مقدّمة
اُتّهم الشيعة قديماً وحديثاً بسبّ الصحابة ولعنهم، وجرت عليهم بسبب هذه التهمة محن وآلام كثيرة. بعدما حكم عليهم بالكفر.
الأمر الذي يجعل اللعن والتلاعن بين المسلمين ظاهرة تلفت نظر الكثيرين، وتجعلهم يتساءلون عن حقيقة اللعن من الناحية الشرعية، وحكمته وأبعاده المختلفة.
والدراسة التي بين يديك ـ عزيزي القارئ ـ محاولة جادة في هذا الاتجاه نحاول من خلالها تسليط الأضواء على مفهوم اللعن، في اللغة، وفي الكتاب والسنّة النبوية، وموقف مدرستي الخلفاء وأهل البيت(عليهم السلام) منه، بغية التوصل إلى النتائج المطلوبة في هذا المضمار، وأهمها تحقيق الحق في اتهام الشيعة بسبّ جميع الصحابة.
مفهوم اللعن والفرق بينه وبين السبّ والشتم
في ضوء اللّغة
قال الراغب الإصفهاني: «اللعن: الطرد والإبعاد على سبيل السخط، وذلك من الله تعالى في الآخرة عقوبة; وفي الدنيا انقطاع من قبول رحمته وتوفيقه، ومن الإنسان دعاء على غيره»[1].
وقال الطريحي: «اللعن: الطرد من الرحمة... وكانت العرب إذا تمرّد الرجل منهم أبعدوه منهم وطردوه لئلاّ تلحقهم جرائره، فيقال: لعن بني فلان...»[2].
وقال ابن الأثير في النهاية: «أصل اللعن: الطرد والإبعاد من الله، ومن الخلق السبّ والدعاء»[3]. وعلى هذا الجوهري في صحاحه أيضاً[4].
هذا هو المفهوم اللغوي للّعن، أما السبّ، فقال ابن الأثير: «السبّ: الشتم»[5].
وكذلك قول الجوهري[6] والطريحي[7]، وابن منظور[8]، وكأنهما ـ أي السب والشتم ـ مترادفان، سوى مائز ذكره الاصفهاني في المفردات هو: «أن السبّ: الشتم الوجيع»[9].
والشتم عند الطريحي هو: «أن تصف الشيء بما هو ازراء ونقص»[10] وعند ابن منظور: «قبيح الكلام وليس فيه قذف»[11].
وخلاصة الأمر أن اللّعن: إن كان من الله سبحانه فمعناه الطرد من الرحمة، وإن كان من الناس فمعناه الدعاء بالطرد، وبالتالي فهو شيء غير السب والشتم اللّذين يعنيان الكلام القبيح المستخدم في الذم والتنقيص.
في ضوء القرآن الكريم:
وكما فرّقت اللغة بين اللعن وبين السب والشتم، فرّق القرآن بينهما أيضاً، حيث نجده قد استخدم مادة «لعن» سبعاً وثلاثين مرة منسوبة إلى الله سبحانه وتعالى، ومرّة واحدة منسوبة إلى الناس، وهذا الاستخدام بحد ذاته يدل على مشروعيته من حيث الأصل، بينما وردت مادة «سبَبَ» مرّة واحدة في سياق النهي وهي قوله تعالى: (ولا تسبّوا الذين يدعون من دون الله فيسبّوا الله عدواً)[12].
وهذا النهي يدل على قبح السب والشتم، ولو كان اللعن مشاركاً لهما في ذلك، لنهى القرآن الكريم عنه، فدلّ عدم نهيه عنه، واستخدامه له، ونسبته الى الله سبحانه وتعالى سبعاً وثلاثين مرة في القرآن الكريم على أنه من ماهية صحيحة ومطلوبة ومشروعة.
