بسم الله الرحمن الرحيم


اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم



وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك


وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله


السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته




{إِلَهِي وَرَبّي مَنْ لِي غَيْرُكَ‏، أَسْأَلُهُ كَشْفَ ضُرّي، وَالنَّظَرَ فِي أَمْرِي}.

ويا إلهي ما لي أحد سواك… فإلى مَن أتوجّه بسؤالي؟ ومن غيرك يا إلهي يكشف الكرب الذي حلّ بي؟
أيُّ نبع في الوجود سوى فيض نبعك أنت يا ربَّ الخير المطلق… فإليك يا ربّ أتوجه في سؤالي في كلِّ أحوالي… في دنياي وآخرتي.
ويا مولاي إلى مَن أتوجه وأنا البائس ومن يغيثني وأنا المكروب.
أنت وحدك يا سيدي المقصود في الحاجات… وأنت وحدك نبع الإحسان والكرم… وأنت وحدك الكمال المنزّه من كلِّ نقص وعيب.
ولو قصدتُ غيرك يا إلهي، قصدتُ بخيلًا لا يجود وعاجزًا لا حول له ولا قوّة وضعيفًا لا يحير ضرًا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا… ولو قصدت غيرك يا رب؛ قصدت مخلوقًا مثلي وفقيرًا بائسًا لا يملك من نفسه شيئًا…
أنت يا إلهي وحدكَ واجب الوجود؛ فعليك توكُّلي، وأنت وحدك الرازق الذي إذا مددتُ كفي إليك لم تردّني خائبًا؛ كيف وأنت الذي ترزق بلا سؤال وتعطي يا مغيث المكروبين.
أجل هكذا يكون حال الإنسان إذا أدرك موقعه الحقيقي ويعرف مَن يخاطب ومَن يسأل وفي حضرة من يقف، إنّ حال الإنسان في هذه الحياة كغريق في لُجّة بحر لا أمل له في النجاة إلّا رحمة الله سبحانه…
وهكذا علّم الله الإنسان: «يَا عيسَى! اُدْعُنِي دُعاءَ الغَرِيقِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ مُغِيثٌ».[1]
وجاء عن الإمام الصادق عليه السلام: «إِذَا أَرادَ أَحَدُكُم أَنْ لَا يَسأَلَ رَبَّهُ شَيْئًا إِلَّا أَعْطاهُ فَلْيَيْأسْ مِنَ النَّاسِ كُلّهِم، وَلَا يَكُونَ لَهُ رَجاءٌ إِلَّا عِنْدَ اللّهِ، فَإِذَا عَلِمَ الله عَزَّ وجَلَّ ذَلِكَ مِنْ قَلْبِهِ لَمْ يَسْأَلِ اللّهُ شَيْئًا إِلَّا أَعْطاهُ».[2]
إن من يقول: «يا معبودي ولا معبود سواك»؛ من كلِّ قلبه ومن أعماق وجوده صادقًا مخلصًا لا بدّ وأنْ يُستجاب دعاؤه.
إنّ من يقطع أمله ورجاءه من كلِّ شي‏ء إلّا الله… من أنْ لا يرى شيئًا إلّا الله… لا مال ولا ثراء ولا جاه ولا كلّ شي‏ء من مظاهر هذه الدنيا الزائلة… لا بدّ وأنْ تنفذ كلماته ومناجاته أستار الحُجُب وتصل إلى الله ويستجاب دعاؤه.
إن من يقول: «يا إلهي وربِّي وسيّدي»… يعني أنه يرفض سلطة الفراعنة ولا يعترف بحاكمية أحد إلَّا حاكمية الله سبحانه وتعالى؛ لأنّه لا شي‏ء في الوجود يمكن أنْ يُقدّم نفعًا للإنسان أو يلحق ضررًا.
ومن هنا فإنّ حب الله والإيمان به عزَّ وجَّ يتطلّب الانصراف عن كلِّ شي‏ء واليأس من كلِّ شي‏ء؛ وهذا هو إيمان العاشقين، إنهم لا يرون شيئًا إلَّا الله وما ما هذا الوجود إلّا تجليًّا لرحمته وإرادته وقدرته.
ولهذا ترى العاشق يقول: «إلهي وربّي من لي غيرك، أسئله كشف ضرّي والنظر في أمري».
وهكذا يقول المؤمن: «إلهي إنَّ لي في كَشكُولِ الفَقرِ مَا لَيسَ في خَزانَتِكَ». وهو الله سبحانه الغني المطلق محبوب الفقراء والذين أدركوا حقيقة فقرهم الذاتي.
وعند ما يحصل الانقطاع إلى الله… عندما ينبض القلب بعشق المحبوب، وعندما تفيض العيون شوقًا إليه، وتتعفر الخدود تذلُّلًا في حضرته، وعندما تتشبّث الأكفُّ بأذيال رحمته، حينئذ تنفتح أبواب السماوات ويتدفّق الفيض الإلهي بالرحمة والرأفة والمغفرة والبركات ويضع الإنسان خطاه في الطريق المستقيم، الذي يؤدّي إلى السعادة في الدنيا والآخرة.

