«سينما الإنسان» تعبر الحدود: لماذا ينجح عالميًّا فيلم إيراني لا مصري؟
«إنها سينما الإنسان، واجهتها القيود فوجدت مساحتها الكبيرة للحرية داخل تنوع الإنسان نفسه».
- أوسكار وايلد
تشكل السينما الإيرانية، مع السينما التركية والمصرية، مثلثًا مهمًا في سينما الشرق الأوسط. تتشابه البلاد الثلاثة ثقافيًا وتتشابك تاريخيًّا بشكل كبير، كما تتقارب بينهما المشاكل الاجتماعية، والسياسية، وحتى الفكرية. لكن السينما الإيرانية تميزت ووصلت للعالمية، بينما لا تتجاوز السينما المصرية والتركية منطقتهما في أفضل الأحوال.
حققت السينما الإيرانية في العقدين الماضيين عالميةً لا جدال فيها. صار معتادًا أن تحصد إيران كل عام العديد من الجوائز في المهرجانات الدولية، بل حصل الفيلم الإيراني «انفصال» (A Separation)أوسكار أفضل فيلم أجنبي لعام 2011. كما صُنفت بعض الأفلام الإيرانية ضمن أفضل الأفلام في تاريخ السينما.نجاح مذهلإذًا لسينما لم يكن لها اسم يذكر منذ عشرين عامًا فقط.لكن لماذا تحصد السينما الإيرانية كل هذا الاهتمام على الرغم من كل القيود التي تضعها أمامها حكومة الجمهورية الإسلامية، وعلى الرغم من الميزانية المحدودة والإمكانات التقنية البسيطة؟
ثمة خاصية أساسية في الأفلام الإيرانية،«إنها تشبه الشرق» كمايقول النقاد. لقد تمسكت بأصالتهاولم تحاول أن تكون تقليدًا رخيصًا لثقافات لا تشبهها ولا تنتمي إليها، الأفلام المُغرقة في محليتها مغرقة في الجمال في عيني العالم؛ لهذا ربما تحصد الأفلام التي تدور أحداثها داخل المدينة اهتمامًا أقل من تلك التي تصور في أجواء قروية بدائية. تمامًا كما يلاقى السجاد الإيراني والمنتجات اليدوية الإيرانية رواجًا نابعًا من الأصالة فيهما. إنها أشياء لا يستطيع الغرب صنعها بنفسه.
إنها أفلام تقلب الهوامش نصًّا أنيقًا. لا تبدو مهتمة كثيرًا بالسرد المتقن أو تعقيد القصة. تحمل البساطة رسالة وسمة أساسية لعصر جديد من السينما. تتبع الأفلام خطًّاسرديًّا شديد البساطة. لا تحمل القصة غالبًا أمورًا غير متوقعة أو غير عادية، كما لا تحمل حبكة أو إثارة أو صعودًا وهبوطًاللقصة. هي في معظمها ليست إلا تجسيدًا شديد الواقعية للأيام العادية من حياة المواطنين الإيرانيين. هذه الأفلام التي قد تكون متوقعة أو حتى مملةبالنسبة للمواطن الإيراني، تحصد اهتمامًا هائلاً من المشاهد الغربي.النقاد الإيرانيون يتعجبون دائمًا من عدم حصول أفلام أكثر تعقيدًا مثل أعمال بهرام بيضايي أو مهرجويي على نفس الاحتفاء والتقدير العالميين؛ فأفلامهما تحصد ظواهر دقيقة عن الفكر والحضارة الإيرانيين في صورة فنية أكثر تطورًا من البساطة الشديدة لمعظم الأفلامالتي تحصد الجوائز. يفسر النقاد أن البساطة سبيل المشاهد الغربي لفهم الحياة الإيرانية. فمعرفة المشاهدالغربي شبه المنعدمة بالشرق تجعلالأفلامالأكثر تعقيدًا أصعب في التواصل النفسي معها.
