بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك

وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته


ان النية روح العمل وحقيقته، وتوقف نفع العمل عليها دون العكس، وكون الغرض الأصلي من العمل تأثير القلب بالميل إلى الله ـ تعالى ـ وتوقفه على النية، فهي خير من العمل، بمعنى أن العمل إذا حلل إلى جزئيه يكون جزؤه القلبي ـ اعني النية ـ خيرا من جزئه الجسماني ـ اعني ما يصدر من الجوارح ـ، والثواب المترتب عليه اكثر من الثواب المترتب عليه، ولذا قال الله ـ سبحانه ـ :
" لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم "[1].
فان المقصود من اراقة دم القربان ميل القلب عن حب الدنيا، وبذلها ايثارا لوجه الله، دون مجرد الدم واللحم، وميل القلب انما يحصل عند جزم النية والهم، وان عاق عن العمل عائق، (فلن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم)، والتقوى صفة القلب، ولذا ترى ان المجامع امرأته على قصد انها غيرها آثم، بخلاف المجامع غيرها على أنها امرأته، ولذا ورد: أن من هم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة، لان هم القلب هو ميله إلى الخير وانصرافه عن الهوى، وهو غاية الأعمال والحسنة، وانما الاتمام بالعمل يزيدها تأكيدا. وبما ذكر ظهر معنى الحديث المشهور: " نية المؤمن خير من عمله، ونية الكافر شر من عمله ". وكل عامل يعمل على نيته.
وحاصله: أن كل طاعة تتضمن نية وعملا، وكل منهما من جملة الخيرات، وله أثر في المقصود، وتكون النية خيرا من العمل وأثرها اكثر من اثره. والغرض: أن للمؤمن اختيارا في النية وفي العمل، فهما عملان، والنية من الجملة خيرهما، أي النية التي هي جزء من طاعته خير من عمله الذي هو جزؤها الآخر.
ان العمل إذا كان مع النية يكون كل من العمل والنية خيرا وذا ثواب. وإذا كان بدونها لا يكون خيرا ولا يكون له ثواب، والمقصود كون النية خيرا من العمل في الصورة الأولى وكون ثوابها اعظم، ولم يظهر وجه الخيرية

الوجه في كون النية خيرا من العمل وراجحة عليه في الثواب: انه لا ريب في ان المقصود من الطاعات شفاء النفس وسعادتها في الآخرة وتنعمها بلقاء الله ـ سبحانه ـ، والوصول إلى اللقاء موقوف على معرفة الله وحبه وانسه، وهي موقوفة على دوام الفكر والذكر الموجبين لانقطاع النفس من شهوات الدنيا وتوجهها إلى الله ـ سبحانه ـ، فإذا حصل بمجرد المعرفة الحاصلة من الفكر ميل وتوجه إلى الله ـ تعالى ـ كان ضعيفاً غير راسخ، وانما يترسخ ويتأكد بالمواظبة على أعمال الطاعات وترك المعاصي بالجوارح، لأن بين النفس وبين الجوارح علاقة يتأثر لأجلها كل واحد منها عن الأخر، فيرى أن العضو إذا أصابته جراحة تتألم بها النفس، وأن النفس إذا تألمت بعلمها بموت عزيز أو بهجوم أمر مخوف تأثرت الأعضاء وارتعدت الفرائص، فالطاعات التي هي فعل الجوارح إنما شرعت للتوصل بها إلى صفة النفس ـ اعني التوجه والميل إلى الله سبحانه ـ، فالنفس هو الأصل والمتبوع والأمير، والجوارح كالخدم والأتباع، وصفات القلب هي المقصودة ذاتها، وافعال الجوارح هي المطلوبة بالعرض، لكونها مؤكدة وموجبة لرسوخ النفس ـ اعني الميل والنية والتوجه ـ ولا ريب في أن ما هو المقصود بالذات خير مما هو مقصود بالعرض، وثوابه أعظم من ثوابه.
ومن المعاني الصحيحة للحديث: أن المؤمن بمقتضى ايمانه ينوي خيرات كثيرة لا يوفق لعملها، إما لعدم تمكنه من الوصول إلى أسبابها، أو لعدم مساعدة الوقت على عملها. أو لممانعة رذيلة نفسانية عنها بعد الوصول إلى اسبابها، كالذي ينوي إن آتاه الله مالا ينفقه في سبيله، ثم لما آتاه يمنعه البخل عن الأنفاق، فهذا نيته خيرا من عمله، وايضاً المؤمن ينوي دائماً أن تقع عباداته على احسن الوجوه، لأن ايمانه يقتضي ذلك. ثم إذا اشتغل بها لا يتيسر له ذلك. ولا يأتي بها كما يريد، فما ينويه دائماً خير مما يعمل به في كل عبادة. وإلى هذا أشار الباقر (ع): " نية المؤمن خير من عمله، وذلك لأنه ينوي الخير ما لا يدركه، ونية الكافر شر من علمه، وذلك لأن الكافر ينوي الشر ويأمل من الشر ما لا يدركه ". وقيل للصادق (ع): سمعتك تقول: نية المؤمن خير من عمله، فكيف تكون النية خيراً من العمل؟ قال (ع): "لأن العمل إنما كان رياء للمخلوقين، والنية خالصة لرب العالمين، فيعطي ـ عز وجل ـ على النية ما لا يعطي على العمل " ثم قال: "إن العبد لينوي من نهاره أن يصلي بالليل فتغلبه عينه فينام، فيثبت الله له صلاته وتكتب نفسه تسبيحاً ويجعل نومه صدقة ". وبعض الأخبار المتقدمة يعضد ذلك ويؤكده أيضا. وقيل: معنى الحديث: " إن النية بمجردها خير من العمل بمجرده بلا نية ". وفيه: أن العمل بدون النية لا يتصف بالخيرية أصلاً. فلا معنى للترجيح في الخيرية، وقيل: سبب الترجيح: " إن النية سر لا يطلع عليه إلا الله، والعمل ظاهر، وفعل السر أفضل ". وهذا وإن كان في نفسه صحيحاً، إلا أنه ليس مراداً من الحديث، لأنه لو نوى أحد أن يذكر الله ـ تعالى ـ بقلبه أو يتفكر في مصالح المؤمنين، كانت نيته بمقتضى عموم الحديث خيراً من العمل الذي هو الذكر والتفكر، مع اشتراك النية والعمل في السرية، وبداهة كون الذكر والتفكر خيراً من نيتهما.
-----------
[1] الحج، الآية: 37.