بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك

وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته


في الحديث عن نبيّنا الأكرم (صلّى الله عليه وآله): "أشراف أمّتي حملةُ القرآن وأصحابُ الليل". أصحابُ الليل واضح المقصود عُبّاد الليل، المُتهجّدون بالأسحار، الذين يبيتون لربّهم سجّدًا وقياما، الذين {تَتَجَافَىظ° جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}، {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.

إذًا "أشراف أمّتي" وفق المصطلح، وفق المعايير الربّانية – هناك معايير دنيويّة للأشراف، وهناك معايير ربّانيّة -، وفق المعايير الدنيويّة الحكام هم الأشراف في المجتمعات، أصحاب المال، أصحاب الثراء، أصحاب الوجاهات هم الأشراف في مجتمعات الإنسان، أمّا أشراف المعايير الرّبانيّة شيء آخر؛ ربّما يكون من الأشراف وفق المعايير الرّبانيّة شخص مغمور ومُهمل وليس له أيّ قيمة في الوسط الاجتماعي ولكن هو من الأشراف وفق معايير القرآن، وفق المعايير الرّبانيّة، ربّما يكون كالنّاس وهو من الأشراف وفق المعايير الرّبانيّة، مغمور وهو من الأشراف. الرسول (ص) عندما يقول "أشراف أمّتي"، يعني الأشراف وفق المعايير الرّبانيّة وليس وفق معايير الدنيا.

يطرح الرسول (ص) نموذجين من الأشراف: أشراف هذه الأمّة، أصحاب المواقع المتقدّمة، أصحاب المواقع المتميّزة في الأمة، يتحدّث عن صنفين مهمّين "حملة القرآن، وأصحاب الليل"؛ قلنا "أصحاب الليل" مصلّو صلاة الليل المتهجّدون بالأسحار، أمّا حملة القرآن من هُم؟ من هؤلاء الذين يعبّر عنهم الرسول (ص)؟ إنهم أشراف أمّته "حملة القرآن".

عنوان مصطلح يرد في كثير من الروايات وفي الكثير من الأحاديث، مصطلح "حملة القرآن" أو مصطلح آخر "أهل القرآن"، "أهل القرآن" في حديث آخر "في أعلى درجةٍ من الآدميين، ما خلا النبيّين والمرسلين"، أي موقع متقدّم لحملة القرآن ولأهل القرآن. ماذا تعني هذه الكلمة؟ أو بتعبير آخر: كيف يكون أحدنا من حملة القرآن؟ حيث يتحوّل من أشراف الأمة، بحيث يكون هو في أعلى درجة بعد موقع النبيين والمرسلين والأوصياء والأئمة، كيف يكون أحدُنا من حملة القرآن؟

أولًا:
هل أن "حملة القرآن" هم الذين يحملون المُصحف في جيوبهم؟ هذا حامل القرآن في جيبه، مقصود "حملة القرآن" أن أحمل المُصحف في جيبي أين ما أذهب؟ شيء جميل، طيب، مهم، واحد يعتز بالقرآن ويحمله معه أين ما يذهب، فيه حسن، فيه حرص، فيه سلامة، فيه بركة، فيه خير، جميل واحد يخلّي عنده نسخة من القرآن في سيارته في جيبه أين ما يذهب، هذا الكتاب المقدّس اللي نعتز بيه، نفتخر بيه، نتشرّف أن نحمله. هذا حمل للمصحف، ولكن ليس المقصود "حملة القرآن" الذين يحملون القرآن في جيبهم رغم قيمة العمل، وأهميّة أن الإنسان يخلّي القرآن دائمًا معه أين ما يذهب؛ حتى يبقى يحس أنه مرتبط بالقرآن، ويحس أن فيوضات وبركات الإنسان تشمله وتمشي معه، وتتحرّك معه أين ما يذهب، ولكن ليس هذا المقصود بحمل القرآن.

