عبد الباسط الصوفي
1931 ـ 1960
في حيٍّ من أحياء حمص القديمة ( ضهر المغارة ) وُلِدَ عبد الباسط بن محمد أبي الخير الصوفي عام 1931 ، من أسرة ٍ أقرب مستوى إلى الفقر عُرِفَت بالتديّن والصلاح يقول المؤرّخون عنها إنها انحدرت من عشيرة التركمان التي هاجرت من تركستان واستوطنت حمص حوالي سنة 1685 م . تلقّى علومه الإبتدائية في المدرسة الخيرية الأميرية ( المأمون حالياً ) ثم في مدرسة التجهيز فنال الشهادة المتوسطة عام 1946 والشهادة الثانوية عام 1950 ، عُيِّن بعدها مُعلِّماً في مدارس ريف المحافظة ومدرِّساً للغة العربيــة في متوسطة فيروزة . وفي عام 1952 انتسب إلى جامعة دمشق ونال الإجازة في الآداب عام 1956 . وفي أواخر دراسته الجامعية بدمشق عملَ مذيعاً في الإذاعة السورية ومشرفاً على القسم الأدبي فيها بتوصية إعجاب وتقدير من الشاعر الكبير ( بدوي الجبل ) الذي كان وزيراً في الحكومة السورية آنذاك . واصل بعد ذلك مهنته التدريسية في ثانويات دير الزور وحمص حتى شهر شباط 1960 حيث أوفدته وزارة التربية مع ثلاثة من زملائه إلى ( غينيا ) في بعثة تعليمية لتدريس اللغة العربية فقام بمهمته خير قيام ، لكنه أصيب بمرض عضال استعصى على الأطباء هناك مداواته فطلب إعادته إلى وطنه ولكن أمنيته لم تتحقق إذ تعذَر نقله وهو طريح الفراش وتألّم كثيراً ولم تتحمّل أعصابه المرهفة وضعه المرضي فمات منتحراً يوم الأربعاء في 20 تمــوز عام 1960 في ( كوناكري ) بالمستشفى الذي نقل إليه إثرَ إصابته بانهيار عصبي شديد سبقته عدة محاولات إنتحارية فاشلة ،ولم يُتِم الثلاثين ربيعاً من حياته ، ونقل جثمانه بحراً ودفن في مقبرة ( باب التركمان ) بعد شهرين من وفاته .
كان عبد الباسط الصوفي شاعراً عبقرياً ملهماً ، ويعتبر من شعراء الطليعة العربية في عصرنا الحديث ، رهيف الإحساس ، دقيق التصوير والملاحظة وطني التفكير، عربي النزعة ، إنساني نبيل ، رشيق العبارة ، يمتاز شعره بأنه يجمع بين أصـالة الشعر الكلاسيكي وتجديد
الشعر الحديث ويعبِّر تعبيراً عميقاً عن مأساة الضياع والتيه التي يعانيها الجيل العربي الجديد
في سعيه لتحقيق ذاته .
كانت ثقافته على الصعيد السياسي : مستقاة من مبادىء حزب البعث العربي الإشتراكي الذي انتمى إليه في فترة مبكِّرة من حياته وناضل ضمن صفوفه بشِعره الكفاحي الملتزم بقضايا الوطن والأمة العربية في صراعها ضد قوى الإتغلال والرجعية والإستعمار والصهيونية .
وعلى صعيد المناهج الدراسية : دخل شعره مناهج تدريس اللغة العربية مادة النصوص الأدبية في الصف الأول الإعدادي في كتاب ( القراءة الجديدة ) للعام الدراسي 1967 ـ 1968 وأورد له المؤلفون قصيدته ( هو الشعب) . كما دخل شعره في مقرر كتاب ( الباقة ) للصف الثالث الإعدادي للعام الدراسي 1969 ـ 1970 وأورد له المؤلفون قصيدته : (مدينتي )والتي ألقاها في المهرجان العربي للشِعر سنة 1959 نقتطف منها :
مدينتي ، لاتملكُ الذَرّهْ
مدينتي ، طيّبة ، حُرَّهْ
لاتصلب الإنسان في آلةٍ
أو تمضغ الأحقاد ، في فكره
مدينتي ، نبضات قيثارةٍ
حيناً ، وحيناً ضحكةٌ ثرّه
قديمة ، كالحب ، ميلادها
لما صحا دربُ الهوى مرّه
وعلى صعيد الغنــاء : فقد غنّى المطرب نجيب السرّاج له نشيد ( عربيٌّ أنت ) :
عربيٌّ أنت أرضـاً وسما فاملأ الدنيا لهيبــاً ودمـا
وانطلق للشمس في آفاقها وامتطِ الريح وهات الأنجما
وعلى صعيد الجوائز الأدبية : نال جائزة مجلة الآداب الشعرية لعام 1960 عن ديوانه (أبيات ريفية ) هو الأثر الأول الذي ينشر للفقيد الذي كان بين إثنين وعشرين ديواناً قدمت للمسابقة .