تتبع الأفلام الإيرانية كثيرًا مضمونًا واهتمامات تواكب ماتهتم بهالسينما العالمية. يمكن في هذا السياق الإشارة إلى مفاهيم مثل «التشكيك» أو «تعددية الواقع» كمكونات أصيلة لفنون ما بعد الحداثة، بمعنى أن الواقع لا يملك شكلاً واحدًا ولا سياقًا واحدًا، وأن كل حقيقة قابلة للشك خاضعة للأسئلة.هي مفاهيم اكتسبت أهمية أيضًا في إيران ما بعد الثورة، حيث حكمت البلاد فئة راديكالية لديها تصورات يقينية غير قابلة للتغيير. تصورات شكلت ضغطًا هائلاً على صانعي السينما في البلاد واضطرت صانعي الأفلام مرات ومرات لإيضاح المقصود من بعض مشاهدهم.هكذا تعلم المخرجون الإيرانيون فن النهايات المفتوحة وترك قصصهم وشخصياتهم مرنة، بسيطة تحتمل التعقيد، وتقبل العديد من المعاني والتفسيرات.
«الإيرانيون العاديون يبدون بسطاء في أفلامهم، لكنني أرى بواطنهم أكثر تعقيدًا من باطن الإنسان الغربي».
- مايكل ولينغتون
المخرجان الكبيران عباس كيارستمي ومحسن مخملباف رائدا النهايات المفتوحة. في فيلمه «الخبز والمزهرية»لا يقدم مخملباف إجابات أو تفسيرات يقينية. يروي الفيلم ذكريات مخملباف عن طعنه لحارس أيام الشاهثم أيام سجنه. في الجزء الذي يؤدي فيه الممثل مشهدًا عن محبوبة مخملباف،يضع مخملباف أمام الممثل محبوبته الحقيقية لتخرج تعابيره واقعية وصادقة تمامًا، لكن الكاميرا لا تظهر الفتاة أبدًا، ليخرج الفيلم مفرطًا في واقعيته، بينما يترك للمشاهد نسج الخيالات حول الفتاة، أو حتى تفسير الحب تفسيرات رمزية. الفيلم الذي وصفه الناقد رتشارد كومبز بأنه أفضل أفلام عقد التسعينات.السينما الإيرانية سينما الواقع بامتياز. تهتم بعرض الأحداث اليومية الاعتيادية، دون إضافة أو حذف شيء من أحداثها، اعتيادية الأحداث وتكرارها هروبًا من قواعد الدراما الهوليوودية. هي أفلام تظهر أبطالها حقيقيين جدًّا.لا تهتم كثيرًا بالتقنيات المتطورة في التصوير، بل تغلب على الأفلام البساطة والواقعية، والجمال الطبيعي، إذ تكون القرى والمشاهد الطبيعية الساحرة مسرحًا أساسيًّا للعديد من الأفلام. ليس عجيبًا إذًا ألا تتجاوز تكلفة إنتاج أفلام إيرانية حاصلة على جوائز عالمية تكلفة وجبات الممثلين في عمل هوليوودي.
الطفولة موضوع مضمون النجاح إذا صاحبه أصالة العرض كما تظهر نتائج المهرجانات الدولية. تعرض القصة غالبًا غربة طفل عن عالم الكبار الذين لا يهتمون برغباته ولا يأخذونها بجدية. دنيا الكبار أصغر وأكثر انغلاقًا من عالم الصغار المليء بالخفة. الكبارمثقلون بهم لقمة العيش، منهكون بالفقر، خائفون ووحيدون، لكن الفقر لا يسلب الأطفال تطلعهم وفضولهم نحو العالم. الأسرة مختفية عن المشهد إذًا أو حاضرة حضورًا خافتًا. لكن الأطفال حتى في هذه الظروف الصعبة لا يتوقفون عن محاولة تحقيق رغباتهم الصغيرة. «أين منزل الصديق؟»، «لون الفردوس»، و«المسافر نحو الجنوب»كلها نماذج لأفلام عن الأطفال لاقت احتفاءً كبيرًا.بعض النقاد يرون في التركيز الإيراني على قضايا الأطفال رسائل سياسية خفية. كأن تكون بطولات الأطفال في أعمالهم رمزًا لجيل جديد يريد أن يحيا حياة أكثر إنسانية، في بلد يرى الجيل الجديد فيه عالم الكبار صعبًا وغير قابل للاختراق. فالكبار لا يثقون بما هو خارج جدران تقاليدهم. لكن الأطفال يملكون طيفًا إنسانيًّاأكثر رحابة. يقول نقاد إن الأطفال يبدون وكأنهم يحاكمون المجتمع التقليدي الجاف والمغلق، وأن الأفلام تصرخ: «هذا مجتمع بحاجة إلى تغيير».
