لما أدخلت السبايا على بن زياد وكن في حالة يرثى لها من الأرهاق والعناء والألم ، وكانت في الطليعة زينب وهي تلبس أرذل الثياب ، وقد تنكرت وانحازت الى ناحية من المجلس تحف بها النساء المسبيات .
وابن زياد يعلم مكانة السيدة زينب في البيت العلوي ، لذلك اراد ان يصوب اليها بسهام الشماتة ، وأن يتلذذ باذلالها في مجلسه وأمام الملأ .
فالتفت نحوها قائلاً : من هذه الجالسة ؟ .
فلم تكلمه استهانة به ، واحتقاراً لشأنه .
وأعاد السؤال مرة ثانية وثالثة دون أن يظفر منها بجواب ، الا أن احدى السيدات المسبيات انبرت اليه مجيبة .
هذه زينب ابنة فاطمة بنت رسول الله .
وانفعل ابن زياد مع ترفع السيدة زينب عن اجابته واندفع يخاطبها غاضباً متشمتاً : الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم ! ! .
ومع أن السيدة زينب كانت تحبذ التسامي والتعالي على حقارة ابن زياد ، وأن لا تدخل معه في حديث استهانة به . . الا أن الموقف كان يتطلب من السيدة زينب ممارسة دورها الرسالي في الدفاع عن ثورة أخيها الحسين ، وتأكيد موقعية أهل بيتها العظيمة في الأمة ، وتمزيق هالة السلطة والقوة التي أحاط بها ابن زياد
نفسه ، لذلك بادرت الى الرد عليه قائلة :
« الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه محمد ، وطهرنا من الرجس تطهيراً إنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر ، وهو غيرنا يا ابن مرجانة » .
وما كان ابن زياد يتوقع هذا الرد الشجاع القوي من امرأة تعيش أفظع مأساة ، وأسوأ حال ، فأراد أن يلفتها الى مأساتها ومصيبتها حتى تفقد جرأتها وتنهار معنوياتها ، فقال لها متشفياً :
فكيف رأيت صنع الله بأهل بيتك ؟ .
لكن العقيلة أفشلت محاولته وانطلقت تجيبه بكل بسالة وصمود :
« ما رأيت الا جميلاً ، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا الى مضاجهم وسيجمع الله بينك وبينهم ، فتحاج وتخاصم ، فانظر لمن الفلج يومئذ ثكلتك أمك يا ابن مرجانه ! ! » .
إنه لموقف ايماني بطولي عظيم يندر أن يحتفظ تاريخ البشرية بمثيل له : لقد تجاوزت السيدة زينب بارادتها وبصيرتها النافذة كل ما أحاط بها من الآم الماساة ، ومظاهر قوة العدو الظالم ، ولم تبال بجبروته وعساكره ، بل جابهته بالتحدي وجهاً لوجه أمام أعوانه وجمهوره ، معلنة أنها لا يساورها أي شعور بالهزيمة والهوان ، فما حدث لأسرتها شيء جميل بمنطق الرسالة التي يحملونها ، والمسألة لا تعدو أن تكون استجابة لأمر الله ( تعالى ) الذي فرض الجهاد ضد الظلم والعدوان ، وهي واثقة أن المعركة بدأت ولم تنته ، ونهايتها الحاسمة يوم القيامة بين يدي الله وهناك سيكون النصر الحقيقي حليفاً لها ولأسرتها الكريمة .
ثم تختم كلامها بالدعاء بالهلاك للطاغية المتجبر أمامها مخاطبة له « ثكلتك أمك يابن مرجانة » .
وكان ردها عليه قاسياً شديداً أسقط هيبته الزائفة في أعين الحاضرين جميعاً ، بل حطم كبرياءه وغروروه ، واستبد به الغضب متوعداً السيدة زينب بالعقوبة والتنكيل . . فتدارك الموقف عمرو بن حريث ليخفف من غلواء غضب ابن زياد قائلاً :
أصلح الله الأمير إنما هي أمرأة ! وهل تؤاخذ المرأة بشيء من منطقها ؟ إنها لا تؤاخذ بقول ولا تلام على خطل ! .
فتراجع ابن زياد عن تهديده بالعقوبة والتنكيل الجسدي مستبدلاً به العقاب النفسي حيث توجه الى السيدة زينب ليلذع قلبها بعبارات الشماتة والتشفي قائلاً :
« لقد شفى الله قلبي من طاغيتك والعصاة المردة من أهل بيتك ، فأثار بهذا الكلام شجون السيدة زينب ، وأشعل الحزن والألم في قلبها ، ولعها أرادت حينئذٍ استخدام سلاح العاطفة وإعلان المظلومية فأجابته بلوعة وأسى .
« لعمري لقد قتلت كهلي ، وأبدت أهلي ، وقطعت فرعي ، واجتثثت أصلي ، فإن يشفك هذا فقد أشتفيت » .
وشعر ابن زياد بالضعف والصغار أمام منطق العقيلة زينب فغير دفة الحديث قائلاً : هذه سجاعة ، لعمري لقد كان أبوها سجاعاً شاعراً .
فردته السيدة زينب بقولها : « إن لي عن السجاعة لشغلاً ما للمرأة ما للمرأة والسجاعة » (21) .
ونقل السيد المقرم عن ( الكامل في التاريخ ) للمبرد ( ج 3 ص 145 ) طبع سنة : 1347 هـ قوله : لقد أفصحت زينب بنت علي وهي أسن من حمل الى ابن زياد ، وأبلغت ، وأخذت من الحجة حاجتها .
فقال ابن زياد لها : إن تكوني بلغت من الحجة حاجتك فقد كان أبوك خطيباً شاعراً .
فقالت : ما للنساء والشعر !..
هكذا كانت زينب الحوراء بنت علي بن أبي طالب (ع) .