إبراهيم اليوسف
لما يزل الشاي الذي استطاع بعد حوالي خمسة آلاف سنة، أن يشكل، ومن عنوانه الآسيوي، نواة لغة عالمية، سرعان ما احتلت ترتيبها الثاني، بعد الماء، أحد أسس الحياة، كشراب لابد منه، في يوميات الناس، على اختلاف مللهم ونحلهم ولغاتهم، ماخلا حالات استثنائية، ويعقد مؤتمره المفتوح، على امتداد خريطة الكون منذ ساعات الصباح الأولى وحتى لحظات ما قبل الخلود للنوم، ضمن دورة متواصلة باتت مألوفة منذ بضعة قرون، في يوميات الشرق والغرب على حد سواء، بعد أن تسلل هذا الكائن العجيب حدود القارات، والثقافات، ليأخذ مكانه ليس في مطابخ العالم وحدها، وإنما في غرف جلوسهم، ونومهم، ومراكز أعمالهم، وأن يكون الأكثر حضوراً حتى في حدود اسم المكان المنافس له، وهو "المقهى"، من خلال سلاسته، وبساطته، ونأيه عن ارستقراطية منافسه، وسواه .


وبعيداً عن الغوص في تفاصيل مهد الشاي، الجنوب صيني، وخريطة توغله العملاقة، وسطوته على الواقعين في شباكه، لما يدخل من بهجة في النفوس، وما يؤديه من دور ساحر في شحذ الهمم، وتعديل الأمزجة، ناهيك عن سائر مزاياه، فقد استطاع، ولما يزل، أن يرتبط بأسماء الكثيرين من الأعلام والمشاهير، من رجال الفكر والأدب والفن والسياسة، عبر التاريخ، بل غدا إحدى مفردات عوالمهم، ناهيك عن أنه تجاوز مرحلة أن يغدو بمثابة العادة اليومية لهم، كما غيرهم من أسرى غواياته، ليكون أحد مفردات يومهم، وديمومتهم، يشعرهم بالراحة أنى حضر، وبالقلق والألم والتوتر إن غاب .

ويجد متابع الأدب والفن الحضور الرمزي، أو الواقعي، لإبريق الشاي وأكواب شربه، في الشعر، والقصة، والرواية، واللوحة، كما في المسرح والسينما، بل قد يكون الشاي-خارج تشيؤه- بطل نص إبداعي، أو لوحة، أو سواهما، فهو الأنيس، والرفيق، مادام أن إعداده في منتهى السهولة، يكسر به المبدع رتابة لحظته، ويقصي غمامات الكآبة، أنى استهدفته، ويغدو بمثابة أحد أهم الحوافز على خلق الإبداع، ليكون بذلك شريك كثيرين من الأدباء والفنانين والمفكرين في إنتاجهم، كما أنه قد يكون شريكاً في قرارات رجل السياسة، في خلوته، أو اجتماعه بأمثاله من صناع القرار
.
ويعد كتاب الشاي لمؤلفه أو كاكورا كاكوزو والذي ترجمه سامر أبو هواش، أول سفر عن هذا المشروب من نوعه، يتجاوز خلاله مؤلفه حدود طقوسه الكارزمية، ومنشئه، وإمبراطوريته الكونية، ليطرح أسئلته حول تغلغل خطاب الشرق إلى الغرب، كإحدى وسائل التجسير بين هذين العالمين، رغم ما تظهر-عادة- من سدود هنا أوهناك- لاسيما أن هذه الرسالة تفتح الأبواب على تعزيز لغة التفاهم، وتقبل الآخر، والترفع عن العنت، تجاهه، بل ونبذ العنف، وهو ما يؤسس لثقافة المحبة والسلام -