حركة التوابين كانت للانتقام من قتلة الإمام الحسين (عليه السلام)
المقدمة

كانت الكوفة بعد واقعة كربلاء تتحسس أكثر من غيرها ثقل الذنب ومرارة الندم، باعتبارها طرفاً مباشراً ومسؤولاً في قضية الإمام الحسين (عليه السلام).
فهي التي ألحت عليه بالخروج إلى أرض الثورة التي تتعطش إلى قائدها المنتظر، ثم تقاعست في أحرج الظروف عن الالتزام بما وعدت به، والوفاء بالعهد الذي قطعته على نفسها.
وإذا كانت الأحداث التي تلاحقت بصورة مفاجئة بُعَيد تحركه (عليه السلام) من الحجاز، قد حالت دون القيام بواجبها وتنفيذ مخططها المرسوم، فإن ذلك لم يكن لِيُخَفِّف عنها عمق المأساة، لأنها افتقدت بمصرعه (عليه السلام) الشخصية الأكثر جَدَارة، التي وضعت فيها الشيعة كل آمالها وطموحها للوصول إلى الحكم.

تشكيل الحركة

أخذ أنصار الثورة الحسينية، يجتمعون بعد مقتله (عليه السلام) مباشرة في إطار من السرِّية التامة.
وعند الاجتماع يعقدون مناقشات أشبَهَ ما تكون بالنقد الذاتي، وذلك لمحاسبة أنفسهم على التقصير الذي أظهروه إزاء الحسين (عليه السلام)، والتشاور على كيفية التكفير عن الذنب، وغسل العار الذي لحق بهم نتيجة هذا التخاذل.
فقد جاء في تاريخ الطبري: لما قُتِل الحسين بن علي تلاقت الشيعة بالتلاوم والتندّم، ورأت أنها قد أخطأت خطأً كبيراً بدعائهم الحسين إلى النصرة وتركهم إجابته، ومقتله إلى جانبهم ولم ينصروه، ورأوا أنه لا يغسل عارهم والإثم عنهم في مقتله (عليه السلام) إلا بقتل من قتله أو القتل فيه.
فَتزعَّم التحرك الشيعي حينئذٍ خمسة من كبار الزعماء الكوفيين المتقدمين في السن، الذين ارتبطوا تاريخياً بالحركة الشيعية، وهم:
1ـ سليمان بن صُرد الخزاعي.
2ـ المُسَيَّب بن نجبه الفزاري.
3ـ عبد الله بن سعد بن نفيل الأزدي.
4ـ عبد الله بن وال التميمي.
5ـ رفاعة بن شداد البجلي.
وكانوا جميعاً رِفاق الإمام علي (عليه السلام) ومن أشدِّ المؤيِّدين له.
فبدأ الزعماء الخمسة يمارسون نشاطهم في الخفاء، ويبشِّرون بدعوتهم الانتقامية في أوساط الشيعة بعيداً عن مراقبة السلطة وجواسيسها المنتشرين في كل مكان.
فكان أن أثمرت جهودهم، وشكِّلوا منظمة سرِّية نواتها نحو مِائة معارض، ولم تلبث حتى تحوَّلت إلى منظَّمة كبرى تحمل اسم ـ التوابين ـ.
وقد صارت هذه التسمية هي الغالبة على حركة سليمان ورفاقه، وهي أصلاً منبثقة عن الآية الكريمة التي أصبحت الشعار الرئيسي لهم وهي قوله تعالى: (فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقَتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيْمُ) [البقرة: 54].
وكان الاجتماع الأول الذي ضمَّ هؤلاء قد عُقد في منزل سليمان بن صُرد، والذي وُصف بأنه صحابي جليل.
وهذا يعطينا فكرة بأنه كان متقدماً في السن، ورفيع المكانة في مجتمعه، وربما كان لذلك أثر في تصدّره هذه الحركة، واحتلاله مركز الزعامة فيها.
فإن المناقشات التي جرت في هذا الاجتماع أظهرت أن المُسيَّب كان من أبرز الخمسة، وألمَعِهم تفكيراً، وأكثرِهم عُمقاً.
وكان الاتجاه العام للمناقشات يدور حول التكفير عن الذنب والمخطط الانتقامي الذي يمكن أن يُزيل عنهم الشعور بالإثم، وذلك في جَوٍّ من الانفعال الشديد.
وكان أول المتكلمين في الاجتماع المُسيَّب بن نجبه، وبعد أن أنهى كلامه بتشديده على توحيد الصفوف، ودعوة رفاقه إلى انتخاب رئيسٍ يفزعون إليه، ويأخذون برأيه، تَكلَّم بعدئذٍ زعيم آخر هو رفاعة بن شداد.
فأثنى على ما جاء في خُطبةِ المسيَّب، وأوصى باتِّخاذ سليمان بن صُرد زعيماً للحركة.

