتك، كبيرة بما يكفي لأمنعك، لست طفلة أنا ومن يعتقد أنني كذلك كان فقط يثير جنوني وينمي بداخلي حنقي تجاهه، حتى بدأت ألاحظ ابتعادك، لم تعد تزورني كثيرا لتلعب معي كالمعتاد، أو حتى توصلني لمدرستي و تركت المهمة لسائق أبي أو أبي بنفسه، كنت مغتاظة غاضبة على الدوام، وحزينة للغاية، ترى هل أغضبتك ؟ لمَ لم تعد تهتم بي وباحتياجاتي كما عودتني ؟ و قبل مرور الشهر رأيتك تقف معها، تلك الملونة الشقراء وهي تنظر إليك في دلال وأنت تبتسم لها، هذه ابتسامتي كيف تمنحها لغيري ؟ أمرت السائق بسرعة أن يوقف السيارة وترجلت منها بجنون قبل أن تتوقف تماما، وفي لحظة كنت أقف أمامكما، منحتني ابتسامة صغيرة ولم تحاول لمسي فقط قلت :
" أهلا صغيرتي، كيف حالك ؟ "
لم أكن لأهتم بالرد على سؤالك وأنا أتأمل تلك الطويلة الفاتنة التي تحادثك، بالكاد أصل أنا أسفل كتفيها بمسافة على الرغم من أنني لست قصيرة القامة أبدا، تأملتها ببطء وهي تتطلع إليّ بدهشة بدت توأمتها تتجسد على ملامحك وأنت تراقبني بحذر، كنت تخشى جنوني، نعم أعلم، وأنا كنت واقفة أمامكما على استعداد لتفجير بركانه لأحرقكما بحممه في لحظة، التفت إليك لأهتف في غضب :
" أهذه من شغلتك عني ؟ "
تعاظمت الدهشة على وجهيكما، فعدت أصرخ وأنا أضرب بقدمي الأرض الإسفلتية أمام منزلك :
" لمَ لا ترد ؟ من هذه الملونة ؟ "
وجدتها تبتسم ابتسامة بلهاء فوددت لو ألكم فكها وأكسر أسنانها الجميلة ناصعة البياض، أما أنت فقد انحنيت لتجلس على ركبتيك أمامي هاتفا في عدم فهم :
" شهد !! ما بك صغيرتي ؟ هذه أروى زميلتي في الجامعة، لمَ لا تتأدبين قليلا ؟ "
كانت الصدمة على ملامحي هذه المرة، " أتأدب ؟ " كيف تجرؤ ؟ هل تعنفني من أجلها ؟ كانت هذه هي أولى ملامح الغيرة مني، تركتك وهرولت نحو منزلي المجاور لمنزلك، وأمام بوابته توقفت للحظات، اِلتَّفتُ أنظر إليك في حنق لتلتقي عيناي بعينيك، وابتسامتك تمحو بها غضبي في لحظة، بدوت لثوان كأنك تضع إمضاءك على ورقة بيضاء لأكتب فيها أنا ما أريد، صفحة أملأها بقصائد عشقك لأقرأها كل يوم على وسادتي بدلا من قصص الأطفال والأمير المسحور، فأنت وفقط أنت، أمير قلبي .
********
أتغارين صغيرتي ؟ بدوت مضحكة للغاية وأنا تقفين أمامها تصرخين في وجهي وتتأملينها ببطء أنثى ناضجة رأت من هي أجمل منها فكان وقت النزال ومصارعة الأعين، كنت طفلة لكنك كنت مليكتي، آه لو تعلمين حبيبتي ؟ من هي لأفكر بها وأتركك أنت ؟ ألا تعلمين أنك تستحوذين على خلايا عقلي خلية خلية، ونبضات قلبي هي من ممتلكاتك نبضة نبضة، أنثى كاملة أنت في ثوب طفلة بجدائل كستنائية شقية، شعرت للحظة أنك ستجذبينها من شعرها لتمرغين وجهها في التراب أسفل قدميك، بدت هي في حالة صدمة وأنا أبتسم في سعادة، لكنك تماديت قليلا صغيرتي فوجب إيقاف تمردك للحظة، أنبتك بكلمة بسيطة فانسحبت غاضبة، كنت أعلم أنك ستبكين لاحقا، وكنت اعلم أنني سأصالحك، لكني كنت مبتهجا بشدة كطفل صغير .