ساجدة ناهي - تصوير/ حيدر الحيدري
ما أن تطأ أقدامك ذلك المشهد المقدس حتى يعتصر قلبك الحزن وتشعر بكآبة المكان رغم رحابته ورغم يد الإعمار والتحديث التي طاولته في السنوات الأخيرة، إلا انك تشعر بذلك قبل أن تقرأ وتسترجع الأحداث التي جرت في هذه البقعة النائية
والتي أدت الى استشهاد الإمام زيد بن علي بن الإمام الحسين عليهم السلام، قتيل العراق، وحليف القرآن، وابرز علماء آل محمد عليهم السلام، وسليل الشهداء، الذي رفع رأسه الشريف على رمح وطافوا به في البلدان كما رفع رأس جده الإمام الحسين عليه السلام من قبل وأرسل هدية إلى هشام بن عبد الملك ففرح به كما فرح يزيد حين مثل رأس الإمام الحسين أمامه..... كما له تسمية معروفة في هذه الأرجاء وهي (أبو الجيلات) ولهذه التسمية قصة غريبة سنقوم بقصها لاحقا.لا يبعد المزار الشريف سوى ثمانية كيلو مترات، عن طريق حلة – نجف، فيما يبعد 30 كيلو مترا عن مركز مدينة الحلة، في بقعة تسمى منطقة زيد بن علي (ع) كانت تسمى بباب الكناسة وهي احد أبواب الكوفة، عاصمة الخلافة الإسلامية آنذاك، وكانت مكانا مزدحما بالسكان باعتباره مفترق طرق.اصح الروايات، وكما يقول الشيخ قاسم الحسناوي أمين المزار، تؤكد أن هذا المقام هو مكان الصلب، حيث صلب الإمام الشهيد وبقي معلقا بصورة معكوسة لمدة أربع سنوات حتى لم يتبق من الجسد الشريف غير العظم، فيما تقول الرواية الأخرى انه مكان الدفن في الساقية التي اقتطع ماؤها، وقد تستطيع قراءة نوائب الدهر التي جرت على الإمام زيد في احد جدران المرقد الشريف حيث كتبت قصة استشهاده بالكامل.أبو الجيلاتقصة اقرب إلى الخيال، إلا إنها حقيقة يعرفها اغلب الناس، خاصة من لديه شوق دائم لزيارة مرقد زيد الشهيد، والقصة تحكي عن زيارة مدير أوقاف الفرات الأوسط في زمن النظام المباد، الذي زار المرقد في عام 1997 في وقت كانت تجري فيه ترميمات كثيرة، وقد ساءه أن يكون عدد الشبابيك في قبة الضريح المقدس اثني عشر شباكا على عدد أئمة أهل البيت المعصومين عليهم السلام، وإزاء هذا الاعتراض قرر إيقاف أعمال الترميم فيه وتحول القرار إلى نقاش حاد بالأشخاص المسؤولين عن المرقد، إلى إقامة مأدبة غذاء على سبيل المراضاة والإقناع، إلا أن القدر كان أسرع إليه من مائدة الغذاء التي سرعان ما مدت أمامه، وقبل ان يمد يديه إلى الطعام حيث دخل في نوبة من الصرع الهستيري وبدأ يردد (اجاني اجاني) مما استدعى نقله إلى اقرب مستشفى في سيارته الحكومية التي لم يحالفها الحظ هي الأخرى بالوصول إلى المستشفى، حيث احترقت في وسط الطريق، وتوفي هناك، وكان معه آنذاك شخصان ممن شهدا الحادثة وكانت المفاجأة عندما تم تشريح الجثة التي وجدوا فيها آثار اطلاقات نارية لحمية أصابت القلب، ليس لها مخرج ولا مدخل، وقد استفسر أفراد عائلته من الشهود عن احتمال نشوب معركة أو حفلة عرس أو عزاء في أرجاء المنطقة تسببت بهذه العيارات النارية إلا أن تأكيدات الشهود نفت ذلك، والذي قطع الشك باليقين ايضا هو عندما أكدوا لعائلته أن الفرصة لم تسمح له نهائيا بالأكل في حالة الاشتباه بوضع السم له في الطعام.
