النحو الثاني: الفتنة في الدين
عندما نقرأ روايات التمحيص ونتفحَّصها جيداً، ونجدها تتحدث عن الفتنة الأشد التي تصيب الناس في آخر الزمان، وهي أشد من جميع الفتن السياسية والاجتماعية والعسكرية والطبيعية، لأن بهذه الفتنة تنتهي عملية الامتحان والتمحيص، وهي الأساس للتمييز بين أنصار المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف وبين غيرهم.
فما هي تلك الفتنة التي تصيب الناسَ في دينهم؟.
ليس من الصعب على كل من درس تاريخ الإسلام أن يعثر على التيارات الانحرافية التي كانت تظهر بين الفَيْنة والأُخرى في المجتمع الإسلامي، وقد تتلون بألوان وأشكال مختلفة، وربما أمكن لمؤسسي الانحراف أن يتمكنوا بتثبيت أنياب انحرافهم في مساحة كبيرة من الأتباع الذين عاصروهم، والامتداد في مستقبل تاريخ المجتمع الإسلامي، كما نجد ذلك واضحاً في أتباع كثير من أصحاب البدع الذين ظهروا في تاريخ الإسلام، وما زالوا يشكلون النسبة العظمى من المسلمين.
إذن هل توجد فتنة أشد وأكبر من تلك الفتن التي مرّ بها المسلمون على طول تاريخهم، بحيث حَرَفَت النسبة العظمى منهم عن الحق وأمالتهم إلى المناهج الأخرى؟ وما هي تلك الفتنة وما نوعها؟.

وقد تكلمت الأحاديثُ الشريفة عن فتنة الدين أنها تتمحور بصورتين:

فتنة الدين في صورتها الأولى: (الابتعاد عن الدين)
ابتعاد الناس عموماً عن الدين، وعن الإسلام بحيث يتحول الدين عندهم إلى غير حقيقته الإلهية التي نزل بها.
ومن جملة تلك الأخبار ما رواه الصدوق (رحمه الله) في (ثواب الأعمال وعقاب الأعمال) بسندٍ موثّق عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال:
(قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: سيأتي على أُمتي زمانٌ لا يبقى من القرآن إلا رسمه، ولا من الإسلام إلا اسمه، يُسمَّون به وهم أبعد الناس منه، مساجدهم عامرة وهي خراب من الهدى، فقهاء ذلك الزمان شرُّ فقهاء تحت ظل السماء، منهم خرجت الفتنة وإليهم تعود) (راجع ثواب الأعمال وعقاب الأعمال / الصدوق / ص301).
وقد جاءت الروايات بهذا المعنى مستفيضة من طرق الشيعة والسنة. وهي تؤكد حقيقة التغير الكبير والانقلاب العكسي الذي يصيب المسلمين بابتعادهم عن الإسلام وجوهره وأصالته. بحيث تصبح مفاهيمه الصحيحة غريبة عليهم، ويكون سلوكهم العام ومظاهر حياتهم غير منسجمة مع ما جاء به الإسلام العزيز، بما نشاهده حالياً في المجتمعات الإسلامية يمكننا أن نفهم هذه الحقيقة المرة بشكل جلي.

فتنة الدين الحق في صورتها الثانية: الابتعاد عن التشيع الولائي
ولو غضضنا الطرف عن كل أهوال تلك الفتن؛ فإنه سوف يبقى أمام الإنسان المسلم هول الفتنة العظمى التي أنذر منها أهل البيت عليهم السلام وحذَّروا منها وهي (فتنة الدين) التي ذكروا ضرورة حدوثها قبل ظهور الإمام الغائب عجل الله تعالى فرجه الشريف، وقد أكدت رواياتهم عليهم السلام على موضوع هذه الفتنة وعلاقتها بالغيبة الطويلة التي يذهب بسببها كثيرٌ من أولئك المحسوبين على التشيُّع مع مهبِّ الرياح، ويسقطوا من الميزان. ومعنى ذلك أن هذه الفتنة هي مختصة بالشيعة لا تتعداهم إلى غيرهم. وأما (لعل الأنسب: ولكن) لماذا هذه الفتنة للشيعة؟.
ولماذا يسقط كثيرٌ من الشيعة في الامتحان والاختبار.. مع أننا نؤمن بأن التشيُّعَ إنما هو الإسلام الحقّ الذي جاء به النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وثبَّته الأئمةُ المعصومون عليهم السلام بجهادهم وبياناتهم ودمائهم؟.
ويمكنك أن تعرف الجواب على هذا السؤال من خلال معرفتنا بان مجرَّد الانتماء لا يعصم الإنسان من ذلك، وإنما تعصمه الولاية التامة، والمعرفة الكاملة لمحمد وآل محمد عليهم السلام، فهي المنجية والمخلّصة والعاصمة من الفتن والأهواء.
وعلى أي حال فقد حذرّنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة الطاهرون عليهم السلام من هذه الفتنة وبينوا معالمها.. فقالوا: إنها فتنة الدين.. وأبرز معالمها أنها فِتَنٌ محيّرة مُضلّة... وأن قادة تلك الفتن من الرجال المحسوبين على العلماء أو متزيين بزيّهم...وانها فتنةُ محيِّرةٌ مُضلَّةٌ...وتصل الفتنة ذِروتها فيتفل البعضُ في وجه البعض...وأما قادة الفتنة، ومَن يُدير لعبةَ الانحراف، فهم قُطّاع الطريق على أيتام آل محمد عليهم السلام، وهم علماء السوء.
وربما تنعكس الصورة السلبية لأولئك قُطَّاع الطريق المتزيّين بزي أهل اليقين والحق.. على مجموعة من الناس الذين يخطأون بتشخيصهم للمرض والباطل، فيعمِّمون الانحرافَ على العلماء جميعاً، لما يَرَوْن من انحراف بعضهم فيتنفَّرون من جميع العلماء. وبذلك يقعون بالانحراف الأعظم.
وربما تصف الرواية التالية هذه الظاهرة الانحرافية في آخر الزمان، حيث رُوي عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (سيأتي زمانٌ على أُمتي يَفرّون من العلماء كما يفرُّ الغنمُ عن الذئب، فإذا كان كذلك ابتلاهم الله تعالى بثلاثة أشياء: الأول: يرفعُ البركةَ من أموالهم، والثاني: سلَّطَ اللهُ عليهم سُلطاناً جائراً، والثالث: يخرجون من الدنيا بلا إيمان)