عبد الكريم قاسم اسم لمع في سماء العراق كما أكدنا سابقا، ولد في بغداد محلة المهدية في الشهر الحادي عشر من العام 1914، ومنهم من يؤكد ان ولادته كانت في اليوم الحادي والعشرين منه
بعد خمس واربعين عاما وبعد نضال طويل ومرير مع الحياة، تسلم أعلى منصب سياسي في البلد، حيث أصبح رمزا كبيرا لجُل الناس، على الرغم من أن هناك من تعامل معه بخشونة ورفض قيادته للبلد لسبب او لآخر، وهذا هو شأن الرموز الكبيرة دائما تكون موضع خلاف ، الرجل حكم العراق في حقبة زمنية عصيبة كانت الخلافات السياسية على أشدها كونها كانت مرحلة انتقالية اعقبت حقبة الحكم الملكي الذي دام أكثر من (37) عاما، كان العراق فيها تابعا بشكل او باخر لإرادة المملكة المتحدة مما كان عاملا قويا على قيام ثورة الرابع عشر من تموز بقيادة الزعيم الركن عبد الكريم قاسم، حيث جاءت الثورة هنا ملبية لرغبات الناس في العراق بكل أطيافهم.
كان الزعيم قاسم على دراية تامة باوضاع المجتمع العراقي وتنوع مكوناته لكونه مجتمعا متعدد الطوائف والأديان، لذلك كانت سياسته نابعة من حجم معرفته بتفاصيل حياة الناس على المستوى العقائدي.
قال لي أحد الاساتذة الكرام، نقلا عن شهود عيان عملوا مع الزعيم، انه عندما كان يصلي في وزارة الدفاع أثناء الدوام الرسمي يقوم بغلق الباب عليه ولا يسمح لأحد بالدخول حتى لاتتم معرفة كيفية صلاته، ان كانت على المذهب الشيعي أو السني، لانه كان يقول لا أريد أحدا ان يعرف طائفتي وانتمائي الديني حتى لا يتصور اني ضده أو مختلف معه بالرؤى في حالة أن يكون من طائفة غير التي ينتمي اليها الزعيم.
والرجل كان عسكريا كفوءا وقد ترك ذكريات عن شجاعته ووطنيته في فلسطين في (كفرقاسم) وبصمات خاصة بولعه بالإعمار والتشجير في معسكر المنصور، قبل أن يصبح رئيسا للوزراء، وعن عدله ونزاهته وتميزه عن أقرانه من الضباط بالثقافة والجرأة والخلق الرضي، كما جاء في كتاب عبد الكريم قاسم وعراقيون آخرون للمرحوم عبد اللطيف الشواف الذي يقول في كتابه ايضا: تراجعت أهمية العشيرة والقبيلة والعرق القومي والمذهب والمنطقة الجهوية مما ينتمي اليه ويرتبط به المرحوم عبد الكريم قاسم كليا امام وقائع حركة شعارات الحركة الوطنية العراقية وتغلغلها في المجتمع وهمومها ومشاكلها، فلم يكن لاي من عناصر النسب والعشيرة والمذهب وجهة العيش والعرق القومي أي تاثير على قراراته السياسية التي كانت تستهدف تطوير المجتمع العراقي كله بالتساوي والأخاء بين تعددياته المختلفة بالرغم من انه لم يكن ليلغي هذه العناصر من قاموس اهتماماته الشخصية، اذ كان كثيرا مايردد اذا مارغب أن يوصي بأحد خيرا أو يثير العطف عليه (أوصيكم بفلان خيرا لانه من حمولة طيبة أو من عائلة قديمة).
