ترينر.. عواصف الالوان مع عواصف البحار
جوزيف تيرنر 1775-1851- يعتبره بعض النقاد والد مدرستي الانطباعية و التعبيرية . و قد امتاز اسلوبه بالكشف و التعبير عن حقيقة قوة وثورة الطبيعة و جلالها التي يمكن لها ان تكون مدمرة وجارفة لكل شئ.. وكان مغرما بعواصف الرياح واحوال البحار والامطار والضباب والضوء ورسم المراكب وفي التعبير عنها بعواصف الالوان التي تملئ اللوحة عنفا وضياءا ..
كتب راسكين عن تيرنر كثيرا وكانت كتاباته مؤثرة جدا حتى نال سمعة ذهبية عن طريق ذلك:
(ان تيرنر استثاء من كل القواعد و لايمكن ان نحكم عليه عن طريق اي مقياس من مقاييس الفن )
استقامة , اخلاص, رقة في القلب للغاية, عناد للغاية , ولا تردد , وفاء ..
خصائص اسلوبه
امتاز اسلوبه برسم المناظر وهو تقليد كان سائدا في انكلترا عند الرسامين في ذلك الوقت
وكان يعتقد تيرنر مثل غيره بان رسم المناظر هي حالة وعي وايقاض للمشاعر النائمة لاستكشاف اسرار الطبيعة والتعبير عنها بالالوان وحركة الفرشاة التي تصعد بضرباتها مع موجات البحر العنيفة والعواصف الثائرة.. وحسب بعض المحللين بان لوحات تيرنر كانت ترمز الى غضبه نحو الطبيعة المدمرة مثل العواصف التي حطمت وغيبت كثير من المراكب واهلها والاصدقاء.. كما كانت لوحاته تعبر عن الانفعال والعصبية التي ورثها من امه التي انتهت في مستشفى المجانين وماتت هناك. وعندما كان في سن 15 سنة سافر الى مناطق كثيرة من بريطاني هروبا من البيت والتنفيس عن غضبة لهذه الحالة المأساوية. وكان يرسم بالمائيات ثم ينفذها بالالوان الزيتية على القماش باحجام كبيرة وهو تقليد نراه ايضا عند الفنان الانكليزي كونستابل .
يذكر الناقد الانكليزي المعروف راسكين John Ruskin في كتابه - رسامون حديثون - 1843 ( بان اعمال تيرنر تجعلنا ننظر للعالم بمنظور جديد , حيث ان تقنيات و تأثيرات اللوحة تأتي براحة وعفوية مطلقة والتي توقظ فينا احساس بما نسميه - براءة العين - هذه الطريقة الطفولية التي نراها من خلال اللطخات اللونية دون ان نعرف معانيها هي كالاعمى عندما يرسم حيث يحلق بعيونه الى السماء ملقيا بحسه ومشاعره على الورقة..)
وكانت اعماله متقدمة جدا على معاصريه و على تقاليد الفن الانكليزي في ذلك الوقت و لهذا تعرض للنقد الشديد ومنعت اعماله من دخول المعرض السنوي الربيعي للاكاديمية الملكية في فترة من الفترات, وهو ماحصل ايضا للانطباعيين في اول الامر في فرنسا. مما اضطره الى تحويل بيته الى كاليري لاعماله.. وبذلك استطاع ان يتخلص من معانات الرفض في معرض الربيع . كما استطاع ان يوسع علاقاته وسمعته في الوسط الاجتماعي .
وقد رد تيرنر على ناقديه: ( لا ارسم كي يفهم.. انما اريد اعرض كيف يضيئ المشهد الآخر.. )
ويذكر النقاد انه من الصعب جدا ان يعمل استنساخ لاعمال تيرنر فهو يملك خصوصية لا تستطيع يدا اخرى تقليده على الاطلاق وهذه التقنية التي تمتاز بالطبقات اللونية الشفافة والفرشاة الناعمة التي تترك آثارها على القماش بمادة زيتية كثيفة او احيانا شفافة بارنيشادة وبحساسية و تعبيرية عالية الدرجة ' وتلك الاشرعة الظاهرة والمختفية او المنكسرة وسط البحر كلها غير قابلة للتقليد .
