عندما يتلبس العشق شبح الانتقام || الفصل الأول


الفصل الأول
===================
جلس أمامها في صمت، تأمل ملامحها التي خطها الحزن بخبرة سنين، عيناه قصة، اختلط فيها الحزن بالعشق، الألم بالهوى، إحساس الذنب بالوَلَه، مد يدا مترددة يمسك بها كفها فلم تمانع، اكتفت بنظرة سريعة لأصابعه الدافئة التي تحيط بأصابعها في حنان ثم رفعت عينيها إليه في سكون، تمتم بأربع أحرف، لم تصل لأذنيها لكن وصلت لقلبها، أدارت وجهها للجهة الأخرى وهي تتأمل بضع شجيرات صغيرة في حيرة وهدوء، وكفها لا زال هناك، مستكينا في حضن يده.

********

في خيمة الصمت التي نحيا بها حبيبتي لم أتنازل يوما عن قربك، عن يدك الصغيرة بين أصابعي التي طالما آلمتك، عن نظرة حيرة في عينيك توجهينها بخنوع نحوي، وكأنك تتساءلين من أنت ؟، ولمحة اطمئنان بمُلكِ الدنيا عندما أكون بقربك، لم أحظى بمثلها منذ أن كنتِ طفلة، قطعت على نفسي أمامك وعدا وسأفي به ما دمت حيا، سأظل إلى جوارك، سأظل جدران حمايتك، سأظل أسعى لتتذكري من أنا، حتى وإن تركتني بعدها، فقط أريد تلك الابتسامة الشقية على شفتيك مجددا، وضحكة عينيك المرحة عند رؤية ما يسعدك، سأظل أسعى صغيرتي الأثيرة ولن أمَّلَ أبدا ما دام في صدري قلب ينبض .

********

أتعلمُ أكثر ما يسعدني ؟ أنكَ عدتَ من جديد، ربما مرضي هو السبب، أو ادعائي المرض، دوما تأتيني وتبقى معي اليوم بطوله أحيانا، تمسك بيدي في حنان افتقدته كثيرا، تبثني حبك وأبثك حيرتي، كلماتك هي التي تحبسني في قمقم المرض، فربما لو شُفيت، تعود لتصبح ذلك القاسي من جديد، لتدمي قلبي وروحي، فقدت بسببك الكثير، لكن في قلبي لازلتَ مليكه، ضعيفةٌ أنا ربما، غبية، لكن أحبك، و قصائد العشق التي تلقيها عينيك على قلبي كل يوم هي القوت الذي أقتات عليه لأحيا، خبيثة، تافهة، ممكن، لكن ذلك الادعاء الصغير هو ما يضمن لي قربك حبيبي ، لذا فها أنا هنا، منذ سنتين، وبعد تمام شفائي، أتظاهر وأتظاهر، وأنت تأتي ولا تمل أو تكل، وتظل تعدني بقصور الجنة وأنا أستمع إليك راسمة على وجهي نظرة بلهاء حائرة، في حين يطرب قلبي فرحا بقربك ويحلق عاليا على بساط عشقك .

********

صغيرتي المدللة، سمعتهن اليوم، ملائكة الرحمة في هذا المكان القميء يتهامسن عنَّا، ينظرن إليّ في دهشة، يتغيرن هن ويتبدلن وأنا كما أنا، وكل جديدة تسأل من سبقتها عن قصتنا، فتحكي لها، لتنظر إليّ وتنهيدة حارة متحسرة تخرج من صدرها، ونظرة حسد تلقيها عليك، كن يستكثرن حبنا ونعيم عشقنا الصامت، آه لو يعلمن ما كنت أنا، أو يعلمن من أوصلك لهذا السجن ذو اللونين الأبيض والأخضر زهرتي الجورية، همساتهن انتقلت لأذني قهرا :
" أترين ؟ هذا العاشق يأتيها يوميا، يقضي معها ساعة يحتضن كفها ويهمس في أذنها بقصائده "

تنهيدة من أخرى ثم همسة :
" محظوظة هي، من منا تجد حبا كهذا أو عاشقا كذاك ؟ "

