في كتاب نهج البلاغة رداً على الملحدين ، قال :
"ولو فكّروا في عظيم القدرة وجسيم النعمة لرجعوا إلى الطريق وخافوا عذاب الحريق ، ولكنّ القلوب عليلة والبصائر مدخولة ، ألا ينظرون إلى صغير ما خلق كيف أحكم خلقه وأتقن تركيبه ، وخلق له السمع والبصر ، وسوّى له العظم والبشر .
[ في وصف النملة ]
أنظروا إلى النملة في صغر جثّتها ولطافة هيأتها ، لا تكاد تُنال بلحظ البصر ولا بمستدرك الفكر ، كيف دبّت على أرضها وصبت على رزقها ، تنقل الحبّة إلى جحرها وتعدّها في مستقرّها ، تجمع في حرّها لبردها وفي وردها لصدرها ، مكفولة برزقها مرزوقة بوفقها ، لا يغفلها المنّان ولا يحرمها الديّان ، ولو في الصفا اليابس والحجر الجامس ، ولو فكّرت في مجاري أكلها في علوها وسفلها ، وما في الجوف من شراسيف بطنها وما في الرأس من عينها وأذنها ، لقضيت من خلقها عجباً ولقيت من وصفها تعباً ، فتعالى الذي أقامها على قوائمها وبناها على دعائمها ، لم يشركه في فطرتها فاطر ، ولم يعنه على خلقها قادر ، ولو ضربت في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته ما دلّتك الدلالة إلاّ أنّ فاطر النملة هو فاطر النخلة لدقيق تفصيل كلّ شيء ، وغامض اختلاف كلّ حيّ ، وما الجليل واللطيف ، والثقيل والخفيف ، والقوي والضعيف في خلقه إلاّ سواء ، وكذلك السماء والهواء ، والرياح والماء ، فانظر إلى الشمس والقمر , والنبات والشجر ، والماء والحجر ، واختلاف الليل والنهار ، وتفجّر هذه البحار ، وكثرة هذه الجبال ، وطول هذه القلال ، وتفرّق هذه اللغات والألسن المختلفات ، فالويل لمن جحد المدبّر وأنكر المقدّر .
زعموا أنّهم كالنبات ما لهم زارع ، ولا لاختلاف صورهم صانع ، ولم يلجأوا إلى حجة فيما ادّعَوا ، ولا تحقيق لما وعَوا ، وهل يكون بناء من غير باني ، أو جناية من غير جاني ؟
[ في وصف الجرادة ]
وإن شئت قلت في الجرادة إذ خلق لها عينين حمراوين ، وأسرج لها حدقتين قمراوين ، وجعل لها السمع الخفيّ , وفتح لها الفم السويّ ، وجعل لها الحسّ القويّ ، ونابينِ بهما تقرض ومنجلينِ بهما تقبض ، يرهبها الزرّاع في زرعهم ، ولا يستطيعون ذبّها ولو جلبوا بجمعهم ، حتّى ترِدَ الحرث في نزواتِها ، وتقضي منه شهواتِها . وخلقها كلّه لا يساوي إصبعاً مستدقّة ، فتبارك الذي يسجد له من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً ، ويعفّر له خدّاً ووجهاً ، ويلقي إليه بالطاعة سلماً وضعفاً ، ويعطي له القياد رهبةً وخوفاً ، فالطير مسخّرة لأمره ، أحصى عدد الريش منها والنفَس ، وأرسى قوائمها في الندى واليبَس ، وقدّر أقواتها ، وأحصى أجناسها ، فهذا غراب ، وهذا عُقاب ، وهذا حمامٌ وهذا نَعام ، دعا كلّ طائرٍ بإسمه ، وكفَل له برزقه ، أنشأ السحاب الثقال فأهطل ديمها ، وعدّد قسمها ، فبلّ الأرض بعد جفوفها ، وأخرج نبتها بعد جذوبتها ."