مرضى وشفاءحرمة المكان وقدسيته لا تخيب رجاء كل من زار المرقد الشريف عارفا بحقه ومكانته العظيمة عند الله سبحانه وتعالى، فكم من مريض بداء عضال هجر عيادات الأطباء واتجه الى آل البيت عليهم السلام ليتعافى حالما تطأ أقدامه احد هذه المزارات، وكم من امرأة عقيم منّ الله عليها بالولد الصالح ببركة صاحب المكان، والشيخ الحسناوي يقول إن كرامات الإمام زيد بن علي أكثر من أن تعد وتحصى الأمر الذي جعل القائمين هناك تسجيل لقاءات موسعة مع المرضى الذين تم شفاؤهم والاحتفاظ بها، وآخر هذه اللقاءات كان مع مريض أصيب بمرض السرطان عقد عزمه على المبيت في كنف حليف القرآن، فشاهد رؤيا كريمة يؤكد فيها أن الإمام زيد بن علي قد أجرى له عملية جراحية وتم شفاؤه من المرض فاستبشر خيرا وعاد إلى دياره ليكرر الفحوصات التي سبق وان أكدت إصابته بالمرض لتؤكد من جديد انه قد شفي من المرض تماما بإذن الله واغلب من منّ الله عليهم بنعمة الشفاء شاهدوا الإمام زيد بن علي في الرؤيا.
قصة العساف
أكثر المتبرعين شهرة لهذا المرقد هو عادل عبود العساف وقصة العساف غريبة هي الأخرى، إذ انه كان عائدا مع عائلته من زيارة أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (ع)، عندما تعطلت سيارته الجيمسي الحديثة، قبل عدة سنوات، في مكان قريب من طريق حلة - نجف ولم يتمكن من تشغيلها نهائيا، ولم تدم حيرته معها طويلا عندما قرأ لافتة صغيرة تشير إلى مرقد الإمام زيد بن علي عليه السلام فقال لأخيه "إن الإمام يطلبنا ولا بد أن نزوره ليبارك لنا في هذه السيارة"، ولما عقدوا العزم على زيارته اشتغلت السيارة وكأن شيئا لم يكن وانطلقت بهم إلى هناك وكانت معهم في تلك الرحلة ابنته المصابة بمرض الصرع والتي ما أن دخلت الصحن الشريف حتى أكدت لأبيها أنها تعافت من مرضها ففرح الأب كثيرا وهو الذي يقيم في الإمارات ولم يترك بابا للطب إلا وطرقه من اجل شفاء ابنته وإزاء هذا الوضع ولىنه كان رجلا كبيرا الإمكانيات المادية فقد تبرع بعمل المرمر الداخلي لحضرة الشهيد إضافة إلى استبدال شباك الضريح الذي كان صغيرا بآخر كبير جدا وتغليفه بالذهب رغم كلفته الباهظة التي تعادل من 3 الى 4 مليارات في الوقت الحاضر.فليس في دنيا الأنساب نسب أسمى ولا اجل ولا أزكى من نسب زيد بن علي (ع)، فهو من صميم الأسرة العلوية الشريفة التي اختارها الله تعالى لهداية عباده وفضلها على العالمين والذي أراد أن يعيد للإسلام نضارته ويحيي معالمه بعد أن وقع فريسة بأيدي العصابة المجرمة من الأمويين الذين جهدوا على محو سطوره وقلع جذوره في الوقت الذي احتل فيه الإمام زيد عليه السلام المكانة الرفيعة عند الأئمة الأطهار وعند العلماء المعاصرين له وغيرهم فقد اجمعوا على تقديمه بالفضل على غيره من علماء عصره.