وثالثة بمصمصة شفاه :
" ما الذي فَعَلَتّهُ لتستحق حبا مثله ؟ "

ورابعة حكيمة :
" ربما هو من فعل شيئا يكفر عنه أمامها يوميا "

وآه من تلك الحكيمة، آلمتني، أوجعتني، ورسمت صورة عذاباتك التي تفننتُ فيها يوما ما لأقهرك وأقهر نفسي وقلبي قبلك أمام عيني من جديد، وهمسة أخيرة لم أدري من مصدرها :
" أشعر بحسرة من صمتها، فتاة ملائكية وعاشق يكللهما رداء الحزن والصمت "

وياله من وجع بعد جملتها، ألم ممض اخترق قلبي، دموع حارقة تسللت لجفني ولم أستطع منعها، لمحتك تنظرين إليها بقلق، رسمت ابتسامة على شفتي وأنا أربت على كفك المستكين بين يدي، حتى في غياب وعيك وسكونك كنتُ مثار قلقك وخوفك، أَوْجَعْتِنِي "شهد" حتى بعد أن ألبستك رداء الحزن وكساء الصمت.
********

"وليد"، ما بك اليوم طفلي ؟ لأول مرة ألمح دمعة تتسلل من بين جفونك، كحمم تحرقني هي أرجوك لا تفعلها ثانية، تربت على كفي لأطمئن، كيف أطمئن وبك أنين؟ حبسته بداخلك ليخرج على شكل دمعة، طمئني حبيبي، لا تتركني للوعة التساؤلات والقلق، أتراك سمعتَ همساتهن ؟ لا تهتم يا طفلي، كلهن كذلك، يتبدلن وتبقى الهمسات كما هي، فضولية مؤلمة قاتلة، وددت لو مددت أصابعي لأمسح دمعتك الغادرة، لكن كنت سأفضح سري الصغير والذي يبقيك بجانبي دوما عاشقا حنونا رقيقا، أرجوك لا تبكي، فقط بُثَّنِي أشعارك كما تفعل كل يوم ولا تجعل الألم يصيبك بالخرس .

********

ذكريات تتداعى داخل عقلي، أجلس هنا في مقر عملي بشركات " السيوفي " للاستيراد والتصدير، إحدى كبرى الشركات في سوق المال والأعمال، الشركة التي كانت مناصفة بين أبي وعمي، حتى رحل الأب وبقي العم يحكم المكان، بعدها استولى على كل ما امتلكه أخيه يوما، أمواله، نصيبه من الشركة الضخمة، زوجته، وحتى ابنه الخاضع الضائع، أنا .
وبعد ذلك المداد من سنوات كللها الظلم بتاج الزهور الذابلة عدتُ لأصبح أنا المالك والمسيطر على كامل الشركة، ها قد حققت انتقامي وامتلكت ما ضاع مني سابقا، لكنني فقط أضعت ما كنت أمتلك بالفعل، وما كان بالنسبة لي أغلى من عروش ممالك الذهب المفقودة، أنت صغيرتي، قطرة العسل الشهية، والطفلة الشقية التي أضفتُ لعمرها بما اقترفتْ يداي عمرا آخر ضاعف من سنها حتى أوصلها لشيخوخة قلب صغير منهك .

********

أوحشتني اليوم "وليد" تأخرت لساعتين كاملتين عن موعد زيارتك اليومية، أقلقتني حتى كدتُ أرفع سماعة هاتفي وأسأل عنك، لولا أن لمحتك قادما من بعيد، تحمل وردات بين يديك وعلى شفتيك ابتسامتي الأثيرة، والتي تحتفظ بها لي وحدي، لا تتأخر ثانية حبيبي، ففي انتظارك وجع لا تدري قدره، دنوت أكثر وكعادتك جذبت الكرسي المقابل لي وقربته مني لتجلس، التقطت يدي بيدك الدافئة ثم ناولتني الوردات المنمقة بيدك الأخرى وصوتك الحنون يداعب أذني :
" هذه لك صغيرتي "

كنت أود أن أمنحك بسمة كتلك التي ارتسمت على قلبي، لكن حيرتي ومرضي هما سبب وجودك وبابتسامة مني تضيع وتتركني، فكان الصمت هو ردي .