في ضوء السنّة الشريفة
وإذا جئنا إلى السنّة النبوية وجدناها تشتمل على عشرات النصوص التي استخدم النبي(صلى الله عليه وآله) فيها اللعن، ازاء أعداء الرسالة من المشركين والمنافقين وأهل الكتاب، وازاء حالات من المسلمين، يظهر فيها النبي(صلى الله عليه وآله) سخطه الشديد مما يقترفونه من مخالفات، أو تحذيره الشديد لهم من مقاربة الكبائر والموبقات، وقد أورد صاحب موسوعة أطراف الحديث النبوي في مادة «لعن» قريباً من ثلاثمائة عنوان حديث نبوي مصدّر بكلمة اللعن[13]، رغم أنه لم يوفق لجمع كل أحاديث هذا الباب، وفات عليه بعض مما هو مشهور فيه، كلعن النبي(صلى الله عليه وآله) للمتخلف عن جيش اُسامة[14].
خصائص اللّعن والملعون في الكتاب والسنّة
وحينما ننظر في آيات اللعن الواردة في القرآن الكريم نجدها على أربعة طوائف: فمنها آيات وجهت اللعن إلى إبليس، مثل قوله تعالى: (وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين)[15]، ومنها آيات وجهت اللعن إلى عموم الكافرين، مثل قوله تعالى: (إن الله لعن الكافرين وأعدّ لهم سعيراً)[16]، ومنها آيات وجهت اللعن إلى أهل الكتاب عامة واليهود خاصة، مثل قوله تعالى: (لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم)[17]، والقسم الرابع منها صبت اللعنة فيه على عناوين سلوكية عامة تشمل المسلمين، مثل عنوان الكاذبين في قوله تعالى: (والخامسة أنّ لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين)[18]، وعنوان الظالمين، في قوله تعالى: (ألا لعنة الله على الظالمين)[19]، وعنوان إيذاء الرسول(صلى الله عليه وآله) ، في قوله تعالى: (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة)[20] وعنوان رمي المحصنات، في قوله تعالى: (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة)[21]. وعنوان القتل، في قوله تعالى: (ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعدّ له عذاباً عظيماً)[22]، وعنوان النفاق، في قوله تعالى: (وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم)[23] وعنوان الفساد وقطع الرحم، في قوله تعالى: (أن تفسدوا في الأرض وتقطّعوا أرحامكم* اُولئك الذين لعنهم الله فأصمّهم وأعمى أبصارهم)[24].
وكأن القرآن يتسلسل في اللعن من رمز الشر المتمثل بإبليس، إلى الفئات البشرية التي تتجاوب معه وتستجيب لندائه، فيبدأ بالكافرين كحلقة اُولى، ثم بأهل الكتاب كحلقة وسطى، وكلتا الحلقتين تمثلان أعداء الإسلام من الخارج، ثم يتدرج إلى داخل الدائرة الإسلامية فيوجه اللعن إلى أعداء الإسلام من الداخل كالمنافقين، ثم ينتقل منهم إلى آخر حلقة في خط الشر المتمثلة بالظلم والقتل وقذف المحصنات وقطع الرحم، أي إلى الحلقة التي تهدد النظام الاجتماعي بالانهيار.
وهكذا يتعقب القرآن باللعن خط الشر من حلقاته المعادية للتوحيد والإسلام من الخارج، إلى حلقاته المعادية لهما في الداخل، إلى الحلقات الاجتماعية التي تهدد النظام الاجتماعي الإسلامي بالخطر وتعرقل سيره وحركته على طريق السعادة والفلاح، والذي يلقي نظرة مقارنة بين الكتاب والسُنّة النبوية في هذا المضمار يتراءى له بوضوح أن السنّة النبوية ركّزت وتوسعت في لعن الحلقة الأخيرة، أكثر من سائر الحلقات، والدليل على ذلك أن اللعن على لسان النبي(صلى الله عليه وآله)قد انصبّ على عناوين اجتماعية كلعن الخمر والربا والرشوة، ومانع الصدقة والزكاة... إلخ كما هو واضح من عناوين هذا الباب من الأحاديث النبوية الواردة في المدونات الحديثية[25].وللحيث بقيه