الإنسان كائن اجتماعي يعيش ضمن مجتمع بشري يرتد أثر فعله الاجتماعي على شخصيّته بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، سلباً كان أو إيجاباً، والإنسان بما يحمل من إرادة وتكوين نفسي شكلته تجارب وخبرات متفاوتة يتعامل مع نفسه ومع ما حوله بطرق وأساليب متباينة .. وهذا التعامل يصنّف الناس إلى إنسان إيجابي بنّاء، وآخر سلبي هدّام.
ويصنع الإنسان وجوده، ويبني ذاته وشخصيته وحياته سائراً ضمن عوالم الطبيعة، وحركة الموجودات .. وهو بعد ذلك تصنف ذاته وشخصيّته ، وتقاس بما ينتجه من أثر ، وما يصنعه من فعل .. فأثره يدل عليه ، وصدق القائل : خـذ لك زادين من سـيرة ومن عمل صالح يدخــر ** وكن في الطريق عفيف الخطأ شريف السماع ، كريم النظر ** وكن رجـلا إن اتوا بعـده يقولـون : مر وهـذا الأثـر
فالإنسان بفعله المباشر ، أو بما ينتج من فعل ، وبما يلد هذا الفعل من نتائج وآثار يصنع الحياة ، إن خيراً فخير ، وإن شرّاً فشر .
فكل مسلم مطالب بترك اثر في الحياة والمشاركة فيها بنوع من الخير حسب استطاعته ولا معنى لحياة امرىء سلبي ، فلابد أن يكون للمرء دورا رياديا في هذه الحياة ، أن يكون فاعلا في حركة الحياة وقيادة المستقبل.. أن يكون شيئا نافعا في دنيا الناس.. أن يضيف شيئا جديدا على هذه الحياة
فالفرد في مجتمعه لا يكتفي منه بتقواه وصلاحه ومجموعة الفضائل القاصرة على نفسه بل لابد وان ينفتح على المجتمع فكما قال مصطفى صادق الرافعى :
إن لم تزد شيئا على الدنيا كنت أنت زائدا عليها
والهدم والبناء ظاهرتان متضادّتان في حياة الفرد والجماعة،وبينهما صراع ونزاع متواصل،قد ينتهي إلى نتائج بنّاءة أو سلبية هدّامة .. فالإنسان بطبيعته الفطرية جزء من عالم الطبيعة الخيِّرة ، والأصل في حياته وسلوكه ، لو استقام على الفطرة ، لكان إنساناً إيجابياً بنّاءً . غير أنّ عوامل عديدة تحرف فطرته عن قانون الخيِّر، وتجعل منه إنسانا هدّاماً ، وعنصراً عدوانياً ينزع إلى الهدم والتخريب والعدوان ، لذا كانت مهمّة الشريعة والقيم الإلهيّة حماية الفطرة من التلوّث والانحراف ، والتأثّر بنزعات الشرّ والعدوان ..
وفي الهدي النبوي نقرأ دعوة الهادي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الإنسان المؤمن أن يكون كالنحلة يتعلّم منها ، ويتمثّل حياتها في نقاء الطبيعة ، وخيريّة الفطرة ، وإيجابية السلوك ، فيصف المؤمن بقوله : «المؤمن كالنحلة ، إن أكلت أكلت طيِّباً ، وإن وضعت وضعت طيِّباً ، وإن وقعت على عود لم تكسره» .
تشبيه رائع ، ووصف جميل ، يشخّصه الرسول الكريم محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)في الإنسان المؤمن الذي اهتدى بهدي الرِّسالة ، وتشبّع بأدب النبوّة ، وانتظم في سرب السائرين إلى الله سبحانه
إنّه يشبّه المؤمن في الناس، كالنحلة في الأحياء، فيما يأخذ ويعطي ويترك من أثر في الوجود .
والتشبيه النبوي هذا يدعونا إلى العودة إلى كتاب الله للإطلال على عالم النحل ، ووصفه في القرآن لتكتمل الصورة ، ويتعمّق الوعي وتتفتّح الآفاق ، ويتقارب العالمان ، عالم المؤمن وعالم النحل في الأخذ والعطاء والضبط والنظام ، وفي الحركة والنشاط ، قال تعالى :
(وأوحى ربّكَ إلى النّحلِ أن اتّخذي من الجبالِ بيوتاً ومن الشّجرِ وممّا يعرشون * ثمّ كلي من كلّ الثمراتِ فاسلكي سبل ربّكِ ذللاً يخرجُ من بطونِها شرابٌ مختلفٌ ألوانه فيه شفاء للناس إنّ في ذلكَ لآيةً لقوم يَتفكّرون ). ( النحل / 68 ـ 69 )
فحياة النحل في هذه الآية حركة ونشاط دؤوب ونظام وانتقال من طيب ، إلى طيب ومن أثر نافع إلى أثر نافع .