والذي صدرَ في آذار 1961 عن دار الآداب ببيروت .
إن للفقيد مئات من القصائد الشعرية في مختلف الموضوعات بالإضافة إلى عشرات من المقالات الأدبية والإجتماعية المنشورة في مختلف المجلاّت والجرائد العربية .
كما أن وزارة الثقافة عملت على طبع ( آثار عبد الباسط الصوفي الشعرية والنثرية ) بتقديم من الدكتور إبراهيم كيلاني . وأن صديقه الأستاذ ممدوح سكاف أصدر كتاب ( عبد الباسط الصوفي الشاعر الرومانسي ) عام 1983 . وأيضا كان عبد الباسط الصوفي ضمن كتــاب
( الحركة الشعرية المعاصرة في حمص ) عام 1981 للأستاذ محمد غازي التدمري .
بالإضافة إلى كتب عديدة من تاريخية وأدبية دوَّنت حياته وأدبه .
وفي مقدمة من رثاه من الكتاب العرب السوريين : عادل أبوشنب حيث قال : ( كل ما بقي منك قصائد وذكريات زرعتها في صدور الذين عرفوك وأحبوك وعاشوا معك ضبابية شعرك... وها أنت قد ذهبت إلى حيث أردت ولكن لماذا لم تقل وداعاً يا عبد الباسط ... لماذا مت بعيداً ؟ ) .
وكتب صديقه الأديب القاص ياسين رفاعية عنه : ( أصحيح أنشب الموت أظافره في حنجرتك العذبة وخنقها ياعبد ... ياشاعري هل تحطّم القلم وانكسرت الريشة كما تكسر الرياح غصناً مورقاً ؟ ياعبد ... يا شاعراً ... عَبِدَ الحرف وأخلصَ له كيف هكذا تهجرنا بقسوة وتفارقنا بعنف ؟ ) .
وفي أوائل السبعينات من القرن الماضي هيّأ الأستاذ عبد الرحمن الحلبي لقاء إذاعي في المركز الثقافي العربي بحمص دار حول الشاعر الفقيد حياته وشعره اشترك فيه ممدوح سكاف ، شكري هلال ، عبد المعين الملوحي وغيرهم من الأدباء .
مقتطفات من أعمــــاله :
1 ـ كان عبد الباسط يعاني منذ يفاعته من شعور حاد بالوحدة وإحساس شديد بالعزلة وكان
متشائماً منطوياً على نفسه ، وتردّدت تعابير الموت والفناء في أكثر من قصيدة ورسالة
وقصة كتبها ، لقد تجمّعت كل الرؤى السوداوية ودفعته إلى الإنتحار البطيء في حمص
والإنتحار الصعب ( في كوناكري ) حيث ابتدأ خيط الرحيل الأبدي منذ اللحظــة التي
اصطدم فيها بحبه التعيس ووقفت التقاليد والأعراف في وجه تجربته ( العشيقة الأولى )
التي كانت سبباً في اضطراب حالته النفسية ونزوعه إلى الرحيل :
أنا راحلٌ والشوك ملء يدي آهٍ الشـوك عربدْ
أنا راحلٌ وغداً أعود وفي جبيني الشمس تُعقَدْ
سأهزُّ أغوار الفناء وأنثني أبداً مخلد
وأجوب أعماق الجحيم خطىً تمزق كل فرقد
صبحٌ يموت ، ووجه صبح في ضمير الليل يولد
2 ـ من قصيدة ( الزائر الغريب ) نظمها في مدينة كوناكري بتاريخ 21/أذار /1960 :
أنا .. فرح الأرض ، إنسانه ، شوقه السرمديْ
أنا .. في تدافع عشب ، وفي خفق صبحٍ ندي
أنا .. قد غمست حروفي ، بكل عروق الحياه
وبين ضلوعي لهيب إله ، وسر إله
3 ـ من قصيدة ( وطــن ) :
وعيتُك ، يا وطني ، في الضمير
صلاةً كأنك نجوى نبي
مع الطفل ، في مهده الشاعريِّ
مع الأمّ ، جاثيةً ، والأبِ
مع الفجر ، يغرقُ ، في صحوهِ
مع الشمسِ ، في كونها الأرحبِ
وعيتكَ في سنبل كالنضّارِ
وفي منجلٍ ، باردٍ ، أصلبِ
وفي كلّ أرضٍ ، مع القادحين
يشقون ، دربَ الغدِ المختبي