المولود الشهيدوالإمام الشهيد
هو زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ويكنى أبا الحسين، أمه اختارها المختار بن عبيدة الثقفي لعلي بن الحسين (ع) وجاء في غاية الاختصار بأنه ولد سنة 78 هـ وقيل سنة 75 هـ في مدينة الرسول (ص) ولما بشر به أبوه الإمام زين العابدين (ع) اخذ القرآن الكريم متفائلا به فخرجت الآية الكريمة (ان الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة)، فطبقه وفتحه ثانية فخرجت الآية (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياءٌ عند ربهم يرزقون) فطبق المصحف ثم فتحه فخرجت الآية (وفضل الله المجاهدين على القاعدين) وبهر الإمام وراح يقول (عزيت عن هذا المولود وانه من الشهداء).عن جابر عن أبي جعفر (ع) قال رسول الله (ص) للإمام الحسين عليه السلام (يخرج رجل من صلبك يقال له زيد يتخطى هو وأصحابه يوم القيامة رقاب الناس غرا محجلين يدخلون الجنة بغير حساب)، وقال (ص) (يقبل رجل من أهل بيتي فيصلب لا ترى الجنة عينا رأت عورته).
نشأ زيد في بيت النبوة والإمامة وتغذى بلباب الحكمة وكان الإمام زين العابدين حفيد الإمام علي بن أبي طالب (ع) باب مدينة العلم يتعهده بالآداب ويرسم له طريق الهداية والخير كما لازمه أخوه الإمام الباقر (ع) منذ نعومة أظفاره، ومن الطبيعي ان لهذه الصحبة أثرا فعالا في سلوكه وتكوين شخصيته فقد حفظ القرآن الكريم في المراحل الأولى من دراسته واتجه بعد ذلك الى الحديث وأصبح بعد فترة فقيها واسع العلم والمعرفة يأخذ بكتاب الله وسنة رسوله ويروي الحديث لغيره، وللإمام زيد طريقة خاصة بقراءة القرآن تسمى بطريقة زيد وله مؤلفات كثيرة حيث نسبت له مجموعة من المؤلفات والرسائل بعضها في تفسير القرآن الكريم، وبعضها في علم الفقه وقسم منها في علم الكلام والأخرى في الحديث وهي أكثر من 29 مؤلفا وقد أوردت الصحف العراقية قبل حفنة من السنين أن للإمام زيد بن علي تفسيرا للقرآن موجود في خزائن المخطوطات في مكتبة الكونغرس الأمريكي.
الثائر الشجاعوقد تحدث زيد (ع) عن سعة علومه ومعارفه حين عد نفسه لقياده الأمة والثورة على الحكم الأموي، حيث قال (والله ما خرجت ولا قمت مقامي هذا حتى قرأت القرآن وأتقنت الفرائض وأحكمت السنة والأدب وعرفت التنزيل كما عرفت التنزيل وفهمت الناسخ والمنسوخ والمحكم وما تحتاج إليه الأمة في دينها مما لا بد منه ولا غنى عنه واني لعلى بينة من ربي).لقد ثار زيد على الحكم الأموي بوحي من عقيدته التي تمثل روح الإسلام وهديه بعد أن رأى باطلا يحيى وصادقا يكذب ورأى جورا شاملا واستبدادا بأمور المسلمين ورأى حكام بني أمية لم يبقوا لله حرمة إلا انتهكوها فخرج داعيا إلى الله، طالبا للحق وقد امتلأت نفسه حماسا وعزما على إعلاء الثورة الحسينية، وقد فجّر ثورته المباركة التي كانت امتدادا لثورة الإمام الحسين عليه السلام ضد الحكم الأموي ليرفع لواء الحق ومن أهداف ثورته الثأر لدم جده سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام وإقامة العدل والعيش في عزة وآباء.وقد أعلن زيد (ع) شارة الثورة بكلمته الخالدة التي أصبحت شعارا للجهاد ضد الظلم والجور قائلا (ما كره قوم حر السيف إلا ذلوا) ويقول الرواة انه عزم على الخروج فجاءه جابر بن يزيد الجعفي وقال له إنني سمعت أخاك جعفر (ع) يقول إن أخي زيد خارج ومقتول فقال له زيد عليه السلام يا جابر لم يسعني أن اسكت وقد خولف كتاب الله تعالى وتحوكم بالجبت والطاغوت.