حكاية:
حكى أحد العرفاء عن أمٍّ طردت ابنها الشاب لعقوقه وأذاه وإعراضه عن النصيحة، قالت له: اخرج فلستَ ابني. وخرج الفتى ليمضي وقته مع الفتيان، إلى أنْ حان وقت الغروب فراحوا يعودون أدراجهم إلى بيوتهم، ولمّا ظلّ وحيدًا ولم يرَ وفاءً من رفاقه عاد إلى منزله فرأى الباب مسدودًا، فراح يطرق الباب ويبكي ويتضرّع ويتوسل إلى أمه أنْ تفتح له الباب ولكنّ أمّه امتنعت عن ذلك.
وفيما هو يتضرّع ويبكي مرّ عالمٌ تقيٌّ فأشفق على الفتى، فطرق الباب وتشفّع للفتى عند الأمِّ لتفتح الباب.
قالت الأمّ: أيّها المحترم أقبلُ شفاعتكَ بشرط أنْ تكتب لي عهدًا إنْ عقّني‏ بعدها وآذاني أنْ يخرج من البيت ولا يدعوني أُمه، فكتبَ الرجل التقيُّ لها ذلك وتصالح الابن مع أمّه.
ومرّت أيام وذات يوم مرّ الرجل التقيُّ فوجد الفتى عند الباب يتضرّع ويقول: كوني ما شئت ولكن لا تغلقي دوني الباب ولا تطرديني. ولكن الأمَّ أصرّت على عدم فتح الباب وقالت: لن أفتح لك الباب ولن أدعك تدخل البيت، ولن أتصالح معك. وفكّر الرجل التقي أنْ يجلس جانبًا ليرى عاقبة الأمر، فرأى الفتى يجهش بالبكاء إلى أنْ غُشي عليه وانقطع صوته، واطلّت الأمُّ لترى ما حلّ بابنها، فلمّا رأت ذلك فارت عاطفة الأمومة، ففتحت الباب ورفعت رأس ولدها عن التراب ووضعته في حجرها وراحت تمسح عن رأسه وتقول: يا قرّة عيني! امضِ لتدخل البيت. إنّي وإنْ أغلقت دونك الباب فلم يكن مرادي طردك، بل كنت أريد تأديبك لتعود إلى دائرة الطاعة.
إنّ المذنب إذا تاب وندم وتضرّع إلى الله عزَّ وجلَّ وأناب فستنفتح له أبواب المغفرة والرحمة.[3]

