في ذكرى الراحلة.. حياة شرارة
د. عزالدين مصطفى رسول
عند رحيلها استنجدت بالقلم فلم يستجب، لسبب لم افقهه، وعجلته ذاكراً وصف الآخرين له بالسيّال ووصف اشد الخصوم له بالمنتج فلم يجد التعجيل والإثارة.
واستنجدت بالدموع وكنت أظنها تلبي النداء بأعجل مما لبته في رحيل الآخرين واستنهضتها بإعادة ما قاله شعراء عظام فيها:
- " كاد القلب ان يغدو ماء يسيل من عيني عابراً – نالي"
- سيغدو القلب قطرة دم يطفو على بصري – الشيخ نوري الشيخ صالح.
ولكن الدموع انحبست في القلب وتراكمت مع الهموم مثقلة الذاكرة ومثيرة استفهام الأصدقاء الى اليوم، ولكن خبراً او جملة أخبار في صحيفة عن انتحار نساء بسبب الفاقة والاضطهاد في (بلد الرشيد) اطلق العنان للمكنون في مخابئه في القلب والذاكرة، وأظن هذ ه الكلمة أول الغيث، فلتكن .. هي زميلة العمر وصاحبتي في مسيرة النضال والقلم لعقود، ربطت بيني وبينها علاقة فريدة قلنا عنها: أتحب أختاً لم تلدها امك اكثر من أخواتك، وكانت تجيب: الا يمكن ان تحب المرأة أخاً ورفيقاً لها لم تلده أمها اكثر من اخوانها؟
وكان هذا الوداد وهذا التلازم الذي قصر فهم كثيرين عن إدراكهما. عندما غادرت بغداد وانا منبوذ، مطرود من العمل في الجامعة لتحتضننا (السليمانية) للأبد. وجدتها أمامنا في مثل موقفي هذا قائلة: لست ممن يقدرون على التعبير عن عواطفهم ولكنني اجد نفسي بعدكم وحيدة في بغداد، فلماذا تتركوني. كدت ان الغي قراري الصارم، ولكن ما الحيلة تجاه ضيق العيش وتركز الاضطهاد والملاحقة فرأيتني قاسياً هذه المرة وثبت على قراري وكانت هذه من الحالات النادرة في حياتي.
كنت ازورها في بغداد كل شهر، لأراها وأتفقدها مع ابنتيها واستمع الى همومها، وهي هموم امرأة اغتيل زوجها المناضل منذ سنين – نعم اغتاله النظام، وقد أعود للتفاصيل. وهي هموم مناضلة تركت العمل النضالي (السري)، وكانت تنفس كروبها باللجوء الى قلمها الساحر الذي لا يباح له بكتابة كل ما في الفكر والقلب – لكاتبة تنتمي الى شعبها وجماهيرها وتعادي الفاشية وتقاوم الرعب.
جاءت انتفاضة 1991 فأصبحت رؤية بغداد حلماً ما زلنا نحلم بتحقيقه. سمعت عن ما لقيته من إبعاد عن الجامعة، وامتناع الصحف ودور نشر النظام عن نشر مقالاتها وذكرياتها وعملها الدائب في ترجمة الأدب الروسي.
بعثت اليها برسالة، حدثتها عن كردستان التي تفتح جامعاتها صدورها لأمثالها، ولكنني فوجئت بمن أوصل رسالتي يحدثني عن رعب يسيطر عليها، رعب يمنعها حتى من فكرة الخروج من الدار، كان شبيهاً بالرعب الذي سيطر على الجواهري في أيامه الأخيرة.
واخيراً ساد الخبر عن موت من كتبت ودرست مادة (التراجيديا) موتاً رهيباً. وجدوها ميتة مع ابنتيها في جو مملوء بالغاز في الدار، قيل وقيل عن هذا المشهد التراجيدي ورويت قصص عديدة، والأصابع تمتد الى النظام، أيعقل ان تقتل سيدة مثلها وفي مستواها ابنتيها معها، وهل يعقل ان تقنع ابنتيها وهما قد انهيا الدراسة الجامعية، بالاشتراك في عملية انتحار وموت؟ وإذ فاقت ابنتها الصغيرة من الغيبوبة بعد ايام ونجت وحدها من الموت، فإنها ما تزال ساكتة.
