كان ذلك الصغير تأخذه الدهشة حين يرى هذه الحشود القادمة من الارياف وهم يحملون اكياسهم الفارغة بغية شراء ما يحتاجونه في حياتهم التي تكتنفها المياه من كل الجوانب “ انهم سكان الاهوار “ هؤلاء الناس الذين يبدون بسحناتهم السمر وعيونهم الزرق والخضر ، او ترى فيهم من هو اشقر الى حد تحسبه قادما من اوروبا . عند دخولهم السوق الكبيرة لمدينة العمارة يتفرقون الى جماعات صغيرة ومنهم من يذهب لوحده لانه على علم بخارطة الازقة المتعرجة للمدينة ومعرفة الامكنة التي توجد فيها الاشياء المهمة التي يحتاجونها ،ولكنهم يجعلون لهم مكانا امنا يتركون به مايشترونه وخاصة في دكان ابي الذي يشبه الرواق الطويل في سوق “عبدالحسين الدلال “ هذا التاجر الذي مات على الحدود العراقية الايرانية بعدما قام صدام واعوانه في العام 1979 بتسفير الكرد الفيليين بتهمة التبعية الايرانية، وقتها كانت المأساة لشريحة هؤلاء المظلومين كبيرة ، مازالت اثارها على وجوه الذين تمكنوا من البقاء احياء والعودة ثانية الى العراق .
اهل الاهوار كان ابي خياطا خاصا لاهل الاهوار فهو ينحدر بانتمائه اليهم، فقد قدم ابوه قبل عشرين سنة من تلك المسطحات المائية تاركا الاهوار الى غير رجعة واستقر به الحال في مدينة العمارة، بعدما تعلم مهنة الخياطة هو وابي الذي يكاد يشبه جدي في كل شيء حتى بطريقة كلامه ولبسه ، علمهم على تلك الحرفة ابن عم جدي لكن ابي تعلم القراءة والكتابة واخذ يقرأ الكتب وخاصة مؤلفات جرجي زيدان وطه حسين وعلي الوردي . لقد كان بارعا في الخياطة ولكن بطريقته التي تمكّن منها فهو يفصل ملابس النساء القرويات والرجال بحيث لايستخدم “ الاولجي “ وهو شريط مرقم يضبط مقاسات الملابس ، ولكنه استخدم احساسه كحرفي وان تحدث بعض الهفوات يتمكن من تعديلها ، اضف الى ذلك ان القرويين لايشعرون بالحرج امام ابي لانه من سلالتهم ويفهم مايريدون من ثياب او زي ويتكلمون معه بامور عشائرية غائبة عن وعيي في تلك الفترة. كانت مدينة العمارة عامرة بسوقها الكبير المتفرع الى عدة فروع فحين تقدم من شارع بغداد اول مايصادفك “ سوق العلافين “ حيث يتجمهر به الذين يبحثون عن التمور او العطارين اضف الى ذلك الزحف المستمر على الدكاكين الجديدة التي اضفت هيبة الى السوق من خلال فتح دكاكين البقالة والخضراوات اضافة الى دكان الحاج “ عصمان البزاز “ الذي كان المحل الوحيد في سوق العلافين . كان محله محطة من محطات بيع القماش الى اهل الريف القادمين من شمال مدينة العمارة مثل ناحية كميت وعلي الشرقي وعلي الغربي وشيخ سعد او الضواحي القريبة من المدينة مثل “ الدفاس “ او البتيرة “. وحين تتوغل في الدخول الى السوق عمقا تدخل “ سوق النجارين “ المكتظ بالحركة والاصوات المتشابكة وطرق “ الجواكيج “ على حافات “ الصناديق المنجمة “ او “ المحامل “ التي تزين واجهاتها صورة “ بنت المعيدي “ المرأة التي عشقها الضابط الانكليزي وهربت معه الى انكلترا حسب ماتقول الحكاية التي لم يدحضها احد . كان النجار حمادي الخزعلي فارع الطول متخصصا بصنع “ البوفيات “ يشرف على اولاده وعماله ويوجه الجميع كأنه قائد عسكري لايتورع ان يوجه كلمات توبيخ لمن يتوانى في العمل ، يتوسط الباحة وهو يقظ مابين البيع والعمل ومغازلة السيجارة التي لاتفارق شفتيه .