حكاية أُخرى:
‏جاء في ترجمة محمود الغزنوي أنّه لمّا تربّع على عرش السلطنة والملك مرّ يومًا بشاطئ البحر فرأى فتىً يُلقي بشباكه إلى البحر وكان في غاية الحزن فسأله السلطان عن سبب حزنه فقال الفتى: أيها الملك وكيف لا أحزن ونحن سبعة يتامى‏ فقراء أمّنا عجوز فمن أين لي أنْ أكفل معيشتهم؟ فأنا آتي كلّ يوم إلى البحر، فربما اصطدت سمكة أو سمكتين، فقال الملك: أتحبُّ أنْ أصطاد معك وأكون شريكك؟
قال الشاب: نعم.
قال السلطان: اسحب الشباك باسمي، فلمّا أراد أن يفعل ذلك فإذا هو لا يستطيع فقال الملك لمن حوله: أعينوه!
فلمّا أخرجوا الشباك فإذا هي ملأى بالسمك الوفير.
ولمّا عاد السلطان إلى قصره وجلس على سرير الحكم أرسل وراء الفتى فجاء فأجلسه إلى جانبه وراح يسأله وكان كلّما استنكر أحد وقال: ليس مكان هذا الفتى إلى جانبك يقول: إنه على كلِّ حال شريكي وهو في ما لدي شريك.
أجل إذا كان الملك المجازي هكذا يفعل، فما بالك بالملك الحقيقيّ وعنده الخزائن التي لا تنفد ولا تنتهي. كيف ستراه يفعل مع الإنسان الفقير المحتاج والذي لا يمكن له أنْ يعيش حتى لحظة واحدة من دونه.
إنّ نظرة من الرحمة الإلهية تفعل ما لا يمكن تصوُّره. نظرته سبحانه أنقذتْ نوح والمؤمنين من غضب الطوفان العظيم. وهي التي جعلت من عصا موسى قدرةً تهزم الفرعون، الذي تجبّر وطغى وقال أنا ربكم الأعلى، وتُخلّص بني إسرائيل من طغيانه وتنقذهم من الغرق في مياه البحر وأمواجه المتلاطمة. وأوصلتهم إلى ساحل النجاة والأمان، وهي التي أنقذت أيّوب من سهام البلاء والمصائب؛ وأنقذت يوسف من غيابات الجب وأجلسته على كرسي الحكم ليصبح عزيز مصر.