اما مائياته و تخطيطاته فهي محضرة بطريقة عفوية وغريبة يسودها الشخبطة احيانا حيث ترى آثار جرات اظفر الاصبع واحينا يطوي الورقة ويضعها في جيب معطفه تاركا تجاعيدا عليها ..
البدايات
كان والده وليم تيرنر يعمل حلاقا وكانت رسوم جوزيف المبكرة معلقة في المحل . اما والدته فقد اصيبت بمرض الاعصاب و ماتت , وعندما بلغ 14 سنة ذهب لزيارة عمه في الريف قرب مدينةOxford ومن هناك شعر بجمال مناظر الريف و الحقول الخضراء فأنجذب اليها وأخذ يخطط ويرسم بالمائيات ومن ثم بدأ يركن الى حب الطبيعة و مناظرها الخلابة.. وكان اول من احتضن تيرنر هو الفنان والمهندس توماس مالتون حيث تعلم في مرسمه مبادئ الرسم Tomas Malton ثم دخل الاكاديمية الملكية سنة 1789-1793.. وفي اثناء ذلك عرضت له لوحة مائية لاول مرة في المعرض السنوي للاكاديمية الملكية . وفي سنة 1791 عرضت له لو حتين وهكذا اخذ يعرض مع كبار الفنانين في ذلك الوقت..
في سنة 1799 رشح الى عضوية الاكاديمية الملكية وبعد ثلاثة سنوات اصبح عضوا كاملا.. وقد
تأثر تيرنر بالفنانين المعاصرين له امثالJoshua Rynoldes
وRichard Wilson و
Claude Joseph Vernet كما تأثر بالفنان الايطاليClaude Lorrain ولوحته المشهورة
(صعود الملكة سباء الى المركب -1648- ) كما تأتُر باعمال الهولنديين ودرس اعمال روبنز ورمبرانت وخاصة رسامي المناظر .
سافر الى ايطاليا عام 1819 وتأثر بالوان الرسامين الايطاليين وبالضوء والالوان الحارة و رسم خلال تلك الزيارة التي استمرت عدة اسابع- 1200- تصويرة مائية وتخطيط . وكانت هذه الرحلة تعتبر انقلابا كبيرا بالنسبة الى الوانه وتقنياته. كما زار فينيسيا ورسم لها عدد من الرسوم المائية . ثم سافر الى عدة دول اوربية اخرى منها النمسا عام 1802 ...
واشتهر في فرنسا والمانيا وزوق اعمال الادباء الرومانسيين الذين كانت اعمالهم اكثر قراءه في المجتمعات الاوربية آنذاك امثال: Walter Scott وLord Byron وSamuel Rogers و غيرهم ..
وقد عمل تيرنر دراسات معمقة حول الطبيعة من عواصف وامطار ورياح و سحاب و احوال البحر وكذلك تغيرات المناخ في اوقات اليوم و تأثيرات الضوء على ذلك . وقد مهدت هذه الدراسات الى ظهور فناني المدرسة الانطباعية حيث اتخذت هذه الدراسات بعد ذلك اتجاها علميا . كما اهتم تيرنر باللون اكثر من الشكل و نلاحظ ذلك في ضربات فرشاته العريضة التي تأخذ مساحة ثلاثة ارباع اللوحة بينما نرى الشكل غارقا وسط العواصف اللونية , مثل لوحة حريق مجلس النواب البريطاني عام 1834. وفي آخر ايامه اصبحت الاشكال عنده عباره عن لطخات وبقع لونية تعبر عن معنى ومفهوم الشكل وهو مما ساعد على ظهور المدرسة التعبيرية خاصة الالمانية. وكان تأثيره واضحا على ادوار مونخ ..