ثم يواصل المرحوم الشواف كلامه فيقول: كان قاسم يحسب طيلة حكمه في النظر الى الأشخاص من مواطنين أو سياسيين موالين أو معارضين لموقف كل منهم من شعارات الحركة الوطنية وليس من زاوية دينية او مذهبية او جهوية، او من زاوية العرق القومي او الطبقة الاجتماعية او العشيرة او النسب او الجهة او المنطقة، بالرغم من انه لم يكن ليجهل أو يتجاهل الأحساب والانساب والوضع العائلي والاجتماعي والسمعة العامة وأهميتها في النظر الى هؤلاء الأشخاص وأدوارهم بل إنه لايغفل أو يتغافل حتى عن المنسوب في الأقاويل الشعبية من صفات إيجابية أو سلبية الى شخص أو مجموعة أشخاص يشتركون بوصف معين كانتسابهم لبلد او جهة معينة من سمات وأقاويل بعيدة أو قريبة من الصدق والحقيقة واني لأذكر كمثال على ذلك، إني كنت قد عددت له أسماء جماعة ممن ينتسبون الى اتجاهات سياسية مختلفة لتكوين مجلس إدارة شركة النفط الوطنية في أواخر سنة 1962 محددا تشكيل المجلس المذكور تشكيلا جبهويا يجمع الاتجاهات السياسية مادامت قضية النفط انتاجا وتسويقا كانت في ذلك الوقت وفي ظل النزاع المحتدم مع الشركات الاجنبية آنئذ هي المسألة السياسية الأساسية التي تمثل عنوان النزاع مع بريطانيا، وما أن عددت أسماء مثل (محمد حديد، وصديق شنشل وأديب الجادر) وغيرهم لأن عدد أعضاء المجلس كانوا ستة بموجب مشروع القانون، ولما سمع عبد الكريم رحمه الله بهذه الأسماء تبادر الى ذهنه أن كلهم من الموصل فقال باللهجة البغدادية المحببة (يبدو انهم جميعا من المواصلة! اليس هناك غيرهم من مدن اخرى؟). لقد كانت التمايزات الدينية والمذهبية والعرقية والجهوية أسلحة إيجابية قد يلجا اليها المرحوم عبد الكريم لفرض التوازن وتحقيق العدل والوصول الى الهدف العام. الى هنا انتهى كلام الشواف، ولغرض التعليق أقول كم هو الفرق شاسع بين من يستخدم تلك الفوارق لتمزيق المجتمع وتشويه هويته الوطنية المقدسة كما هو حاصل اليوم، وبين من يستخدمها ليعزز بها الهوية الوطنية ويديم العلاقات بين الناس بوجهها الحسن والرائع.
وعن وسطيته واعتداله بالتعامل بين الناس من خلال ترؤسه لأعلى سلطة تنفيذية في البلد يقول الكاتب حنا بطاطو في كتابه الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية في العراق، لعب قاسم بشكل مميز دور الوسيط في المجال الحيوي للعلاقات المتبادلة بين الطبقات وهذا ماساعده على الصمود في وجه التحديات لسلطته ومن اقواله بهذا الخصوص، ماقاله في اذار 1959 :- (يقول الواحد هذا قومي، ويقول الآخر هذا شيوعي وذاك بعثي والثالث ديمقراطي، وانا اقول هذا وطني وابن هذا البلد) .
يواصل بطاطو كلامه فيقول وفي مناسبة أخرى وبالتحديد في أيار 1959 قال قاسم وقد كان أكثر عمقا في قوله : (قمت بالثورة لصالح كل الناس، اني دوما مع الناس كلهم، اني فوق الميول والتيارات دوما ، وليس لدي إنحياز لاي جانب كان، اني انتمي الى الشعب باسره، واني أهتم بمصالح الجميع، وأسير الى الأمام معهم كلهم ، كلهم اخوتي) .
ومن هنا نرى ان الرجل رحمه الله قد تعامل مع الناس بقياداتهم وقواعدهم على قدم المساواة وكان واقفا على مسافة واحدة من الجميع، وقائدا لهم دون تمييز أو محاباة لطرف او آخر خدمة للمجتمع وحفاظا على هويته الوطنية التي كانت مقدسة لدى الزعيم عبد الكريم قاسم يعمل دائما من أجل أن تكون هي الملاذ والخيمة التي تلم الجميع دون استثناء.
الدكتور علي العكيدي
منقول