********

حديث الذكريات مؤلمٌ جدا صغيرتي، خاصة عندما تمتزج نبضات السعادة بصرخات الألم، فلا تكاد تميز بينهما، أتذكر يوم ولدتِ، التوتر يغلف المكان والكل يتحرك كالنحلة، وأنا أقف إلى جوار والدي طفل شقي في التاسعة، لا أكاد أهدأ، حتى نهرني أبي والقلق يغزو ملامحه، وعمي يدور في المكان كأسد حبيس، فجأة تعالت صرخاتك وخرجت بك ممرضة جميلة، جرى الكل نحوها لكنها أوقفت سيل البشر المندفع بإشارة قائلة أنك ذاهبة إلى حضانة الأطفال، ولدتِ هشة وضعيفة معشوقتي، احتجتِ أسبوعا كاملا في ذلك المكان على الرغم من ضجيجك المزعج، بقيت أمك التي كانت هشة مثلك في غرفة العناية المركزة فقد أجهدها خروجك منها للغاية، وبعدها رَحَلتْ في صمت، لم أفهم معنى الموت وقتها، فقط علمت أننا لن نراها مجددا وأنك ستشبين بدونها، يومها اتخذت قراري بأن أكون بديلا عنها قدر استطاعتي، يومها أعلنتك يا بريئة، أميرتي المدللة .

********

آه يا "وليدي" عندما تخطو ذكريات الطفولة البريئة ببطء إلى عقلك، تحملك معها لعالم آخر، عالم من النقاء والبساطة، عالم حيث الحب بعنف ووضوح والكره كذلك، حيث اللونين الأبيض والأسود هما فقط الحاكمين، لا منطقة رمادية يحيا وسطها الخبثاء والمنافقون، وتتسلل منها أحاسيس شتى تثير حيرتك .
كنتَ من هؤلاء "وليد" بوجهك القمحي الطفولي وعينيك السوداوين وشعرك الناعم، ونظرات عينيك الحنون، براءة لم يلوثها الزمن بريشة ألوانه الأخرى ليضيع جمالها ويمحو ملائكيتها، في كل ذكريات طفولتي التي كانت سعيدة أجد ملامحك "وليدي"، بدلا من ملامح الأم والأب كذلك، من يداعبني ويلاعبني ويضحكني، من يشتري لي لعبي المفضلة ويلعب بها معي، من يهدهدني في بكائي ويربت على شعري برفق لأنام، بل ويغني لي ويحكي لي القصص، من كنت أشعر معه بأنني أميرة حقيقية في زمن خلا من الأميرات .

********

بعد عودتك لمنزلك مع أبيك، قرر أن يتركك معنا لبعض الوقت، حتى يشتد عودك قليلا كما قال، كانت أمي ترعاك كطفلتها بل وتهتم بك أكثر مني، لا أنكر أنني شعرت بالغيرة بشدة، لكنها في يوم وبعدما لاحظت غضبي ونظراتي الحانقة التي وجهتها إليك في لفافتك، حملتك واقتربت مني مما أثار توجسي، أجلستني إلى جوارها وأمرتني :
" مد يديك وليد "

بدت الدهشة على وجهي وأنا أتطلع إليها بلا فهم، حملتكِ هي بيد واحدة وبيدها الأخرى حركت يداي حتى وضعتهما مفتوحتين فوق ساقي وناولتني إياكِ برفق، قالت وقتها بحنان :
" ارعاها وليد، لا أم لها وسنكون نحن عائلتها، هل يمكنك تحمل بعض المسئولية معي يا رجلي الصغير ؟ "

ولأنها والدتي، وتعرف مفاتيحي، وكلـمتها دغدغت رجولتي الوليدة في أعماقي، رسمتُ الحزم على وجهي وأنا أجيبها بصوت طفولي خشن :
" نعم، بالطبع أمي "

ومن يومها طفلتي، أصبحت أنا عالمك الصغير، بل والكبير أيضا، وأصبحت أنت أميرتي المدللة ومليكتي، كل ما يخصك هو شغلي الشاغل، وبكائك بمثابة أمر لي بتدليلك أكثر فأكثر، آه يا حبيبتي، تلك ذكريات أود لو أستعيدها لساعة وأعيشها للحظات أخرى وأنت معي .