القيود الحكومية الصارمة على عرض العنف أوالجنس على الشاشات، وكذلك إصرار وزارة الإرشاد الثقافي خاصة في بداية الثورة أن يحمل كل فيلمرسالة أخلاقية جعلت الأفلام الإيرانية تأخذ شكلاً ومضمونًا مختلفين عما اعتادتهما السينما العالمية.
«إنه يشبه هواءً نقيًّا»، بحسب الناقد عبدالله اسنفدياري كان هذا أكثر تعليق سمعه من المشاهدين في ألمانيا بعد عرض فيلم طرقات باردة، ربما لأن الأفلام العالمية التي ينتشر فيها العنف والجنس، أظهرت الأفلام الإيرانية كحدث روحاني نقي يصل إلى مكان ملوث. خاصة مع التركيز على الجمال والبساطة في العلاقات الإنسانية.خصائص السينما الإيرانية الأبرز يمكن إجمالها في تجنب صناعة البطل، الدور الهامشي للحب بين الرجل والمرأة والذي يعوض بالأشكال الأخرى من الحب، التركيز على التفاصيل الصغيرة شديدة الاعتيادية في الحياة، عدم وجود قصة وحبكة. عدم وجودة قوة للشر أو بطل شرير، الاهتمام الكثيف بالطبقات الأقل حظًّا والأشخاص العاديين الذين لا يلفتون انتباهًا. كلها مواصفات تبدو معها السينما الإيرانية وكأنها تقترح أشكالاً أخرى للحياة، أقل عنفًا وأكثر روحانية وشرقية.في دارسة أجراها باحثون إيرانيون على 30 فيلمًا إيرانيًّا حاصلين على جوائز، تبدو البساطة، القصص متعددة التفسيرات وعرض الحياة اليومية بتفاصيلها الرتيبة أكثر العوامل جذبًا للنجاح العالمي. على العكس الأفلام ذات الرسائل المباشرة، الحروب أوالقصص ذات حبكات وتعقيدات لم تحصل على نفس التقدير.
النجاح الكبير للسينما الإيرانية عالميًّا لا يقابله كثير من النقاد الإيرانيين بنفس الحماس.بل ويتعجب بعضهم من انبهار الغرب بالسينما الإيرانية. في الحقيقة الكثير جدًّا من الأفلام الحائزة على جوائز عالمية تحصل على مشاهدات متدنية جدًّا في إيران نفسها. يقول بعض النقاد الإيرانيين أن الاحتفاء بالسينما الإيرانية قد يحمل على هامشه أيضًا تفسيرات سياسية ترى في الأفلام الأكثر عرضًا للفقر والحياة القروية تجسيدًا للنضال ضد الجمهورية الإسلامية.خسرو دهقان، مخرج إيراني، يرى أن السينما الإيرانية أصبحت تتجه أكثر فأكثر نحو قواعد محفوظة تضمن النجاح في مهرجانات العالم، مؤكدًا أن السينما القومية يجب أن تتجه للداخل أكثر لا الخارج، لكن احتفاء المهرجانات الدولية بأفلام ذات طابع بعينه، يحصر الإبداع في الأفلام الإيرانية. تركيز المهرجانات العالمية على الأفلام ذات الطابع القروي الفقير يضايق العديد من الإيرانيين، إذ لا يعكس وجهًا حقيقيًّا لإيران المدينة، والأفلام الأكثر قربًا لواقع المدينة هي الأكثر جذبًا للمواطن الإيراني نفسه. يحذر بعض النقاد الإيرانيين من تزايد الفجوة بين السينما التي تحظى برواج شعبي أكبر والسينما التي تحظى برواج المهرجانات واحتفاء النقاد، مطالبين بإيجاد منطقة إبداعية وسيطة تضمن ألا يخسف التوجه نحو الأفلام التجارية بكل الإنجازات التي حققتها السينما الإيرانية.