اكد لي صديق قادم من بغداد، كان على صلة وثيقة بأسرتها أنها عملية انتحار، ولكن لماذا؟
- أصيبت بكآبة .. ولماذا؟
- كانت تحمل بكالوريوس في الأدب الانكليزي.
- كانت تحمل الدكتوراه في الأدب الروسي. كتبت أطروحتها في موسكو عن "ليف تولستوي" وهذه إشارة قيّمة بالنسبة لباحثة عربية.
- عملت بجدارة – في تدريس الأدب الروسي بجامعة بغداد.
- وأنتجت بصمت وهدوء اعمالاً رائعة – بين التأليف والترجمة عن الروسية، عن عمالقة الأدب الروسي.
- أعطتنا في كتيب صغير تجربتها عن الترجمة وما زال الكتيب مصدراً.
- بدأت بجمع ماكتبه والدها، الكاتب والمناضل الفذّ محمد شرارة – فأصدرت منه كتابين وظلت كتب اخرى.
- كانت دؤوبة بصمت.
- دعاها عميد الكلية (كلية الآداب بجامعة بغداد) في العام 1978 وطلب منها الانتماء الى الحزب الحاكم (ولكي لايتوجه الظن الى غيره من العمداء، أقول ان ذلك الشخص كان يسمى ضياء حمودي رصاص بارود – ويلقب نفسه بالجبوري، وكان حقاً شرطياً بمنصب عميد)، ولكنها أبت وأجابت بإباء جواباً لست بصدده الآن.
- نقلت من أستاذة في الجامعة الى موظفة في (معمل السمنت في السماوة) ، وكتب المرحوم محمد عايش (وزير الصناعة آنذاك) في هامش امر نقلها (ليس لدينا تدريس تولستوي في معمل السمنت في السماوة) وكنا نفسر هذا الهامش تفسيراً مغايراً لما عرفناه عن العمل ولم تلتحق بالسماوة (ونخلها وسمنتها).
- أصبحت القضية مسخرة ومضحكة نقلها أهلها في (بنت جبيل) الى الدكتور عبدالمجيد الرافعي الذي نقل الصورة الى بغداد جهلاً، فأعيدت الى الخدمة.
- مات زوجها بعد محاولة اغتيال وظلت هي ملاحقة من السلطة بصور شتى، حتى تقاعدت ورفضوا اعطاءها راتبها التقاعدي.
- كنت بعيداً وانا في كردستان فلا اعرف تفاصيل الملاحقة، ولكن اشخاصاً عديدين، نقلوا لي انها كانت تخشى الكلام حتى في دارها، وتتكلم بهمس اخف بكثير عن همسها المعتاد في الكلام.
- منذ ان رحلت قبل بضع سنين لم يكتب عنها غير مقال في "الحياة" وآخر في "الاتحاد" وظل الشيء الكثير مما يجب ان يقال عنها، وعن أبيها.
- هذه بداية وفاء وتذكر مني، أتمنى ان أخوض في عالم إبداعها في قابل الأيام، ولكنني واثق بقناعة وجدانية:
- انها اغتيلت، ولسبب سياسي.
- حتى اذا كانت تراجيديا الانتحار صحيحة فهي اغتيال (سياسي).
- السلطة ساكتة لحد الآن عن الإفصاح عن أسباب رحيل مثقفة وكاتبة بارزة، كانت زينة أساتذة جامعة بغداد، وواحدة من مفاخر لبنان (موطن أهلها)، والنجف الأشرف (منبث الانتساب الفكري والأدبي لأبيها).
نتذكرك بإجلال دوماً يا حياة ..يا ابنة لبنان والعراق و آل شرارة (البارّة والخالدة).
كاردينيا