ثانيًا:
هل المقصود بحمل القرآن، أن أحمل القرآن ذكرًا وتلاوةً وحفظًا؟ هذا مهم أيضًا، مهم أن أبقى لهجًا بذكر القرآن دائمًا، أواضب بشكل مركّز على تلاوة القرآن صباحًا، مساءً، ليلاً، نهارًا. كل ما تقدر تكثر من تلاوة القرآن فلك درجات عالية في الجنّة، مواقع متقدّمة بقدر ما تقرأ من القرآن، بأي قدر أنت تستفيد من قراءة القرآن؟ استفيد، أكثر من التلاوة القرآنية. التالون للقرآن، الحافظون للقرآن إذا جاؤوا يوم القيامة يأتون وعليهم تيجان من نور، هذه بركة القرآن، إقرأ وارقَ، واصعد، كل ما تقرأ آية تصعد درجة في الآخرة. إذًا التلاوة مهمّة، أن نصطحب القرآن على ألسنتنا بشكل دائم، نلهج به دائمًا، نقرأ دائمًا، لا نهجر القرآن، هذه مسألة مهمّة جدًا، ولكن يبقى ليس هذا معنى حمل القرآن – هذا حمل، أنا أحمل القرآن على لساني وفي ذاكرتي أنا أحمل القرآن –، و لكن يبقى هذا المعنى من الحمل لا يكون له قيمة حقيقية ما لم يتوفّر المعنى الأساسي لحمل القرآن.

فأحمل القرآن على لساني، في ذاكرتي، ألهج بالقرآن، أتلو القرآن بكثرة هذه مسألة مهمّة جدًا، وفيها ثواب عظيم، حتى ورد عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): "أنّ لك بكُلّ حرف عشر حسنات". بكل حرف! انظر كم حرف تقرأ أنت؟ حتّى قال الرسول: ولا أقصد بالحرف "ألم" بل الألف حرف واللام حرف والميم حرف. احسب أنت كم حرف تقرأ؟ وهناك روايات بعد أكثر، هناك روايات مئة حسنة، وروايات خمسين حسنة، احسب أنت إن قرأت لك ألف حرف، كم كلمة؟ كم حرف؟ وتجري عمليّة حسابية تجاريّة مع الله، انظر باليوم كم توفّر لك من حسنات؟ خاصّة إن يكون بالمناسبات الشريفة والأماكن الشريفة. مهم هذه التلاوة، ولكن هذه التلاوة لا تحمل قيمة كبيرة ما لم يتوافر الشرط الأساسي لحمل القرآن، هذا نوع من الحمل بلا شك، ولكن ليس هو المعنى الأساسي الحقيقي لحمل القرآن.

ثالثًا:

هل المقصود بحمل القرآن أن أحمل القرآن في قلبي؟ ما معنى أن أحمل القرآن في قلبي؟ يعني أعشق القرآن، أحب القرآن. فكل من يتلو القرآن هو عاشق، نحن نريد تلاوة عشق، يتحوّل من يتلو القرآن عاشقًا، العشق درجة من الانصهار والذوبان والحب العالي جدًا، يكون القرآن معشوق. تقدر أنت أن تحوّل القرآن إلى معشوق، هناك وسائل حتّى يحوّل الإنسان القرآن لمعشوق له، قيمة كبيرة لعشق القرآن، هو الذي يجعل حالة انصهار مع القرآن، خشوع في تلاوة القرآن. عشق القرآن عظيم، وثوابه عظيم، ولكن يبقى أيضًا إن لم يتوافر المعنى الحقيقي لحمل القرآن العشق يبقى حالة وجدانيّة وشعوريّة وعواطف قد لا تحمل قيمة كبيرة عند الله إن لم يتوافر المعنى الحقيقي لحمل القرآن. أتلو القرآن، أعشق القرآن، أحب القرآن، هذه أمور أساسية ومهمّة.