وحكاية أخرى‏:
كان حاتم الأصمّ من الزهّاد والعرفاء والأتقياء في عصره، وبالرغم من شهرته بين الناس فقد كان يعيش مع أُسرته في شظف من العيش ولكنه كان يتوكّل‏ على الله وحده.
كان يتحدّث ذات ليلة مع أصدقاء حول الحجِّ وزيارة بيت الله الحرام وزيارة ربوع الوحي والنبوّات فتأجّجت نار الشوق للسفر إلى هناك.
وما إنْ عاد إلى منزله حتى حدّث زوجته وأولاده برغبته في حجِّ بيت الله فقالت زوجته: ومن أين لك نفقة السفر وزاد الطريق وأنت فقير لا تملك شيئًا؟! ثم كيف تتركنا على هذا الحال وأنت كما ترى! وقد كتب الله سبحانه الحجَّ على الأغنياء ومن استطاع إليه سبيلًا؟!
وأمّن أولاده على كلام الأمّ إلّا ابنته الصغيرة فقد قالت: وما يمنعكم من أنْ تأذنوا له بالسفر؟ دعوه يذهب إلى حيث شاء ورزقنا على الله وما والدنا إلّا سبب من الأسباب ولإنْ ذهب فإنّ الله سيرزقنا بسبب آخر. وانتبه الجميع إلى هذه الحقيقة وأذنوا لأبيهم بالسفر وحج بيت الله الحرام والدعاء لهم هناك.
وسُرَّ حاتم أيّما سرور وأعدّ للسفر أسبابه والتحق بقافلة الحجيج.
ولمّا سمع الجيران بأنّ سفر الرجل الزاهد كان سببه ما قالته ابنته الصغيرة جاؤوا يلومونها كيف فعلت ذلك وماذا سيفعلون وقد يغيب ربّ العائلة شهورًا طويلة؟
وانضم أفراد العائلة إلى جميع اللائمين: وقالوا لو لا أنّكِ قلتِ ما قلتِ ما حصل ما حصل!
وشعرت الفتاة بالحزن وراحت تبكي ببراءة وفي تلك الحالة رفعت كفّيها إلى السماء وقالت: اللهم إنّ هؤلاء اعتادوا على إحسانك وكرمك ويطعمون من موائد نعمك اللهم فلا تضيّعهم ولا تُخزني فيهم.
وفيما كان أفراد الأسرة حائرين يُفكّرون فيما عسى يفعلون ومن أين سيأكلون أو يشربون وإذا بحاكم المدينة يعود من رحلة صيد وقد هدّه الظمأ والسغب؛ فأرسل بعض رجاله إلى بيت هذه الأسرة الفقيرة فطرقوا الباب وخرجت المرأة تسأل من الطارق وما يريد؟ قالوا: أرسلنا حاكم المدينة يطلب ماءً.
فنظرت المرأة إلى السماء وقالت: اللهم إنّا بتنا ليلتنا جائعين واليوم يأتي الأمير يطلب منا ماءً!
ثم أحضرت إناءً مليئًا بالماء وجاءت به إلى الأمير واعتذرت عن الإناء؛ لأنّه كان من خزف، وسأل الأمير من حوله عن هذا المنزل لمن؟