وكان حين يراني يصيح بصوته الاجش “ ها ولك الاحيمر ماتعلمت من ابوك الخياطة “ ولكني كنت الوذ بالصمت متجها الى دكاكين “ الصابئة المندائيين “ لأرى كيف يطرقون على الحديد لصناعة “ المساحي “ او صناعة “ المناجل “ وكنت اعجب حين اشهد المنفاخ وهو يبذر الريح في “ الكورة “ الصغيرة ، ثم استمر ماشيا كمساح يكتشف شبرا شبرا مايدور من حوله وانا متجها الى دارنا في محلة “الماجدية “ لاعبر جسر الكحلاء ذا الاتجاه الواحد الذي يقف عند كل طرف من اطرافه شرطي مرور لتتم عملية عبور السيارات او العربات وقطعان الماشية او الابل ولكن بالتناوب ، وعندما اصل الى دارنا يكون آذان الظهيرة يطرق مسامع محلة الماجدية ، واتجه الى شارع الجامع لانتظر جدي حتى اعود به الى البيت بعدما يكمل صلاته . يضع جدي يده اليمنى على كتفي الايمن ولكن برقة جنح فراشه ثم يبدأ باستجوابي “ ابوك اشتغل “ من الذي مر عليكم ؟ مدينة زاخرة بالخضرة كانت مدينة العمارة من المدن الزاخرة بالمحاصيل الزراعية وخاصة في فترة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي ، وكانت وسائط النقل الاولى هي وسائل النقل النهري حيث كان في منطقة “ الشبانة “ مرسى للسفن التي تستوعب كميات ليست قليلة للمحاصيل ومنها التمور والطيور القادمة من بلاد الثلج والاسماك على شتى تصنيفاتها . كان هناك مرفأ وعمال وسفن صغيرة وكانت هناك نوارس تراقب هذا الكم من الحبوب فتكون هناك غيمات من النوارس تلتقط الحب من سطوح المراكب وهي تزعق فرحة بذلك وعندما تسير تلك المراكب كانت اسراب النوارس تفر من تلك المراكب المسافرة وتودعها برقصة الحضور كأنها في عرس يحدث في صباح كل يوم وترى تلك المراكب وهي تزعق ابواقها معلنة بازوف الساعة للمغادرة الى العاصمة بغداد التي كانت تمثل قبلة الشرق. وكنت ارقب تلك المراكب الذاهبة عبر النهر الذي كان يستوعب الكثير وخاصة في ايام “ الخنياب “ حيث كانت البساتين تظلل جرف الانهر الثلاثة التي تفرعت عندما وصل نهر دجلة الى مدينة العمارة فانشطر الى انهار ثلاثة “ نهر دجلة – ونهر المشرح – ونهر الكحلاء “ كل الانهر تكتنفها البساتين فترى في فصل الربيع “ الطليع “ من سعفات النخيل كأنه حبات اللؤلؤ يبشر بموسم من التمر المتنوع من البرحي والبريم والخستاوي والزهدي وغيرها من انواع التمور التي تزخر بها مدينة الخير وهي تطفو فوق بحر من النفط الممتد من ابار “البزركان والطيب الى ابار حقول مجنون “ اضف الى ذلك محاصيل الحنطة والشعير وحقول الرز العبقة برائحة العنبر . ولاننسى موسم الطيور المهاجرة التي تقدم من بلدان الجليد وهي تبحث عن الدفء محققة بذلك دورة الحياة المتكررة .
منقول