سيرة عليّ عليه السلام في أعدائه كانت تنبض بالرحمة والعدل، فلم يكن يقصد الانتقام والتعذيب والمثلة بل تطبيق شريعة الله سبحانه وتعالى في الأرض، وتحكيم مبادئ السماء .
قطع مرة يد عبد قد سرق فمر عبد الله بن الكواء بهذا العبد الذي قطعت يده ـ والكواء كان يعيش بخير عليّ عليه السلام ويستظل بظله ويضمر له العداء ـ يقول ابن أبي الكواء مررت بهذا العبد وهو يحمل يده المقطوعه فقلت له: من قطع يدك ؟
قال: قطعها قاطع الأصلاب مفرق الأحزاب العادل بالرعية والفاصل بالسوية.
فقلت: من تعني علياً بن أبي طالب ؟
قال: نعم.
وظل هذا العبد المؤمن المقطوع اليد يثني على أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ثناء منقطع النظير. يقول ابن أبي الكواء: أنا ألح عليه لكي يشتم علياً حتى يبرد قلبي وهو يثني عليه بالفضائل والكرامات.
لما سمع عليّ عليه السلام بذلك قال لابن أبي الكواء: والله أنا أعلم لماذا فعلت ذلك، ولماذا سألته، إذهب حيث شئت .
هذه هي أخلاق السماء التي تعلمها أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ومن المعروف أنَّه عليه السلام في معركة الجمل كان يسمع صوت أم المؤمنين تصيح بجيشها: من يأخذ هذه البدرة ويأتيني برأس عليّ بن أبي طالب؟ كان يسمع ذلك ويغفر، ولما انتهت المعركة مر على أشلاء القتلى إلى أن انتهى إلى الجمل الذي عقر، فسمع نفس ذلك الصوت، صوت أم المؤمنين يقول له: لقد ملكت فاصفح إنَّ العفو من شيمك.
فقال لها: والله ما أنصفك القوم الذين أبرزوك إذ صانوا حلائلهم وأخرجوك.
ثم التفت إلى أخيها محمد بن أبي بكر قائلاً له: أختك تولّ أمرها.
ورجع عليه السلام ولباسه يسيل كرماً، ونفسه تكبر على الحقد، وكأنّ هذا الحقد الذي ألحوا عليه به كأنما ألحوا على مواطن العزة، وعلى مواطن العظمة في نفسه فراح يظهر من هذه العزة والعظمة مايزداد به سمواً وأخلاقاً وعلواً .
وقد روى الحكم الحناط عن أبي حمزة الثمالي قال: قلت لعليّ بن الحسين عليهما السلام: بما سار عليّ بن أبي طالب؟ فقال: إنَّ أبا اليقظان كان رجلاً حاداً رحمة الله فقال: يا أمير المؤمنين بما تسير في هؤلاء غداً ؟ فقال: بالمن كما سار رسول الله صلى الله عليه وآله في أهل مكة
وذكر وهب عن حفص عن مروان بن الحكم قال: لما هزمنا عليّ بالبصرة رد على الناس أموالهم، من أقام بينه أعطاه ومن لم يقم بينه أحلفه قال: فقال له قائل: يا أمير المؤمنين اقسم الفيء بيننا والسبي، قال: فلما أكثروا عليه قال: أيكم يأخذ أم المؤمنين في سهمه؟ فكفوا
وعن حبة العرني، قال في حديث: فلما كان يوم الجمل وبرز الناس بعضهم لبعض ـ إلى أن قال ـ فولّى الناس منهزمين، فنادى منادي أمير المؤمنين عليه السلام: لا تجيزوا على جريح، ولا تتبعوا مدبراً، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن
وقد ذكر الشهيد الأول محمد بن جمال الدين مكي العاملي في كتابه القيم (اللمعة الدمشقية) بأنَّ أهل البغي: الأصح عدم قسمة أموالهم مطلقاً عملاً بسيرة عليّ عليه السلام في أهل البصرة، فإنه أمر برد أموالهم فأخذت حتى القدر كفاها (قلبها) صاحبها لما عرفها