البرنامج العام للحركة
يمكن تلخيص البرنامج العام لحركة التوابين بالنقاط الآتية:
1ـ الشعور بِهَول المأساة، وفداحة الإثم.
2ـ الإسراع باتخاذ موقف انتقامي من المسؤولين عن مقتل الإمام الحسين (عليه السلام)، سواء الأمويين أم المتواطئين معهم.
3ـ تجسيد فكرة الاستشهاد، وذلك بالتنازل عن الأملاك واعتزال النساء.
4ـ الإلحاح في طلب التوبة عن طريق التضحية بالنفس.
وانتهى المؤتمر ملتزماً بهذه المقررات الحاسمة، وملتزماً بزعامة سليمان بن صُرد أكبر الزعماء الخَمسة سِناً، وأسبقهم في الإسلام، وأوثقهم علاقة بعلي وأسرته (عليهم السلام)، وأرفعهم شأناً في مكانته القبلية.
وليس ثمة شك أن هذا الاختيار كان موفقاً وفي صالح الحركة، لأن سليمان كان طرازاً فريداً بين رجالات الكوفة، شديد الإيمان بالقضية التي رفع شعارها، مقتنعاً بضرورة الأخذ بمبدأ العنف لتصعيد حركة النضال الشيعي ضد أعدائها الأمويين.
فلم يكن هو أو أحد من رفاقه ساعياً وراء مطلب خاص أو مكسب شخصي، وإنما كانوا طُلاَّب قضية عامة هدفها أولاً: الانتقام للحسين (عليه السلام)، الذي هو رأس الحركة الشيعية، ورائدها في تحقيق أمانيها السياسة.
وثانياً: إزاحة الأمويين من السلطة في الكوفة وتحويلها إلى قاعدة للحكم الشيعي الذي ينبغي أن يسود في مختلف أقاليم الدولة.
وهذا يظهر بكل وضوح أن جماعة التوابين لم يطلبوا السلطة للتحكم، بل لتنفيذ مبدأ عام هو الإسلام.
وكان بنظرهم السكوت عن ذلك وتخليهم عنه يُعتبر خيانة لقضيتهم، وتخلياً عن حقٍّ شرعي، وخرقاً لعهد إلهي.
ولا شك في أن هذا التجانس النوعي في صفوف التوابين كان له بعداً خاصاً كَرَّس أكثر فأكثر مفهوم التضحية والفداء.

