ولم يسلم من ناره حتى النواب والاعيان!
كان (قانون دعاوى العشاير) من أسوأ ما جلبه المحتلون البريطانيون للعراق في احتلالهم الاول من الهند، فهو ابعد ما يكون عن (القانون) شكلا وموضوعا ولكن المستعمرين البريطانيين الذين مارسوا ابشع انواع الجور والتعسف حيال القارة الهندية التي كانت مبتلاة باستعمارهم، واعتبره الجلاوزة الذين نفذوا ما اسموه بالقانون نجاحا في ادارة شؤون البلاد والعباد يصلح للتنفيذ في العراق، فكان فرض الامور بالقوة على شعب مستضعف يكسبها المشروعية او الصلاح..!
في حين ان تطبيق (قانون العشاير) كان من بين اسباب الثورة العراقية الاولى ضد الاستعمار واعوانه.
بل انه كان من اهم عوامل التذمر والاستياء التي استغلها بعض محترفي الحكم من ساسة العهد الملكي لاثارة الحركات العشائرية للاطاحة بمن يريدون الاطاحة بها من الحكومات واعتلاء الكراسي بدلهم. والغريب ان هؤلاء الساسة الذين تبنوا فكرة الغاء وتعديل الكثير من القوانين والانظمة التي وضعت لغرض مصالح المستعمرين واعوانهم بالقوة، كانوا اول المترددين في تحقيق ما كانوا يطالبون به. حتى ان هذا القانون طبق على عدد كبير من الساسة والمفكرين لمجرد معارضتهم الحكم فابعدوا الى خارج مناطق سكناهم وفرضت عليهم (الاقامة الاجبارية) في اماكن موبوءة ونائية كما فعل نوري السعيد في ابعاد فهمي المدرس والكاتب الكبير رفائيل بطي، الصحفي المعروف لنشرهما مقالات ضد المعاهدة العراقية – البريطانية اعتبرت ماسة بالذات الملكية.
*وبالرغم من مهاجمة المعارضة التي كانت متمثلة بصادق البصام وبهجة زينل وسعد صالح وصالح جبر ومعروف الرصافي وغيرهم. فان نوري السعيد ووزير داخليته ناجي شوكة ردا على المعارضة بعنف واصر الاخير باتخاذ الاجراءات القانونية المناسبة ومن المفارقات ان رشيد عالي الكيلاني الذي كان يدعو الى الغاء قانون دعاوى العشاير باعتباره من القوانين الاستعمارية واستمر في تأييده هذه الدعوة بعد تسنمه منصب وزارة الداخلية في وزارة ياسين الهاشمين الثانية عام 1935 تنكر لما كان يدعو اليه، حتى جاء اليوم الذي طبق فيه جميل المدفعي هذا القانون على رشيد عالي الكيلاني بالذات حين فرضت عليه الاقامة الاجبارية في قضاء (عنه) كما فرضت على اعوانه من الساسة الاقامة في العديد من المناطق النائية كعبد الوهاب محمود وطالب مشتاق وفايق السامرائي وغيرهم ممن لاتحضرني اسماؤهم!
*ولعل اقسى ما وجه الى المعاهدة العراقية – البريطانية من اعتراضات كونها الزمت الحكومات العراقية بتنفيذ القوانين التي وضعت خلال الاحتلال والانتداب مع انها مخالفة للقانون الاساسي من حيث الاسس والمبادئ حتى قيل ان هذه المعاهدة صيغت من الفاظ البيان الذي تم فيه الاحتلال والانتداب البريطانيين للعراق.
*لقد كان عدد كبير من النواب ومنهم بعض نواب العشاير يدعون الى الغاء القانون السالف الذكر في عهد وزارة الهاشمي وقد وافقت الوزارة بلسان وزير العدل محمد زكي على تأليف لجنة من بعض القوانين والنواب لدراسة هذا القانون وتعديله او الغائه وشاءت المصادفة ان يكون العلامة عبد الرزاق السنهوري يومذاك منتدبا للعمل في العراق فاقترح بعض النواب الاستعانة به ليكون عمل اللجنة امتن وارسخ.
وبالفعل فقد ادخل السنهوري على القانون تعديلات مهمة فالغى الكثير من مواده وازال الكثير من المساوئ التي كان يتعرض لها الناس ليس من تطبيق القانون فقط بل من اساءة تنفيذه.
*وبعد انتخاب وزير العدلية محمد زكي لرئاسة مجلس النواب تولى رشيد عالي الكيلاني وزير الداخلية الوزارة المذكورة وكالة وحل محل وزيرها في رئاسة لجنة تعديل قانون العشاير فلما رأى الصيغة الجديدة المقترحة من قبل السنهوري رفضها باعتباره – أي السنهوري – قد جاء بأحكام تضعف من قوة الحكومة (الانضباطية) واذا كان الشيء بالشيء يذكر فان كامل الجادرجي الذي انشق في وقت سابق عن حزب الاخاء الوطني، الذي كان يتزعمه الهاشمي والكيلاني وانضم الى المعارضة بقيادة جعفر ابو التمن، كتب مقالا بتوقيع مستعار لنشره في احدى الصحف الدمشقية يعترض فيه على اسناد وزارة العدلية بالوكالة الى وزير الداخلية الاصيل، لان ذلك يشكل خرقا للدستور وعدوانا من السلطة الادارية على السلطة القضائية ويحد من استقلال كل سلطة.
*وقد كان هذا المقال من بين المقالات التي حملها صحفيو دمشق الى رئيس الوزراء الهاشمي فاحالها الاخير الى بكر صدقي رئيس اركان الجيش لاحالة كاتب المقالات المذكورة الى المجلس العرفي العسكري لكن التعاون الذي بدأ مؤخراً بين بكر صدقي والمعارضة جعله يتهاون في احالة الجادرجي للمجلس العرفي.
وقد نشرت هذه المقالة في كراس نشر بعد انقلاب بكر صدقي بتوقيع عبد الله البصير كما فصلنا ذلك في حلقة سابقة من (ذكريات ايام زمان).
*ولقد استمر تطبيق قانون العشاير بعد وزارة الهاشمي والوزارات التي تلتها بشكل جعل المطالبة بالغائه تزداد على تعاقب السنين، وكان هذا التطبيق من القساوة بحيث نزع (الحصانة البرلمانية) التي كان يتمتع بها بعض النواب والاعيان فطبق ضدهم عندما حاولوا معارضة بعض الوزارات بل انه طبق في عهد وزارة نور الدين محمود بحق عدد من الساسة المعارضين.
*وحين ارادت بعض الحكومات ان تعدل هذا القانون صاغت بديلا له اسم (ادارة القرى) الذي القى على سكان القرى والارياف مسؤوليات وتبعات ضخمة وكان الشيخ محمد رضا الشبيبي في طليعة من انتقدوا لائحة هذا القانون الذي لم يتخلص الناس من احكامه الا بعد اندلاع ثورة 14 تموز عام 1958 ضد العهد الملكي وقيام الحكم الجمهوري الزاهر.
جريدة البلد 1966