رابًعا:
هل المقصود من حمل القرآن، أحمل القرآن في عقلي؟ هذا لون من الحمل أيضًا. أحمل القرآن على لساني أقرأ القرآن، أحمل القرآن في ذاكرتي هذا حفظ للقرآن، هذا حمل، أحمل القرآن في قلبي، أعشق القرآن، أحمل القرآن في عقلي، شلون أحمل القرآن في عقلي؟ أتدبّر القرآن، أفكار القرآن، مفاهيم القرآن، رؤى القرآن، تصوّرات القرآن، تأمل في آيات القرآن، هذا أنا حملت القرآن في عقلي {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}، قيمة كبيرة للتدبّر القرآني، قد أقرأ سورة بتدبّر بتأمّل وقد أقرأ عشرات السور بلا تدبّر، قيمة السورة الواحدة، قيمة الآيات القليلة اللي فيها تدبّر، تمعُّن، بقدر القرآن آفاقه واسعة، بأيّ قدر تقدر تستنطق القرآن؟ هناك تدبّر سريع، وهو أنّي أقرأ وأنا استنطق دلالات القرآن، من القرآن يرسم لي مشهد الكون، أتأمّل في الكون، من يرسم لي الحديث عن خلق الله أتأمّل، أتدبّر {أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ، أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ}، {فَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ}، {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ، أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ}، تلاحظ الآيات تنقلك إلى صور كونيّة، أنت إقرأ وتأمّل في الكون، هذه القراءة التي تنقلك إلى التأمّل في الكون هذه قراءة متدبّرة، هذه عبادة من أرقى العيادات، أن واحد يتدبّر في خلق الله، تقرأ القرآن وأنت تتأمّل، والقرآن يرسل لنا مشاهد رائعة من قدرة الله وإعجاز الله.

خامسًا:
يأتي يقرأ القرآن مع الحروف مع المفردات، الواحد يقول أنا حتّى أقرأ القرآن بتجويد وأراعي المدود والوقفات وأراعي الكثير من قوانين التجويد صحيح هذا، لكن هذا لا يشغلنا ولا يكون على حساب التأمّل في دلالات القرآن وفي معاني القرآن، حاول تسبح بالقرآن في آفاق الدنيا والآخرة وما يتحدّث عن الإنسان ويتحدّث عن القبر ويتحدّث عن الجنّة ويتحدث عن النار، {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} انقل عقلك إلى الجنّة، {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِين وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ}، وصور القرآن مشاهد رائعة.

وهنا تأتي قيمة التدبّر القرآني، إقرأ القرآن وأنت تعيش أفقًا ينقلك إليه القرآن، انتقل مع القرآن مع الصورة القرآنية لا تبقى جامدًا مع الحروف، هذه القراءة التي تبقى جامدة مع الحروف قراءة ميّتة، قراءة ليس فيها تدبّر؛ إذًا هذا حضور للقرآن في العقل، في التأمّل، في الفكر، ولكن يبقى هذا الحضور لا قيمة له إذا لم يكن هناك حضور حقيقي.

هل المقصود بحضور القرآن، هو أن أحرّك فعاليات القرآن في المجتمع؟ كما تمارس الجمعيات القرآنيّة – جزاهم الله خيرًا -؟ الحمد لله برزت مؤسسات قرآنيّة ناشطة، يقوم عليها مخلصون صادقون محبّون للقرآن، عظيم هذا العمل في هذا الزمن الذي أصبح القرآن مهجورًا في كثير من المواقع، تأتي هذه المؤسسات القرآنيّة تحرّك القرآن، تحرّك حضور القرآن في كلّ المفاصل، في كلّ المواقع، ولا قيمة لكل حراكاتنا إن لم يكن القرآن حاضرًا فيها، لا حراكنا الثقافي، ولا حراكنا السياسي، ولا حراكنا الاجتماعي كلّ هذا ليس له قيمة إن لم يحضر القرآن.

ماذا نريد أن نصنع؟ ننتصر لدنيانا؟ إذا خسرنا آخرتنا وخسرنا قيمنا، وخسرنا ديننا؟ القرآن لا بدّ أن يكون حاضرًا في كل مواقع حراكنا، وهذا ما تمارسه الجمعيات القرآنية – جزاهم الله خيرًا -، أعطوا من جهودهم، من وقتهم، من همهم في أن يحرّكوا القرآن على مختلف المستويات – مسابقات، مؤتمرات، مهرجانات، أنواع من الفعاليات القرآنية -، هذا عظيم، هذا حضور للقرآن، هذا حمل للقرآن في حركة الواقع، هذا أيضًا جميل وعظيم جدًا.




