كتب الأستاذ مصطفى الكاظمي ، مقالا ، بعنوان ، " السيستاني .. مشروع المدنيّة وقيم المواطنة " ، جاء فيه ، إنّ اللّحظة التي فتح فيها المرجع الدينيّ الأعلى السيّد علي السيستاني أبواب مكتبه في النّجف القديمة إلى رئيس الجمهوريّة فؤاد معصوم في 11/11/2014 ورئيس الوزراء العراقيّ حيدر العبادي في 20/10/2014، كانت لحظة فارقة، لأنّها أتت بعد أعوام من رفض السيستاني استقبال السياسيّين. وإنّ إغلاقه الباب أمام محاولاتهم المستمرّة، جرّه إلى المعترك السياسيّ، واستخدام منبره كوسيلة تسلّق إلى السلطة.
وفي واقع الحال، إنّ رمزيّة اللّحظة أهمّ ممّا جرى خلال اللّقاء نفسه، فالاستقبال فتح الباب أمام أسئلة حول استئناف السيستاني لقاءاته بالسياسيّين، ممّا يعيد التّأويل إلى دور المرجعيّة في الواقع السياسيّ في المرحلة المقبلة. ثمّة سؤال أساسيّ لم يطرح في شكل عميق خلال السنوات الماضية: هل كانت مقاطعة السيستاني للسياسيّين موقفاً سياسيّاً من الوضع السياسيّ السّابق أم موقفاً دينيّاً يحاول حماية النّجف من غزو السياسيّين الشيعة تحديداً؟ وهل كانت خطوته الأخيرة في استقبال العبادي بدورها إشارة سياسيّة أم دينيّة؟
وفي الواقع، ومن خلال ما يمكن استشفافه من كلّ مواقف السيستاني السّابقة، هناك حدّ وسط بين تدخّل او انعزال المرجعيّة عن السياسة، وهذا ما يمثّله موقف السيستاني المستمرّ في الاجتناب المطلق من تولّي أيّ منصب سياسيّ أو التدخّل في السياسة على خلاف المسار الديموقراطيّ، ولكنّه في الوقت نفسه يحمي الإطار الديموقراطيّ والمدنيّ العامّ للبلد من خلال سلطته الاجتماعيّة لا السياسيّة، وهذا يؤدّي إلى استقلالية كلّ من سلطات الدولة والمرجعيّة ضمن سياق متعاون وبنّاء.
وإنّ استقلاليّة المرجعيّة مفهوم يدافع عنه السيستاني بضراوة. ومن هذا المنطلق، حتّى في معارضته لولاية ثالثة لرئيس الوزراء السّابق نوري المالكي، حاول المرجع الشيعيّ ألاّ يتجاوز مبادئه ومتبنيّاته في خصوص استقلاليّة كيانيّ الدولة والمرجعيّة، واستمرّ التعبير عن هذه المعارضة عبر إشارات غير مباشرة، ورسائل تتجنّب الدخول المباشر لتحديد المواقف.
ويمكن القول إنّ استقبال السيّد السيستاني لمعصوم والعبادي يندرج في تأكيد كلّ المسارات السابقة، ويوضح أكثر أسباب مقاطعته الوسط السياسيّ خلال السنوات الماضية، ويكشف بلا لبس عن حقيقة ممانعة المرجعيّة للولاية الثالثة وتأييدها للتّغيير السياسيّ الذي جاء بالعبادي إلى رئاسة الحكومة.
وما يجب قوله في هذا الشأن، إنّ الموقف الجديد من حكومة العبادي، ورسائل المرجعيّة المعلنة بدعم حكومته لتحقيق التّغيير ومعالجة الأخطاء السّابقة وإحداث الإصلاحات، ليست بلا قيود، فدعم المرجعيّة مشروط في الدّرجة الأساس بقدرة الحكومة على التزام تعهّداتها المعلنة أمام الشعب العراقيّ، وأيّ تلكؤ أو تراجع عن هذه التعهّدات الإصلاحيّة، سيقودان بالضرورة إلى موقف معارض للمرجعيّة.
وما يجب فهمه على نطاق واسع، أنّ شروط السيستاني على حكومة العبادي، ليست سريّة، وهي لا تخصّ المرجعيّة، ولا حتّى دور الشيعة فيها، بل تخصّ في الدّرجة الأساس، قدرة حكومة العبادي على تحقيق الوفاق الاجتماعيّ الداخليّ والانفتاح على الآخرين داخل الوطن وخارجه، والسعي إلى معالجة الخلل على مستوى الفساد في الدولة، والسوء في اختيار زعاماتها.