قالوا: هو للأصم أحد الزهّاد والعرفاء وقد سمعناه أنه ذهب إلى الحجِّ وليس لعياله نفقة. قال الأمير: إنّا قد طلبنا منهم ماءً وهم ليسوا في حال ميسور، وليس من المروءة إلّا أنْ نساعدهم؛ قال ذلك، ثم فتح نطاقًا ذهبيًّا كان يتمنطق ورماه في بيت الزاهد ثم قال: من أحبّني فليفعل مثل ذلك. ورمى جميع من معه أنطقتهم، ولمّا أرادوا مغادرة المكان قال الأمير: سلام عليكم سوف يأتي وزيري إليكم ويشتري منكم هذه الأنطقة. وما أسرع أن جاء الوزير يحمل أثمان تلك الانطقة.
ولمّا رأت الفتاة ذلك دمعت عيناها؛ فقيل لها هذا ليس وقت بكاء بل فرح وسرور وقد فتح الله علينا من أبواب رحمته ولطفه وما وسّع علينا عيشنا.
قالت الفتاة: أبكي لأننا بتنا ليلتنا فقراء جائعين واليوم نظر إلينا مخلوق فأغنانا، فكيف لو نظر الله إلينا؟!
ثم رفعت يديها إلى السماء تدعو لأبيها: اللهم كما نظرت إلينا وأنزلت علينا من رحمتك فانظر إلى أبينا وأصلح أمره.
وأمّا ما كان من شأن حاتم الأصمّ فقد كان في قافلة الحجيج ولم يكن في القافلة من هو أفقر منه، فلا مركب يحمل ولا زاد يكفيه ولكن كان كلُّ من يعرفه يمدّ له يد العون بشي‏ء يسير.
وذات ليلة شعر أمير الحاج بألم شديد وعجز طبيب القافلة من فعل شي‏ء يُسكّن ألمه ويداوي أوجاعه، فسأل أمير الحاج عن زاهد عارف في القافلة يدعو له ويفرّج عنه بدعائه ممّا يعاني قيل: نعم هو حاتم الأصمّ. فقال أيتوني به الساعة؛ فتراكض الغلمان إلى حاتم يحضروه، فدخل وسلّم على الأمير وجلس عند فراشه ثم دعا له بالشفاء فما أسرع أنْ انفرجت أسارير الأمير وزال عنه الألم، كأنّه لم يكن يتلوّى منه وأراد أنْ يكافئه فأمر بتهيئة مركب له وأعطاه ما يكفي من النفقة ذهابًا وإيابًا.
فشكر حاتم الأمير ولمّا دخل الليل كانت له مع الله عزَّ وجلَّ مناجاةٌ وتضرّعٌ وخشوعٌ إلى أنْ وهدت عيناه بالنوم فسمع هاتفًا يقول: يا حاتم من أصلح حاله مع الله أصلح الله حاله معه ومن آمن به أنزل عليه رحمة منه وبركات؛ فلا تغتم لحال عيالك فقد أصلح الله حالهم.
ولمّا أفاق حمد الله وأثنى عليه وهو يعجب من أمر الله عزَّ وجلَّ.
ولما عاد من حجِّ بيت الله خرج لاستقباله أولاده وسرّوا بلقائه وهو أيضًا سرّ بهم وكان أكثر سرورًا بابنته الصغيرة؛ فقبّلها وقال: ما أكثر من تظنه صغيرًا وهو كبير إنّ الله لا ينظر إلى السن وإنّما إلى معرفة الحق. فسلام على من عرف الله وتوكّل عليه، ومن توكّل على الله فهو حسبه‏.[4]