ولكن يبقى المعنى الحقيقي لحمل القرآن ما هو؟

كلّ هذه ألوان من حمل لقرآن، ولكن هناك عُمق ومعنى أساسي لحمل القرآن.
حمل القرآن هو أن أحوّل مضامين القرآن إلى واقع متحرّك في حياتي، هذا حمل القرآن الحقيقي، ولذلك تلاحظون الآية في سورة الجمعة {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} حُمّلوا ولم يحملوها، ماذا يعني حُمّلوا التوراة ولم يحملوها؟ كانوا يقدّسون التوراة، كانوا يعشقون التوراة، كانوا يتدبّرون في التوراة، ولكن لم يحوّلوا التوراة إلى واقح متحرّك في حياتهم، هذا الحمل {ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} ما حملوا التوراة، {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} ماذا يستفيد الحمار من هذه الأسفار على ظهره؟ لا، لنجعل قلوبنا تحمل القرآن، نحوّل القرآن إلى مضامين حيّة متحرّكة في حياتنا.

يوم نحوّل القرآن إلى مضامين حيّة متحرّكة في حياتنا أصبحنا من حملة القرآن، حين ذاك تصبح التلاوة لها قيمة، ويصبح الحفظ له قيمة، ويصبح التدبّر له قيمة، ويصبح النشاط القرآني له قيمة لأنّا حملنا مضامين القرآن.


كُن تلميذًا للقرآن، اقرأ القرآن وأنت تعتبر نفسك تلميذًا يتعلّم من القرآن، اجلس بين يدي القرآن جلسة التلميذ المتعلّم. من الذي يعلّمك؟ ومن الذي يربّيك؟ الله سبحانه، أنت الآن بين يدي الله تتعلّم – أنت الآن جاي تُصغي لعبد حقير مثلك يتحدّث ويتكلّم ومشاعرك وعقلك مفتوحة إليه -، والقرآن من الذي يُحدّثُك؟ من الذي يخاطبُك؟ الله بعظمته بقُدسه بجبروته يتحدّث معك أيها العبد المخلوق الضعيف وأنت عبد من عبيد الله.

إذا أردتم أن تتحدّثوا مع الله فادعوا لله، وإذا أردتم ان تُصغوا إلى كلام الله فاقرؤوا القرآن، لأنك أنت بين يدي القرآن أنت بين يدي المربّي الأكبر وهو الله، فإذًا اجلس بين يدي القرآن جلسة التلميذ المتعلّم، بحيث تخرج وأنت خرجت بدرس ودروس من القرآن، هذه مدرسة متحرّكة.

هذا معنى حملة القرآن
"أشراف أمّتي حملة القرآن"، تستطيع تكون من أشراف الأمّة أنت، من تحوّل القرآن إلى مضامين متحرّكة في حياتك، أنت من أهل القرآن الذي يقول عنهم الرسول (ص): "إنّ أهل القرآن في أعلى درجة"، لم يستثن إلاّ النبيّين والمرسلين وطبعًا الأولياء والأوصياء معهم، يعني لم يستثن لا شهداء ولا فقهاء ولا علماء، قال: "أهل القرآن في أعلى درجة من الآدميّين ما خلا النبيّين والمرسلين"، وتستطيع أن تكون أنت من أهل القرآن ومن أشراف القرآن يوم تبدأ برنامجك الحقيقي مع القرآن، لا تنتظر جمعية ولا تنتظر عالمًا ولا تنتظر أحدًا يقول لك، القرآن لديك وابدأ برنامجك مع القرآن، كل واحد لديه القرآن، ويقدر يرتبط بالقرآن ويبدأ مشروع حياته مع القرآن.

وأتمنى لي ولكم أن يشملنا بروحانيّة هذه الجلسة القرآنية المباركة التي لا أشك أبدًا ان ألطاف الله تشملها.