*** *** *** *** ***
"كانت هذه العلاقة الوطيدة بين تركي وأرمني غير مألوفة كثيرا آنذاك , وأكاد أقول إنها "خارج حدود الزمن " بل وتحوم حولها الشبهات كذلك , لقد حافظ الأتراك والأرمن على علاقات عمل ولياقات اجتماعية واحترام متبادل , أما الصداقة الحقيقية والانسجام العميق فهذا مالم تشهده تلك الفترة , فالعلاقات بين الطائفتين كانت تتدهور سريعا ."
*** *** *** *** ***
"كان والدي , إذا شئت نموذجا لما ندعوه عادةً بالمستبد المستنير , كان مستنيرا لأنه أراد لنا تنشئة الرجال الأحرار, ومستنيرا لأنه حرص على تعليم ابنته وابنيه على قدم المساواة , ومستنيرا كذلك في شغله بالعلوم الحديثة والفنون , ولكنه كان مستبدًا أصلا , في الطريقة التي يعبر فيها عن أفكاره ..."
*** *** *** *** ***
" كنت قد استأجرت غرفة تقع في سقيفة فسيحة ومتشققة , لدى امرأة تدعى السيدة بيروا , وإذا ارتقيت السلالم اللامتناهية , وأدرت المفتاح الضخم في قفل الباب , كنت لاأزال ممعنا في التوبيخ والتأنيب . لن أطأ أبدا عتبة تلك الحانة ! ولن أنساق البتة وراء هذا النوع من الشجار ! ألم أعاهد نفسي على التحصيل والدراسة , ولا شيء سواهما ؟ لقد أخطأت ..."
*** *** *** *** ***
"في تلك اللحظة لم أقل لنفسي "أحبها" ، لا لنفسي ولا -بالأحرى- لها ، وما سأقوله قد يبدو مضحكاً .. كنت أشعر بكل أعراض الحب المفتون ولكن الكلمات لم تحضرني ،ويبدو أن المرء بحاجة في مثل تلك اللحظات إلى صديق صدوق يتلفظ بكلمة "عاشق" حتى وهو يهزء منك حتى ولو كان سيء النية بالمطلق ،من أجل أن تطرح على نفسك السؤال عينه ، وحينئذ تتيقن من الجواب !"
*** *** *** *** ***
" ثم وصلنا في حديثنا إلى معركة شمال أفريقيا والأنباء الأخيرة ومفادها أن موسليني يستعد للدخول ظافرا إلى مصر , وعندما انسحبت مضيفتنا بدورها وكانت تتثاءب منذ بعض الوقت , قائلة : " لاداعي للخلود إلى النوم على الفور , أكملا كاسيكما بهدوء "
وانصرفت , فخيم الصمت فجأة , وتعذر استئناف الحديث فقلت كما لو أنني أقرأ من كتاب :
ـ يبدو أن دانييل قد اصطحبت الحديث معها سهوا .
وسمعت الضحكة نفسها التي صدحت بها الضيفةأثناء العشاء , كانت ضحكة مرحة وحزينة معا , طليقة ومنخفضة , كانت أعذب موسيقى في الكون! وهاتان العينان اللتان تغوران أمامي !
وسألتني على حين غرة : " بماذا تفكر ؟"
كان الأمر يتطلب مني الكثير من الوقاحة لأجيب ببساطة " أفكر بك !" لذا فضلت الإجابة بصورة ملتوية ـ كنت ألعن الحرب ...."
*** *** *** *** ***
"للطبيب كتابديار نظرياته، إذ يعتقد أن امرأة مثلها، فقدت رشدها نتيجة صدمة، ستسعيده بصدمة أخرى. الحمل، الأمومة والولادة بشكل خاص صدمة حياة قوية تنهي صدمة موت قوية. الدم يمحو الدم. نظريات .. نظريات"
*** *** *** *** ***
"أصغت إلي كلارا مقطبة الجبين وهي تهز رأسها كما لو أنني أعلمها بأمر بالغ الخطورة ثم نظرت حولها , وإذا اطمأنت إلى عدم وجود أي كائن طبعت على شفتي قبلة خاطفة كأنها نقرة عصفور .
عندما صحوت من المفاجأة , كانت قد صعدت على السلالم مهرولة , وانصرفت بدوري , ياإلهي , كم كانت السماء زرقاء في ذلك اليوم !"
*** *** *** *** ***
"المازق الذي استمر ثمان وعشرين سنة :
(بقيت مخبولا , وأعني أنني خبلت أكثر من العادة , ذلك أن الخبل كان الوضع الطبيعي , ولذا قدم لي العزاء على طريقته : ـ إن مايجري لايجب أن يدهشك ياعصيان , فشقيقك سوف يتفوق عليك دائما عليك بميزة لاتتمكن أن تضاهيه فيها .
ـ وماهي ؟
ـ إنه شقيق مقاوم سابق , أما أنت فلست سوى شقيق مهرب سابق "
*** *** *** *** ***
"لم تعد ابنتي لزيارتي أبدا . وأنا لاألومها , فلماذا تعود ؟
لإنقاذي ؟ لقد أنقذتني أصلاً , ونطقت بالكلمات الشافية . كنت أستعيد صوابي وأتسلق ببطء حدران هاويتي الداخلية , وأصارع! أصارع لتبديد الغشاوة واستعادة بصيرتي , وترميم ذاكرتي , وإحياء رغباتي وإن تعذبت لعدم قدرتي على إشباعها ..كانت معركة أخوضها بمفردي .
وقد خضتها بحكمة مضاعفة, فثابرت على مراقبة رفاقي في المحنة لمحاكاة تصرفاتهم وعادتهم , إذ صرت أدرك يوما بعد يوم أن لاشيء حقا كان مماثلا بين حالة التخدير وحالة اليقظة. وهكذا لم يكن إيقاع الكلام أو النبرة أو " التأوهات " التي تختفي ـ هذه الأصوات التي تطيل الجمل والمفردات والحروف ـ بل كانت مفرداتي هي التي تتحول , فثمة كلمات ينساها المرء عندما تتخدر الرغبات التي تدل عليها .."
أمين معلوف أديب وصحافي لبناني ولد في بيروت في 25 فبراير 1949 م،ترجمت أعماله إلى لغات عديدة ونال عدة جوائز أدبية فرنسية منها جائزة الصداقة الفرنسية العربية عام 1986م عن روايته ليون الإفريقي، وحاز على جائزة غونكور، كبرى الجوائز الأدبية الفرنسية، عام 1993 عن روايته صخرة طانيوس. تميز مشروع أمين معلوف الإبداعي بتعمقه في التاريخ من خلال ملامسته أهم التحولات الحضارية التي رسمت صورة الغرب والشرق على شاكلتها الحالية.