الرمادي/ واي نيوزأن تعيش مع داعش يعني أن تعيش مأزوما وخائفا على الدوام من تهديدات داعش وتهديدات اقتحام الجيش للمنطقة التي يسيطرون عليها. كان الداعشيون يلقون القبض بين اليوم والآخر على أشخاص لم نكن نعرفهم. انهم أشخاص من الشارع ويقولون للمواطنين المتفرجين بأنهم من الصحوة أو من الشرطة، والناس لا تعرف بالضبط مدى صحة هذا الادعاء.. من يدري ربما كان شرطيا أو صحوجيا كما يقولون!! يقودونهم إلى الشارع الرئيسي في تقاطع (فلكة) تحت خزان الماء الكبير وسط مدينة الرمادي، ويطلقون عليهم الرصاص، ونحن نراقب تسليمهم للروح رويدا رويدا.. كنا نراقب الرفس والحركات الغامضة التي تشبه إلى حد كبير حركات رقص صامتة، تشبه حركات جنسية في حالات شبقية نادرة، كانوا يتركونهم مرميين في الشارع دون أن يسمحوا لأحد بأن يأخذهم، كانت الجثث تبقى ملقاة في الشارع لثلاثة أيام تعبث بها الكلاب والقطط وكل ما يستطيع المواطنون فعله هو أن يلقوا عليها أكياس النايلون والكارتونات.. ربما لكي يغطوا وجوهها ومنظرها عن الناس، لأنهم لا يستطيعون احتمال النظر إلى الإنسان وهو ملقى كجيفة على قارعة الطريق، وربما لأن هذا يؤلمهم من النهاية المحتومة لكل كائن.. الموت والاندثار.كنت أستغرب لأناس نذروا حياتهم للموت مقابل المال سواء أكانوا دواعش أم من القوات الأمنية، إن قدر ما يتقاضونه من مال لا يكاد يسد معيشتهم بكفاف، وهم مع ذلك يعرضون أنفسهم للموت كل يوم في عراق يكثر فيه الموت فقط، الموت فقط معروض للجميع بالمجان.وجدت احد الدواعش يجلس في ركن الشارع ويمسك قناصا ويراقب الشارع والمارة بعينين ملؤهما الحقد فبقيت أحدق في وجهه.. كان وجهه أبيض شديد البياض بعينين زرقاوين وصغيرتين قليلا وبشعر أشقر ولكنه ليس طويلا، والعجيب أن لحيته كانت قد نبتت للتو، ولما رآني أحدق فيه قال لي وكأنما لكي يرد على استغرابي من شكله (أنا روسي) فسألته روسي؟ أجاب نعم بالانكليزية. اقتربت منه وسألته: ولكن مجاميعكم عربية ولا يعرفون الإنكليزية فكيف تتفاهم وتتواصل معهم؟ فأجاب بأن الإشارات وبعض الكلمات الضرورية لعملهم والترجمة تفي بالغرض. فسألته وما الذي جاء بك إلى هنا من روسيا؟ فأجاب من أجلكم ومن أجل السنة ومن أجل الإسلام ونشره. كان يتحدث الإنكليزية ومعه شخص آخر قد اقترب منه فقال لي هذا الرجل من الشيشان ونحن نعمل سويا مع العرب وغير العرب فكلنا مسلمون..لم أقتنع بهذا الكلام فلحيته التي نبتت حديثا تدل على أنه تم تجنيده حديثا وإرساله إلى العراق فالمخابرات الدولية والإقليمية لا بد أن تجند عناصرها في التنظيمات المسلحة حول العالم لكي تعرف ما يجري على أرض الواقع بالتمام والكمال، أما لكي تعمل لها ما تريد أو لكي تستشرف ما يجري أو لكي تكون تحضيرا لتعاون مستقبلي ممكن كإطلاق سراح الرهائن أو الحوار مع المسؤولين من التنظيم أو لغيرها من الواجبات التي لا يستطيع من هو خارج التنظيم القيام بها.