مما لا جدال فيه أن للعمل أهمية كبرى بالنسبة للفرد و المجتمع. فهو غاية إنسانية و واجب اجتماعي في الحياة و هو في نفس الوقت من القيم الدينية التي تصل إلى مستوى العبادة. و إذا كان كل ما في الوجود يعمل من أعظم الأجرام السماوية التي لا تتوقف لحظة عن الدوران في أفلاكها إلى النملة التي لا يسمع دبيبها على الأرض إلى الذرة التي لا ترى إلا بالمجهر. فالإنسان لا يستطيع أن يخرج عن نواميس الكون فيعيش بلا عمل و إلا لفضته الحياة ونبذه المجتمع و تحطم كيانه و فقد معنى و جوده.
فبالعمل يعبر الإنسان عن وجوده وينهض برسالته في الكون حيث يقول الله تعالى " وما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدوني ". ولما كان العمل الشريف نوعا من العبادة و التقرب من الله فان العامل يستجيب من خلال عمله لأوامر الله تعالى و ينهض برسالته في الكون و بالتالي يجب أن يؤديه بكل إخلاص كما يؤدي صلاته بكل تبتل و خشوع . ولقد كرم الإسلام العمل ولم يستعيب أي نوع منه ولقد كان أنبياء الله و رسله يعملون في مهن مختلفة . فقد كان ادم عليه السلام يعمل في الزراعة و داود عليه السلام في الحدادة و نوح عليه السلام في التجارة و موسى عليه السلام في الكتابة و رسولنا محمد صلى الله عليه و سلم في التجارة. وقد كان يبشر من أمسى كالا من عمله بالمغفرة قائلا " ما أكل أحد طعاما خير من أن يأكل من عمل يده ".
هل تراك فخورا بنفسك متصالحا مع ذاتك مرتاح الضمير و أنت تستهلك ما لا تنتج مخالفا أوامر رسولنا الكريم . ما أشبهك بالنبات الطفيلي . بل ما أشبهك بالمتسول الذي يريق ماء وجهه عند أبواب الآخرين صاغرا ذليلا. وبالتالي فان العمل شرف بواسطته يضمن الإنسان سعادته و يحافظ على كرامته لذا وجب احترام كل الحرف لأن المجتمع في حاجة ماسة إليها حيث يقول الرسول صلى الله عليه و سلم " إن الله لا ينضر إلى أجسامكم و لا إلى صوركم و لكن ينضر إلى أعمالكم ".
و العامل يحقق من خلال عمله توازنه النفسي و الذهني و الجسدي. فالعمل يعبر عن ذات الإنسان و هو دليل وجوده حيث يقول رجب بو دبوس " في كل إنتاج ينطبع وجود الإنسان اعني أن كل إنتاج يحمل جزءا من وجود الإنسان ". إذن فان العمل هو إثبات لحضور الذات حيث أن كل ما تنتجه بعملك تنطبع عليه صورتك أي أن كل انجاز كرسي طاولة سرير ... و راءه أنامل ذهبية و فكر وقاد يمثلان جزءا من ذات العامل . كما إن العمل يمنح الإنسان إحساسا جميلا بالقدرة علي الخلق و بوجود معنى ومبررو غاية لحياته و يخلصنا من الشعور بالخواء و العدمية و اللامعنى على عكس الأثرياء الذين يفقدون إحساس الوجود حيث يقول توفيق الحكيم "الحركة بركة و التواني هلكة و الكسل شؤم و كلب طائف خير من أسد رابض و من لم يحترف لم يعتلف ". و العمل أيضا يعطيك إحساسا بقدرتك على قهر الزمان فالعامل هو صانع التاريخ و المشارك فيه بكل كرامة و شرف و عزة .
و العمل يشغل الإنسان عن همومه من مرض أو مشكل كما انه مفيد للصحة حيث أن العامل و هو يشتغل يمارس الرياضة التي تقيه من الأمراض و تحمي جسمه من الكبر . أضف إلى ذلك أن الإيمان بعمل ما و الشغف به هو جدار الدفاع الذي يحمي المرء من مكاره اليأس و بالتالي فان العمل يمنحك الشعور بالأمل و يبعد عنك الإحساس بالإحباط و هو أيضا يرتقي بالذهن و يقيه من توافه الدنيا و صغائر العيش إذ يقول محمود تيمور" ما العمل إلا استغراق في أعماق الحقائق و عزوف عن التفاهة و الفراغ."و هكذا فانه ينمي القدرات الذهنية و يفتق المواهب و يدفع عن الإنسان الإحساس بالملل فهو يكسر الملل الرتيب و يوسع دائرة علاقاتك بمعارفك و ينمي خبراتك على مواجهة المشاكل و المآزق و المطبات و الصعوبات و يحفظ كرامة الإنسان من المذلة و يحقق له الاستقلالية و الحرية و خلاصه من التبعية ثم انه يبعد عنا على حد عبارة الفيلسوف الفرنسي فولتير " ثلاثة هي القلق و الرذيلة و الاحتياج ".
و لا تخفى عن الألباب الحصيفة ما لمثل هذه الآثار المدمرة لهذه الآفات على الذات البشرية . فبالعمل ادن يحقق الإنسان وجوده و يضمن إنسانيته يحقق توازنه النفسي و الذهني و الجسدي. و بالعمل أيضا يكون المجتمع كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا فيكون محصنا من الأمراض الاجتماعية كالجريمة و المخدرات و يكون أفراده متحابين متماسكين الكل يعمل لبناء مستقبل مشرق . فالمجتمع كالساعة كل آلة لها عمل و لابد من أداء كل آلة عملها لينتظم سيرها و إن كان يختلف عمل الآلات أهمية و سير هذه الآلات و انتظامها لا تقع عليه العين عادة و إنما مظهر هذا الانتظام سير العقارب فإذا دلت على الأوقات بالضبط دلنا ذلك على أداء كل آلة وظيفتها. وليس أدل على ذلك من المجتمع الياباني الذي نهض من تحت ركام القنبلة النووية الأمريكية و حقق نهضة بفضل قيم العمل و الكد و الجد .
هل كان سيحقق معجزته حسب رأيك لو بقي أفرده عاطلين عن العمل ؟ إذن الإنسان مطالب بأن يعمل مهما أبطأت ثمرة العمل و مهما فاته إدراك جزاء عمله و إلا ما استقام أمر الدنيا و لا توارثت الإنسانية الحياة جيلا بعد جيل و لما جنى اللاحقون ثمرات عمل السابقين . و الحق أقول لك أن الحياة ظلمة حالكة إذا لم يرافقها العمل لأنه ممارسة لإنسانية الإنسان و هو أيضا قيمة عليا فهو ركيزة الإيمان و قوام الحياة الطيبة...
مقتبس..