********
حبيبي، أتذكر ذلك اليوم الذي أتممت فيه عامي الخامس، غريب أن أتذكر عاما بهذا البعد، وكنتُ فيه بهذا السن، لكن دوما لذكرياتك معي عبق خاص لا يُمحَى من خلايا عقلي أبدا، أكاد أتذكر ما كنت تفعله من أجلي وأنا مجرد رضيعة، فما بالك بعدما بدأت قصة عشقك بداخلي، نعم لا تستغرب بل وقبل الخمس سنوات، منذ كنت جنينا في رحم أمي وصوتك المزعج يقلقني فأنهال عليها ركلا وأستمع لتأوهاتها بنشوة، علها تسكتك أيها الفوضوي، لكنها كانت تسعد بركلاتي بشدة ولا أدري لما ؟، يومها أهديتني دمية، كنت أكره الدمى وتعلم ذلك، بدوت وقتها كأنك تغيظني فقط، وأمام الجميع وبعنجهيتي المعتادة مزقتها إربا وأنا أنظر إليك بشماتة وأنت تبتسم بسخرية لا تليق بطفل في الرابعة عشر من عمره، وقتها تأكدت أنك كنت فقط تعاندني بل وتأكد الجميع، ولذلك لم يطالني عقاب على فعلتي، لكن أنت نلت عقابي، فقد خاصمتك أسبوعا كاملا، كنت أنا أتحرق فيه شوقا للعب معك لكن عنادي يمنعني، وأنت بكل قسوة لم تصالحني، وانتهى الأسبوع بهدية أخرى، سيارة جميلة حمراء اللون ظلت معي حتى توجت بها مكتبة ألعابي في منزلك .
********

كنتِ دوما صبيانية "شهد"، ملابسك، ألعابك، تسريحة شعرك الثائر، حتى صوتك، كنت دوما تحاولين جعله أكثر خشونة ليشبه صوتي وأنا فقط أضحك حتى الدمع، يوما ما أغضبَكِ ضحكي فحملتي حجرا صغيرا من حديقتكم وقذفتني به، ولم أهتم، فكفك الصغيرة مهما فعلت لن تؤذيني، لكنني كنت مخطئا، فالحجر أصاب رأسي، بل وجرحني، وأمام عينيك سالت بعض دمائي مما أثار فزعك، أقبلت نحوي بسرعة ولهفة وأنت تصرخين في هلع، وقتها طمأنتك أنه لا شيء، كنت أصر أنه ليس خطأك لكنه فقط قدري وغبائي لأنني لم أحاول تفاديه، وعوقبت أنت بالحرمان من اللعب ليومين معي، لكنهم لم يعلموا أن هذه عقوبة لي أيضا، أما أنا فقررت معاقبتك بطريقتي الخاصة، في ذكرى ميلادك التالية، كانت الخامسة، أهديتك دمية، عروس جميلة تضحك عندما تضغطينها بألوان زاهية طفولية، وما كان رد فعلك صغيرتي، بمجرد أن رأيتِها وبكفيك الصغيرتين مزقتِها إربا قدر استطاعتك وأنت تنظرين إليّ وأنا أبتسم في سخرية، كنت أعلم انك ستعاقبين مجددا لأنك مزقتِ هديتي لكن كان العقاب يومها من نصيبي، فقد أجبرني أبي على مخاصمتك، وبعدها بأسبوع لم أجد بدا من المصالحة بهدية أخرى من ألعابك الخشنة التي تناسب الذكور أكثر منك طفلتي، وسعادتك التي انحفرت في ذاكرتي يومها كانت كافية لأنسى محاولاتي لمضايقتك بعدها، فعندما تبتسمين تشرق شمسي وتغمرني بدفئها، ومن ذا الذي لا يعشق شروق الشمس .