وفي تطبيقات الوصف النبوي نجد التشبيه الرائع ، نجد الدلالات الجامعة في حياة الإنسان المؤمن مشبهة بحياة النحل ، انّه يصف المؤمن فيما يأخذ ويعطي .. كما هو وصف النحل في القرآن ، لا يظلم أحداً حين يأكل ويستهلك ، فهو لا يأكل إلاّ الحلال الطّيب ، لا يسرق ، ولا يتناول محرماً .
فالمؤمن كالنحلة في طعامها وغذائها ، تتناول رحيق الأزهار ، وسكّر الثمار .وتعطي العسل شفاءً وغذاءً للناس ، وتسلك سبل ربّها ذللاً ، لا تحيد عن نظام الفطرة والتكوين .
فهو في الوصف والبيان النبوي خير وبركة ، يرجو الناس عطاءه ، وما يصدر عنه ، كما يرجون عطاءالنحلة ، فلا يخشى أحد من النحلة إن تفرز سمّاً ، بل ينتظرون منها العسل النقي ، طعاماً وشفاء ، متعة للحس والنفس.. وكذا يكون المؤمن بالله تعالى، خيراً يرتجى، وإحساناً ينتظر، فلا يتوقّع منه الشرّ والعدوان ، كما لا يتوقّع من النحلة أن تضع سمّاً ، أو تفرز مرارة الحنظل .
وفي الهدي النبوي كان المؤمن كالنحلة : إن وقف على عود نخر لم يكسره ، لم يكن عنصر هدم ولا تخريب . خفيف الكلفة ، سهل المؤونة ، لا يثقل على أحد ، ولا يعبث بعالم الطبيعة والأحياء .. فالناس منه في راحة ، ولهم فيه رجاء وأمل ، وهو كما أ نّه مأمول الخير ، فانّه مأمون الشر والأذى …
وعلى الجانب الآخر نجد القرآن يتحدّث عن التخريب والمخرِّبين الذين يهدِّمون بناءهم بأيديهم .. بفعلهم ، وسوء تفكيرهم وتدبيرهم ، ويدعوهم إلى الاعتبار والتفكّر في عمل هذا الإنسان المخرِّب الهدّام الذي يهدِّم بناءه وبيته وأهدافه .. إن القرآن يتّخذ يهود بني النضير مثلاً للهدم والتخريب ، وسوء التصرّف والتدبير ، قال تعالى :
( … وظنّوا أنهم مانعتهم حُصونهم منَ اللهِ فأتاهُم الله مِن حيث لم يحتسبوا وقذفَ في قلوبهم الرُّعب يُخرِبون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبِرُوا يا أولي الأبصار ). ( الحشر / 2 )
تلك صورة من أعماق التأريخ يلتقطها القرآن، ويسجّلها مثلاً وعبرة لأجيال المؤمنين ، لئلاّ يخطئوا الحساب فيخربوا بيوتهم بأيديهم ، ويهدِّموا بناءهم ووجودهم الفكري والسياسي ، كما فعلت تلك المجموعة من اليهود في ذلك الموقف ..
لذا فهو يُعقِّـب بقـوله : (فاعتبروا يا أولي الأبصار ) انّه يوجِّه الخطاب لأصحاب العقول الواعية ، والعقول النيِّرة للرؤية والتشخيص لتعتبر بهذا الحدث التاريخي فلا تكرّر الخطأ
إنّ المجتمع الإنساني ، والجماعة الإنسانية ، والحياة الاجتماعية ، بكل أنشطتها الثقافية والمالية والسياسية والخيرية .. كثيراً ما تضم عناصر تحمل روح الهدم والتخريب ، وإن بدا على ظاهرها الرغبة في المشاركة الخيرية أو الجماعية ذات النفع العام ، غير انّها تنطلق من حسابات ومصالح أنانية ..وحين ترى تلك المصالح الذاتية لا تتحقّق في هذا المشروع القائم أو ذاك ، فلا تتورّع عن هدمه وتخريبه ، وقد ترى مصلحتها الذاتية في إعاقة هذا المشروع الثقافي أو السياسي أو الخيري أو غيره ، فتسعى لوضع العراقيل والمعوقات ، والعمل على الحيلولة دون نجاحه . بل وتدخل في معركة إسقاط ومنازعة للساعين في تلك المشاريع والنشاطات .
فكم خسرت الأمة على امتداد تاريخها من مواقف ومشاريع كان بالإمكان أن تؤدِّي دوراً كبيراً للمجتمع ، لولا عمليات الهدم والتخريب الأناني ، والحسابات الذاتية العمياء ، التي لا تبصر الدُّنيا إلاّ من خلال الأنا العدواني الذي يسعى لمصادرة الآخرين ، وإلغاء كل وجود لا يتحرّك من خلال تلك التصوّرات والمفاهيم المعيقة ..
إنّ وجود تلك الحالات يشكِّل خطراً على بنية الفرد والمجتمع ومؤسّساته الاجتماعية والفكرية والسياسية والخدمية وغيرها .. وهو ما تعاني منه مجتمعاتنا وأنشطتنا المختلفة