وحكاية أخرى‏:
حكى الفاضل السيد جعفر المزارعي: إنّ أحد طلبة الحوزة العلمية في النجف الأشرف كان يعيش في ضيق وشظف من العيش لا يطاق.
فجلس ذات يوم إلى جانب ضريح سيّدنا علي (عليه السلام) يشكو حاله بشي‏ء من العتب قائلًا: سيّدي يا أبا الحسن لأيِّ شي‏ء تعلّق في ضريحك هذه المصابيح الوهاجة التي لا نظير لها وهذه الثريات وأنا كما ترى‏ من البؤس في حالي؟!
فرأى في ليلته تلك وفي عالم المنام أمير المؤمنين يقول له: إنْ أردت جواري هنا فهذا عيشك خبز وفجل وهذا أثاثك لا يعدو سوى فراش، وإن أردت الرفاه فاذهب إلى الهند إلى مدينة «حيدر آباد الدكن» إلى بيت فلان فاطرق الباب وقل لصاحب الدار: سمت نحو السماء وأضحت دارة الشمس!
ولمّا استيقظ من النوم انطلق في الصباح إلى مرقد سيّدنا علي (عليه السلام) وشكى‏ حاله وقال: لقد ساءت حالي حتى لا أستطيع البقاء في هذا البؤس، قال ذلك وعاد أدراجه إلى حجرته، فرأى في منامه في الليل أمير المؤمنين يقول له: هو ما قلت لك إنْ أردت جواري فهذا عيشك، وإلّا فاذهب إلى تلك المدينة وقل لصاحب الدار: سمت نحو السماء وأضحت دارة الشمس.
وهبّ ذلك الطالب من نومه وظلّ ساهرًا حتى الصباح وما إنْ صلّى صلاة الفجر، حتى راح يلملم كتبه وأثاثه البسيط وعرضه للبيع لعله يُهيِّئ نفقة توصله إلى الهند وساعده بعض المحسنين وقد أبدى بعضهم تعجّبه من هذا الطالب الفقير يقصد زيارة فلان الثري في الهند!
وشدّ الطالب الرحال ووصل إلى الهند وإلى المدينة وإلى تلك الدار؛ فإذا هي قصر فهتف به: سمت نحو السماء وأضحت دارة الشمس.
ولمّا سمع الرجل ذلك أمر الخدم أنْ يدخلوا الشاب واستقباله بإكرام، فأُرسل إلى الحمام وغيّر ما عليه من الثياب وقد قُدِّم له الطعام وبات ليلته تلك في أحسن حال.
فلمّا كان العصر من اليوم التالي أُدخل إلى صالة الاستقبال؛ فرأى أعيان البلدة وتجّارها وعلماءها يفدون وكل يجلس في مكان خصص له من قبل؛ فسأل من حوله هل من مناسبة؟
فقال له: اليوم عقد قران ابنة صاحب القصر.
وكانت الصالة أحسن زينة عندما حضر صاحب القصر؛ فنهض له الجميع إجلالًا فحيّاهم ورحّب بقدومهم ثم استقرّ في مكانه.
وهيمن صمت مهيب على المحفل وكلُّ الأنظار مشدودة إلى صاحب الدار الذي قال: أيّها السادة أشهدكم جميعًا على أني أهدي نصف ثروتي من أرض وبساتين وماشية وأثاث إلى هذا الطالب القادم من النجف الأشرف، وأشهدكم على أني أزوّجه إحدى ابنتَيّ وليس لي غيرهما وأنتم يا علماء الدين أجروا صيغة العقد، وكاد الطالب أنْ يفقد وعيه لِما يرى هل هو في حلم أم يقظة؟!
ولكنه استعاد رباطة جأشه وسأل عن سرّ ما يرى‏!
فقال الرجل الثري محدّثًا ضيفه وصهره والحاضرين: قبل سنوات أردت إنشاء شعر في مديح سيدنا مولى المتقين علي أمير المؤمنين؛ فقلت صدرًا في مدحه وعجزت عن العجز فاستعنت بشعراء الفارسية في الهند؛ فلم أجد عندهم ما يشفي غليلي، واتصلت بشعراء في إيران فلم يوافيني بأحسن ممّا سمعت في الهند أحد؛ فقلت في نفسي أنّ لهذا سرًّا؛ فنذرتُ لله ‏إنْ وجدت الشطر الثاني من الشعر؛ شطرت أموالي شطرين وأعطيت شطرًا لقائله وزوّجته إحدى ابنتَيّ يختار، فلما جئت وهتفت بهذا الشطر من البيت وقع في قلبي موقعًا حسنًا وقلت: هذا ما كنت أبحث عنه:
فقال الطالب: وما صدر البيت يا سيدي؟
فقال الرجل: ولو لطف أبي تراب إليّ ذرّة ينظر، فقال الطالب: ولكن الشعر لم‏ يكن لي، كان لطفًا من سيدي ومولاي أمير المؤمنين علّمنيه في الرؤيا.
فسجد الرجل الهندي الثري شكرًا لله ‏وأنشد:
ولو لطف أبي تراب إلى ذرّة ينظر
سمت نحو السماء وأضحت دارة الشمس‏.[5]
هذه نظرة لطف لأمير المؤمنين (عليه السلام) أغنت فقيرًا ورفعت مغمورًا؛ فكيف بنظرة ربِّ الأرباب. والأرض جميعًا قبضته والسماوات مطويات بيمينه؟!
المصدر: كتاب رحلة في الآفاق والأنفس،
شرح دعاء كميل. للشيخ حسين أنصاريان



——————
[1] بحار الأنوار: 14/ 295، باب 21.
[2] الكافي: 2/ 148، باب الاستغناء عن الناس، حديث 2.
[3] حدثني صديق أنه قرأ في كتاب عن ذكريات العارف الأديب الشيخ حسن زاده الآملي (حفظه اللَّه من كل مكروه) أنه كان له ثلاثة أولاد، وكانوا يلعبون في البيت ساعة استراحته فعكّروا عليه غفوته بضجتهم، فهبّ من نومه غاضبًا فأمسك بكبيرهم وضربه فيما فرّ أوسطهم أما الولد الأصغر، فلما شعر بأنه قد وقع في قبضة والده وأنه لا يمكن الفرار ركض إلى والده واعتنقه وقبّله، فأسقط في يد الشيخ العارف ودمعت عيناه وكان له فيما حصل عبرة وموعظة لأنه لا فرار للعبد الآبق من اللَّه إلّا إليه! المترجم.
[4] أنيس الليل: 292.
[5] الشعر بالفارسية: به ذرّه گر لطف بو تراب كند به آسمان رود وكار آفتاب كند