ترتيب الأبحاث والدراسات الفقهية
د. هاني بن عبدالله الجبير
يخضع ترتيب الأبحاث والدراسات الفقهية المقدمة لأغراض دراسية (أكاديمية) في الغالب إلى اعتماد خطة البحث قبل شروع الباحث فيه، وتقديم الخطة يكون بإعداد (فهرس) تفصيلي للبحث أو الدراسة، يقسمه إلى أقسامه الأساسية كالأبواب، ويفصل كل باب إلى فصول، وكل فصل إلى مباحث، وكل مبحث إلى مطالب، وكل مطلب إلى فروع ثم إلى مسائل، ويجعل لكل قسم منها اسما يوضح ما سيتناوله فيه، ثم إذا شرع في الكتابة وجد أن المسائل الداخلة في الدراسة تتكرر عليه وتتداخل؛ فيضطر الباحث لتكرار ما كتب أحياناً, مع ما في هذا الترتيب من قيد للباحث والقارئ يمنعه من الابتكار وقوة المناقشة والاستطراد العلمي لقضايا تترافق أو تتقاطع مع قضيته المعروضة للبحث، وكل ذلك دفع بالأبحاث الفقهية لتحرم من القراء؛ فصار لا يقرؤها إلا الباحث ومناقشو البحث ومراجعوه، أما غيرهم فلا توجد لديهم دافعيه قراءة مثل هذه الأكتوبات. ولا شك أن أصل وضع خطة البحث بهذا الشكل للتحقق من أن الباحث سيقوم باستكمال جواب الموضوع، وإخضاع كل جانب لحقه في الدراسة لكن رصد، كل ذلك ضمن البحث في شكله النهائي هو المشكلة .وقد بلغ الاهتمام بالمظهر(أو الشكل) في الدراسات الإسلامية أن صار هو المعيار الأساس الذي يبنى عليه قبول البحث ونجاح الدراسة، بغض النظر عن وجود جديد في هذه الدراسة، و ما قدمت للمكتبة الفقهية من فائدة.
ولذا كلما استعرضت الدراسات الجديدة تجدها تبدأ بتعريفات لغوية واصطلاحية، وبيان حِكم المشروعية ودليلها وشروطها ونحو ذلك مما هو تكرار لما رصده الفقهاء مفصلاً، ويعرفه (بل ويحفظه) صغار دارسي الفقه والمبتدئين في هذا الميدان، ويستغرق ذلك أكثر صفحات البحث، ولا يكون موضوع الدراسة الحقيقي إلا في وريقات في آخر الدراسة قد لا تتضح نتيجته واضحة، بل ربما لا تتجاوز طرح أسئلة وتقديم عدة استفسارات، ولو أراد أحد أن يلخص المهم والمقصود من كل الدراسة لأمكن ذلك بسهولة؛ إذ لا بينات ولا حقائق، فمثلاً في سرقة السيارات يأتي الباحث فيعرف السرقة لغة واصطلاحاً ويبين حرمتها، وينتقل لتعريف السيارات, مع أنها مما يعرفه الخاص والعام، ثم ينتقل لبيان شروط السرقة ونحو ذلك مما لا يغيب عن بال دارس الفقه .وقد كان يمكن الباحث -لو سلم من المنهجية الحديثة المستولية على الدراسات الفقهية- أن يعمد مباشرة لبيان نقطة الإشكال، وهي: هل وقوف السيارات في الشارع يجعلها محرزة أم لا؟ وله أن يقدم ذلك ببيان الحرز ويخلص للنتيجة, فكم من الوقت والجهد سيوفر على نفسه , مع أنه قدم الجديد وحصر نفسه في المهم دون أن ينشغل بما لا يقدم جديداً.ولو نظرنا إلى الرسائل العلمية القديمة التي ألفها العلماء قبل دخول هذه المناهج الأكاديمية للعقلية الفقهية لوجدناها كذلك، فانظر لما سطره ابن تيمية وابن القيم و الصنعاني والشوكاني وغيرهم في مسائل فقهية تجد ذلك ظاهراً بيناً .ولو جاء يبحث ليكتب في زكاة الأرض فستجده منشغلاً بتعريف الزكاة لغة واصطلاحاً، بل ربما يعرف الأرض!! وربما ذكر الحكمة من مشروعية الزكاة لتجده بعد ذلك في صفحة واحدة يذكر النتيجة المقررة سلفاً لدى كل دارس للفقه من التفرقة بين المال النامي وغيره. ومثل هذا الواقع يفرض بشدة أن تستفيد الجهات الدراسية المعنية بالفقه من طرق البحث الحديثة للعلوم القريبة من الفقه كعلوم القانون والاجتماع ونحوها, فالحق ضالة المؤمن أنى وجده أخذه , وهذا الترتيب الذي تلتزمه الدراسات الفقهية الآن ترتيب حادث أخذت به الجامعات والمعاهد لما رأت فيه المصلحة، فلتكن المصلحة رائدها في تغييره لما هو أنفع وأجدى .وقد قرأت في رحلة المسيري الفكرية أن زوجته عرضت عليه عدة دراسات ترغب تقديمها لغرض الترقية، فأشار عليها بأن فيها ما هو ضعيف، وأن المتميز عندها مقال علمي نشرته مجلة غير متخصصة، وفيه من التجديد ودقة الملاحظة وجودة العرض ما يجعله جديراً بترقية كاتبه, والعجب أنها بعد تقديمها لأبحاثها -ومنها المقال العلمي- حصلت على الترقية بعد رفض مقالها المذكور لكونه غير متقيد بترتيب الدراسات الأكاديمية.!!.فأنت ترى أن هذا الترتيب صار هاجساً لدى الباحثين يجعلونه محط اهتمامهم ولو على حساب الدراسة نفسها وما تقدمه .وقد سبق لي شخصياً أن قدمت بحثاً لأحد المؤتمرات عن الضوابط الفقهية المتعلقة بالأعمال الطبية, وحرصت على جمع الفروع تحت الضوابط أخذاً بأن الغرض من الضوابط الفقهية هو هذا، وعند تحكيم البحث كنت على وجل من عدم انطباق الضابط على الفروع، أو انخرام الضابط ونحو ذلك، وكنت أعد العدة لمثل هذه الملاحظات, ولكني فوجئت بأن التحكيم لاحظ عدم اكتمال فهارس البحث! إن الإيغال في قضايا المظهر للأبحاث الفقهية سواء عند إعدادها أو دراسة خطتها أو تحكيمها أو مناقشتها سيكون سبباً لضعف هذه الأبحاث والدراسات, ما لم يتدارك المعنيون بهذا الشأن ذلك بالاهتمام بالمضمون, والاستفادة من مناهج البحث وطرقه في العلوم المتشاركة والمتقاطعة مع الفقه في بعض الجوانب , وإلا فإن العاقبة ضعف الدراسات، وعدم قدرتها على مواكبة المطلوب منها, وهذا نذير خطير فهل من منتبه!.
__________________
تم بعون الله اصدار العدد السابع من مجلة ديالى للعلوم الهندسية في كلية الهندسة جامعة ديالى بكلا اللغتين العربية و الانكليزية