كان في أحد المروج نعجة وحمل يرعيان .
وكان فوقهما في الجو نسر يحوم ناظراً إلى الحمل بعين جائعة يبغي إفتراسه
وبينما هو يهم بالهبوط لإقتناص فريسته ، جاء نسر آخر وبدأ يرفرف فوق النعجه
وصغيرها وفي أعماقه جشع زميله .
فتلاقيا وتقاتلا حتى ملأ صراخهما الوحشي أطراف الفضاء .
فرفعت النعجة نظرها إليهما منذهلة ، والتفتت إلى حملها وقالت :
(( تأمل ياولدي ، ما أغرب قتال هذين الطائرين الكريمين !!
أوليس من العار عليهما أن يتقاتلا ، وهذا الجو الواسع كاف لكليهما
ولكن صلّ ياصغيري ، صلّ في قلبك إلى الله ، لكي يرسل سلاماً إلى
فصلى الحمل من أعماق قلبه !
قالت صحيفة ورق بيضاء ( كالثلج ) :
(( قد برئت نقية طاهرة وسأظل نقيةً إلى الأبد . وإنني لأوثر أن احرق وأتحول إلى رماد أبيض ، على أن آذن للظلمة فتدنو مني وللأقذار فتلامسني ))
فسمعت قنينة الحبر قولها وضحكت في قلبها القاتم المظلم ولكنها خافت
وسمعت الأقلام أيضاً على أختلاف ألوانها ولم تقربها قط .
وهكذا ظلت صحيفة الورق بيضاء كالثلج ــــ نقيةً طاهرة ــــ ولكن ... فارغة .
قالت الحية للحسون : (( ما أجمل طيرانك أيها الحسون ! ولكن حبذا لو أنك تنسلّ إلى ثقوب الأرض وأوكارها . حيث تختلج عصارة الحياة في هدوء وسكون! ))
فأجابها الحسون وقال : (( أي وربي ! إنك واسعة المعرفة بعيدتها ، بل انت أحكم جميع المخلوقات ، ولكن حبذا لو أنك تطيرين )) .
فقالت الحية كأنها لم تسمع شيئاً : (( مسكين أنت أيّها الحسون ! فأنك لا تستطيع أن تبصر أسرار العمق مثلي ، ولا تقدر أن تتخطر في خزائن المماليك الخفية ، فترى أسرارها ومحتواياتها ، أما أنا فلا أبعد بك ، فقد كنت في الأمس متكئة في كهف من الياقوت الأحمر أشبه بقلب رمانة ناضجة ، وأضأل الأشعة تحولها إلى وردةٍ من نور .فمن أعطي سواي في هذا العالم أن يرى
فقال لها الحسون : (( بالصواب قد حكمت أيتها الحكيمة ، فلا أحد إلاك يستطيع أن يفترش ما تبلور من تذكارات العصور ، وآثار الدهور . ولكن وا أسفاه ،فأنك لا تغردين ! )) .
فقالت الحية : (( إنني أعرف نباتاً تمتدّ جذوره إلى أحشاء الأرض ، وكل من يأكل من تلك الجذور يصير أجمل من عشتروت )) .
فأجابها الحسون قائلاً (( لا أحد ، إلاك قد أهتدى إلى حسر القناع عن فكر الأرض السحري . ولكن واأسفاه ، فأنك لا تطيرين ! ))
فقالت الحية* : (( وأعرف جدولاً أرجوانياً يجري تحت جبل عظيم ، وكلّ من يشرب من هذا الجدول يصير خالداً . وليس بين الطير أو الحيوان من أهتدى إلى ذلك الجدول سواي )) .
فأجاب الحسون وقال (( بلى والله . فإن في منالك أن تكوني خالدة لو شئت . ولكن واأسفاة ، فأنك لا تغردين ! )) .
فقالت الحية (( وأعرف هيكلاً مطموراً تحت تراب الأرض ، لم يهتد إليه باحث أو منقب بعد ، أزوره مرة في الشهر ، وهو من بناء جبابرة الأزمنة الغابرة . وقد نقشت على جدرانه أسرار جميع الأزمنة والأمكنة )) .
فأجابها الحسون قائلاً (( بلى أيتها الحكيمة العزيزة ، فإنك لو شئت لاستطعت أن تكتنفي بلين جسدك جميع معارف الأجيال . ولكنك وا أسفاه ، لا تقدرين أن تطيري )) .
فاشمأزت الحية إذ ذاك من حديثه ، وارتدت عنه إلى وكرها وهي تبربر في ذاتها قائلة :
(( قبحه الله من غرّيد فارغ الرأس !!! )) .
أما الحسون فطار وهو يغني بأعلى صوته قائلاً :
(( واأسفاه، إنك لا تغردين ! واأسفاه، واأسفاه ياحكيمتي، فإنك لا تطيرين! )).
وفيما هو يحفر عثر على تمثال بديع من المرمر الجميل .
فأخذه ومضى به إلى رجل كان شديد الولع بالآثار والعاديّات وعرضه عليه .
فاشتراه منه بأبهظ الأثمان .
وبينما كان البائع راجعاً إلى بيته أخذ يفكر في ذاته قائلاَ :
(( وما أكثر مافي هذا المال من القوة والحياة ! إنه بالحقيقة ليدهشني كيف أن رجلاً عاقلاً ينفق مالاً هذا مقداره لقاء صخرٍ أصم فاقد الحركة ، كان مدفوناً في الأرض منذ ألف سنة ولم يحلم به أحد)
وفي الساعة عينها كان المشتري يتأمل التمثال مفكراً وقائلاً في ذاته :
(( تبارك ما فيك من الجمال ! تبارك مافيك من الحياة ! حلم أية نفس علوية انت ؟ هذه بالحقيقة نضارة أعطيتها من نوم ألف سنة في سكينة الأرض ؟ أنني والله لا أفهم كيف يمكن الإنسان أن يبيع مثل هذه الطرفة النادرة بمال جامد زائل )) .
دخل رجل في ليلة ظلماء إلى حديقة جاره ، فسرق أكبر بطيخة وصلت إليها يده وحملها وجاء بها إلى بيته .وعندما كسرها وجد أنها عجراء لم تبلغ بعد نموها ، فتحرك ضميره في داخله إذ ذاك ، وأوسعه تونيباً ، فندم على أنه سرق البطيخة ....
مُختارات من " السابق " جبران خليل جبران، المجموعة الكاملة