معركة ـ عَين الوَردة ـ:
فرغت الكوفة من زعماء التوَّابين، والذين غادروها وهم في ذَروة الحماسة إلى ـ النخيلة ـ، وهو المعسكر الذي هرع إليه رفاق آخرون، اشتركوا معهم في تلك المسيرة النضالية الرائعة، وذلك لخوض معركة الانتقام البطولي ضد النظام الأموي، ولضرب ما عبَّروا عنه بقواعد الطغيان والظلم.
تقدم سليمان مع رفاقه في عمق الجزيرة وهو يفكر في تنظيم المقاتلين، ووضع خطط الاشتباك مع الجيش الأموي الذي أخذ يقترب من المعسكر.
وكانت أهم معالم التكتيك الذي اتبعته القيادة هي تقسيم المقاتلين إلى مجموعات صغيرة، مُهَمَّتها القيام بهجمات صاعقة على طلائع وأطراف الجيش الأموي للتأثير على العناصر المقاتلة فيه.
وفي هذا الوقت كانت طلائع الجيش الضخم الذي أعدَّه مروان بن الحكم تشقّ طريقها نحو ـ قرقيسيا ـ بقيادة عبيد الله بن زياد.
وكانت مهمة هذا الجيش تصفية جيوب المعارضة ضد النظام الأموي.
وفي الطريق إلى العراق تسرَّبت معلومات إلى الجيش الأموي عن تحركات التوَّابين باتجاه ـ عَين الوَردة ـ فَحوَّل ابن زياد خط سيره نحو تَجَمّعاتهم، ليكونوا أول فريسة له.
ولمّا وصل الجيش الأموي، أرسل سليمان نائبه المسيَّب بن نجبه على رأس أربعمِائة فارس نحو معسكر الأمويِّين، وذلك لمَّا علم بتحرك جيش أموي نحو ـ عَين الوَردة ـ، فأوقع المسيَّب هزيمة قاسية بالجيش الأموي، افقدته الكثير من القتلى.
وكانت هذه الهزيمة بمثابة تصعيد عنيف للموقف من جانب الأمويين، الذين بادروا بإرسال اثني عشر ألفاً من الجنود، وقد أصبحوا وجهاً لوجه مع التوابين.
وكان ذلك إيذاناً بوقوع الحرب فعلياً، حين اندفع التوابون من مواقعهم بقيادة سليمان بن صُرد الذين التحموا مع قوات الحصين بن نمير الأموية التي تفوقهم كثيراً في العدد، وذلك في سنة 65 هـ، في عَين الوَردة.
ويظهر من سير الاشتباكات الأولية أن وضع التوابين ـ برغم قِلَّتهم العددية ـ كان معزَّزاً، ومعنوياتهم في ارتفاع دائم، أما الحماس فقد بلغ حداً لا يوصف.
والتوابون في الحقيقة لم يتخاذلوا ولم يتخلوا مطلقاً عن إيمانهم بالقضية التي يناضلون في سبيلها، وإنما ظلوا متماسكين في جبهة واحدة متراصَّة، ويقاتلون قتالاً بطولياً مُستَميتاً.
حتى أن هَجَماتهم الانتحارية أوقفت بعض الوقت الجنود الأمويين عن التقدم، وجعلتهم يتحاشون الالتحام المباشر معهم، فاعتمدوا النبال كسلاح رئيسي وتمكنوا بذلك من إنزال خسائر جسيمة في صفوف التوابين، مما أدَّى إلى سيطرتهم أخيراً على زمام الموقف.
وبعد مقتل سليمان، تسلّم راية القيادة نائبه المسيَّب بن نجبه الذي أثبت أنه لا يختلف عن مستوى سليمان في جرأته، وفي إيمانه العظيم.
وقد سقط المسيَّب بدوره صريعاً في المعركة بعد جهود مُستَميتَة، وتبعه بقية القوَّاد وعدد كبير من المقاتلين.

وأخيراً
لا يمكن أن نقول بأن هذه الحركة انهزمت أو فشلت عسكرياً، لأن الفشل والإخفاق لم يكن أمراً مفاجئاً بالنسبة لها.
لذلك توجَّه قادتها وأنصارها إلى المعركة، وهم يشعرون في قَرارَة أنفسهم أنهم متّجهين إلى نهايتهم المحتومة، ومحاولين التكفير عن ذنوبهم بالانتقام من قتلة الإمام الحسين (عليه السلام)، أو الموت في سبيل ذلك.

دمتم لي جميعا برعاية وحفظ أهل الكساء