قصة استشهادهفي معركة الحق الذي نشده زيد ضد الباطل الأموي وتحت جنح الليل رمي زيد (ع) بسهم غادر أصاب جبهته ووصل إلى دماغه الشريف فحلت الكارثة في أصحابه فهاموا في تيارات مذهلة من الأسى والحزن وطلب له الطبيب فانتزع منه السهم، فتوفي من فوره، وذلك يوم الجمعة الثالث من صفر سنة 122 هـ، وقام أصحابه بمواراته بنهر هناك فقطعوا ماءه وحفروا فيه قبرا وواروا الجسد الطاهر فيه، ثم اجروا الماء وكان مع أصحاب زيد احد عيون السلطة يراقب تحركاتهم فبادر مسرعا إلى الكوفة واخبر حاكمها بموضع الدفن فأمر بنبش القبر وأخرجه منه وحمل إلى القصر في الكوفة وأمر بصلبه منكوسا في سوق الكناسة بعد حزّ رأسه الشريفة وقد رفعت رأس زيد الشهيد كما رفعت رأس جده الإمام الحسين عليه السلام على رمح يطاف به في الأقطار، حيث أرسلت الرأس هدية إلى هشام بن عبد الملك ففرح بها كما فرح يزيد، حين مثلت رأس الإمام الحسين أمامه، فأمر بنصب الرأس الشريفة على باب دمشق ثم أرسلت إلى المدينة عند قبر النبي يوما وليلة ثم أرسلها إلى مصر وكان ذلك حقدا عليه ولإذاعة الخوف والإرهاب بين الناس، اما الجسد الطاهر فقد صلب على جذع شجرة وأحاط به حرس مكثف مخافة أن يسرق ويدفن وبقي مصلوبا على هذا الحال طيلة أربع سنوات ولما مات هشام وولي من بعده الوليد بن يزيد كتب إلى حاكم الكوفة يوسف بن عمر كتابا يأمر به بأن ينزل الجثمان المقدس ويحرقه بالنار وقام ولي الكوفة بإحراق الجسد وذره في الفرات وهو يقول والله يا أهل الكوفة لأدعكم تأكلونه في طعامكم وتشربونه في مائكم.نهيه عن سب الخليفتينتبلغ مساحة المزار عشرة آلاف متر وقد بدأ الإعمار فيه عام 1996 وانتهى عام 2003، حيث اخذ الوقف الشيعي على عاتقه بعد هذا التاريخ إجراء الترميمات اللازمة بما فيها مرمر الصحن باستثناء تغليف السياج الخارجي بانتظار التخصيصات المالية اللازمة كما أن هناك مشاريع مستقبلية لتوسيع المكان وتغيير جهة الدخول والخروج إليه من خلال إجراء تحويرات كثيرة في المنطقة السكنية المحيطة به وفتح شوارع جديدة.
يزور مرقد الإمام الشهيد زيد بن علي ملايين الزوار سنويا في حين يصل عددهم في زيارته السنوية التي تصادف اليوم الثالث من شهر صفر وهو يوم استشهاده الشريف إلى أكثر من مليوني زائر ولا تقتصر زيارته على طائفة دون أخرى خاصة وانه نهى عن سب الخليفتين الأول والثاني في الوقت الذي كان فيه الإمام أبو حنيفة النعمان احد تلامذته.
رغم هذه السنوات الطويلة إلا أن مرقد الإمام زيد بن علي عليه السلام ما زال يشع نوره في الأصقاع ويؤمه الناس طلبا لكرامة حليف القرآن، في حين تقع على مقربة منه وفي مكان ليس ببعيد عنه اطلال خرائب قصر هشام بن عبد الملك التي كانت في يوما ما قصرا بُني على الظلم والجور و(دار الظالم خراب) فرحم الله الإمام زيد الشهيد الذي أحيا ثورة جده الحسين (ع) بعد أن حاول بني أمية إطفاء نورها والتي أراد الله جل وعلا أن لا تنطفئ أبداً.