على بعد قصير من الروسي يقف شاب من منطقة الرطبة، في اقصى غرب الأنبار، كان يضحك ملء فمه. لم أعرفه تماما ولكنني عرفت من لهجته بأنه من الرطبة.. كان يحدث أصدقاءه الواقفين معه بأنه قام بحرق جثث ثلاثة جنود عراقيين بعد أن رمى عليهم شاجورا من الرصاص، ولما قالوا له إن هذا الفعل مستنكر قال لهم إن الجنود سيحرقون جثثنا حينما يلقون القبض علينا ونحن يجب أن نقوم بالفعل نفسه. اشمأزت نفسي من هذا العمل ومن الضحك المترافق معه، أيمكن لهذه الأفعال أن تكون مسلية ومضحكة! تذكرت حينها مقطع فيديو كان الجنود فيه فعلا يحرقون جثثا للدواعش ويطلقون عبارة الصلاة والسلام على النبي محمد وآله.. شتان بين الإسلام وهذه الأفعال.. شتان بين الإنسانية وهذا التخلف.. شتان بين العمل الحيواني وتلك الأعمال الإنسانية البشعة.كان الدواعش يملأون الشوارع جيئة وذهابا، مرة مر أحدهم بقرب بيتي ورأى جاري يدخن فاقترب منا وقال لنا ألم نقل لكم إن التدخين ممنوع؟ فقلنا له إننا جدد على المنطقة ولم نسمع بهذه الأوامر فأراد جاري أن يرمي سيجارته ولكن الداعشي أسرع بالقول على مهلك لا ترمها لا ترمها، واقترب منا وقال ألا يمكنكم أن تعطونني سيجارة واحدة فأنا أدخن ولا يمكنني التدخين أمام أصحابي، ولم أدخن منذ شهر، ناوله جاري واحدة وأشعلها له فانزوى في زاوية قريبة منا وابتدأ بشفط الدخان من السيجارة بكثافة بحيث أجهز عليها بأربعة شفطات، حينما أكملها طلب واحدة أخرى وأشعلها بعدها مباشرة وشربها بسرعة وغادرنا شاكرا إيانا ومسرعا باتجاه البيت الذي يتجمعون فيه بالقرب من بيتنا.ابتدأت الحياة تصبح كالحة جدا مع الدواعش، وجوه المواطنين بدت عليها صفرة واضحة وباهتة، وكأنما خرجوا من القبور للتو والتعب والإعياء باديان عليهم نتيجة السهر والقصف المستمر بلا هوادة، والماء ضعيف جدا والكهرباء انقطعت تماما والغاز أصبح شحيحا والنفط غير متوفر بالمرة.. كانت زوجتي تحاول إقناعي بالذهاب إلى أي مكان آخر وكان ذلك التفكير يقلقني كثيرا فالبحث عن مكان أصبح مزعجا وثقيلا، فأين يمكننا الذهاب، الأنبار أصبحت كلها خطرة فهم يستولون على المنطقة تلو الأخرى والناحية تلو الأخرى ولم يعد فينا طاقة لتحمل الانتقالات المستمرة ولهذا كنت أفضل البقاء في المكان الذي نحن فيه بمجاهدته خير من أن أبحث عن مكان آخر، كانت فكرتي تقوم على أننا يجب أن نظل ماكثين وممسكين بالأرض لحين مجيء ظروف قاهرة تجبرنا على الرحيل، لقد تعبنا من التجول وليس لدينا استعداد للرحيل مجددا فالموت في كل مكان والمعاناة في كل مكان والأمان هو الوحيد المفقود، لعنت اليوم الذي أصبحت فيه عراقيا ولعنت اليوم الذي أسس فيه كلكامش وحمورابي وسنحاريب الأول والرابع عشر وغيرهم أرض الحضارات.. ربما لم يعلموا بأنهم إنما يؤسسون أرض اللعنات، أرض التشرد، أرض الشدة، أرض اللاقانون وأرض الفناء المستمر والدائم لكل ما هو جميل في الحياة.من بيان البكريخاص بـ "واي نيوز