إنّ شروط المرجع الشيعيّ، ليست في الحقيقة مختلفة عن شروط السنّة والأكراد والشيعة، ولا عن شروط المجتمع الدوليّ، وكلّها تصب في إطار عام رئيسيّ يمكن اختصاره بمفهوم "الدولة المدنيّة" التي تؤسّس على قاعدة المواطنة، وعلى أساس تساوي الفرص بين أبناء الشعب، وعلى أرضيّة الاجتماع والتّوافق العام على حماية الوطن من التّهديدات الإرهابيّة التي تحاصره، وإجراء الإصلاحات الإداريّة والسياسيّة والاقتصاديّة التي تسهم في نهوضه وازدهاره.
وإنّ تبنّي السيّد السيستاني مفهوم "الدولة المدنيّة" حاز الكثير من الجدل، فهو لم يأت كمحاولة لتخفيف الأصوليّة الدينيّة، ولم يكن محاولة ذات أبعاد تتعلّق بنصرة طائفة على حساب أخرى، بل يستند إلى إيمان عميق، بأنّ الدين لا يمكن ممارسته بحريّة وبأمن وخارج الصراع السياسيّ، من دون إطار مدنيّ للدولة يحمي تنوّعها، ويعزّز فرص التنوّع فيها. بل إنّ حماية التنوّع الدينيّ والمذهبيّ والثقافيّ، والدفاع عن الاختلاف كوسيلة لقاء وتفاعل لا افتراق، سواء أكان في العراق أم في المنطقة، كانا على الدوام من متبنيّات السيستاني.
وإنّ جوهر رؤية السيستاني حول هذه القضيّة، تتعلّق بالعلاقة الحسّاسة بين السياسة والدين، فالسياسة في نظره هي إطار تنظيميّ للدولة، ولأنّها كذلك يجب أن تحرص على حماية التنوّع الثقافيّ في المجتمع وتوفير الظروف المناسبة لحريّة الاختيارات الدينيّة، كشرط لضمان السلم الاجتماعيّ من جهة، وكطريق لممارسة أكثر روحيّة الدين، بعيداً من الدلالات السياسيّة.
إنّ العراق هو قلب المسارات الشيعيّة ومحرّكها دينيا واجتماعيا ورمزيا من حيث وجود المرجعية الدينية فيه والمراقد الشيعية. كما أنّ مرجعيّة النّجف، هي قلب الإلهام الروحيّ للشيعة، بصرف النظر عن المرجعيّات المختلفة الأخرى المنتشرة حول العالم.
ينظر السيستاني إلى التّجربة العراقيّة باعتبارها تجربة ملهمة لشيعة العالم، وهو يحرص على أن تكون هذه التّجربة مدنيّة، تحقّق التّوافق الإسلاميّ وتحمي التنوّع الاثنيّ والثقافيّ والمذهبيّ، وهذا مؤشّر إلى نوع الرّسائل التي يريد أن يقتدي بها كلّ الشيعة في العالم أيضاً.
وفي لقاء الوفد الخليجيّ في تموز/يوليو 2014، ينتقد السيستاني مآلات "الرّبيع العربيّ"، ليس من زاوية منع الشعوب من التّعبير الحرّ عن رأيها ونيل حقوقها المشروعة، وإنّما لجهة مساهمة هذه التحرّكات الاجتماعيّة في التّأسيس لفتن مذهبيّة وممارسات دمويّة لا تقود إلى تحقيق الهدف الأسمى الذي يقدّمه السيستاني على سواه، وهو الوئام والتفاهم والتكامل بين المدارس والمذاهب الإسلاميّة المختلفة.
إنّ ثقافة السيستاني السلميّة ليست ثقافة مهادنة، بدليل على أنّ المرجعيّة الشيعيّة كانت على امتداد تاريخها ترفض الظلم الاجتماعيّ، وتقف مع إرادة الشعوب في الحصول على حقوقها، وما زالت تمارس هذا الدور في العراق حتى بعد عام 2003 ووصول قيادات شيعيّة إلى السلطة، وانتشار الوصف السياسيّ العام بأنّ "الشيعة هم من يحكمون العراق". وإنّ تلك الجملة الأخيرة، كانت كفيلة بأن تتحوّل المرجعيّة عبر خطبها ورسائلها ومواقفها، ومنها موقف مقاطعة السياسيّين إلى جانب الشعب، كما كانت على امتداد تاريخها، ولم تكن هويّة الحاكم الشيعيّ، أو ادعاء الحكم الدفاع عن الشيعة، كافية لاقناع المرجعيّة بتجاوز ثوابتها المنحازة إلى حقوق الشعب أوّلاً.
ويقوم مستقبل العراق المدنيّ، من وجهة نظر السيستاني، على أساس حماية التنوّع الفكريّ والثقافيّ والدينيّ العراقيّ في إطار حكم رشيد، لا يستند إلى دعم طائفة على حساب أخرى، حتّى لو كان حكماً شيعيّاً.