يذكر بعض النقاد ان تيرنر كان له شخصية معقدة , وهي عباره عن مجموعة من التناقضات والتي لا تنسجم مع شهرته العالمية . وعاش غير متزوج و فضل الانعزال والابتعاد عن الناس مما جعله غير اجتماعي وشاذ . وقد عاش مع امرأة مطلقة . كما فضل صحبة البحارة والعاهرات او زبائن حانات الجيش في لندن.. وقيل في الموروث الثقافي الاوربي وحسب تعليق هربرت ريد: (يقف الخير والشر قريبا من بعضهما ...) كما وصف آخرين تركيبه العضوي بانه قصير القامة معكوف الانف ذا يدين صغيرتين وكذلك قدماه ..
ومع كل ذلك فقد كان في جوهره مصورا شاعريا رومانسيا وكان اكثر المصورين خصوبة و غزارة حيث انتج - 19,000 - عملا فنيا بين تخطيط و مائيات والوان زيتية وغيرها وكان له تأثيرا كبيرا على ظهور المدارس الفنية الحديثة .
بيد ان المثير في آخر عمره هو ثورته في اطلاق حرية الفرشاة و تحطيم الشكل و سيطرة الضؤء الذي ينبعث منتشرا من بين الغيوم او العواصف الجياشة التي تأخذ شكل الدوران احيانا ..
ومن اعماله المشهوره - حريق البرلمان عام 1834 حيث يذكر ان تيرنر رسم المشهد من عدة زوايا او اماكن مختلفة متنقلا بخفة حاملا معه مائياته و ورقه . ثم نفذها بعد ذلك على الزيت بحجم كبير . كما رسم لوحة - السلام - عام 1842 و تمثل رمي جثامين احد البحاره في وسط الماء و كان ذلك المتوفي هو صديق حميم لتيرنر . و قد رسمه على شكل ضوء ساطع نازل من السماء و ضارب بعمق البحر بقوة خارقة , معبرا بذلك عن القدسية و النبل الذي كان يتمتع به ذلك الرجل و حبه له .
ثم رسم- السفينة الحربية - 1838.. وهي من اللوحات الانطباعية المبكرة حيث تضهر فيها الشمس مغربة تعكس ضوءها الجميل على الماء و قد غطى اللون الاحمر جميع اطراف اللوحة .
اما لوحة- مدينة على شاطئ البحر 1833- فهي بدون شك من اجمل الاعمال المائية الانطباعية والتي تذكرنا باعمال مونيه ..
ثورة الالوان
يبدو ان فناني عصر القرن الثامن عشر كان اول خطوة لهم هو الثورة على تقاليد المدرسة الكلاسيكية و التقاليد التي كانت ترضخ بكل ثقلها على المجتمع , فكان المجتمع اسير و سجين المعتقدات , والتقاليد اكثر من سجين الاحجار ... فكان هذا الحراك الفني اضفى الى حراك اجتماعي وبذلك اصبحت هناك قاعد شعبية للتغير والتحرر . منها تحرر فرشة الفنان و اطلاق حريتها بالحركة و عدم تقيدها بالموروث القديم كما حدث للفنان غويا الاسباني في آخر عمره و تيرنر من بعدة ثم جماعة الانطباعية .. وهنا لابد لنا من ان نذكر بان تحرك تيرنر كان انقلابا جزئيا بالمفهوم الحديث ثم تحول هذا الانقلاب الى ثورة للتغير الشامل. وعندما حرروا الفرشاة والالوان ذهبوا الى الشكل و هدموه و نزعوا منه القدسية المبتدعة .. وبهذا فقد فتحوا الباب الى ظهور المدارس الفنية الحديثة .. وبذلك يمكن ان نقول بان الفنانين و الادباء كان لهم دورا كبيرا في قيادة مسيرة التغيير الاجتماعي في ذلك الوقت ...