سامي درويش
تقول حكمة متداولة (اذا ضاعت الأصول ضاع التاريخ) نجد ان الأدب الشعبي يشكل أحد العناصر الأساسية والمهمة في أي بحث تاريخي علمي يرتكز على قواعد وأسس ثابتة يستطيع الباحث من خلالها أن يدرك الصحيح من الخطأ وأن يعالج المسائل المبهمة استناداً الى معطيات نسبة الحقيقة فيها ليست بقليلة. فالعادات والتقاليد في الأساس الأول لحضارة ما وهي الدعامة الأساسية للعودة الى الأصول والجذور واستنتاج طرائق العيش والتفكير وتطور الغنى الروحي الذي تتناقله الألسن والأعين وكل الحواس.

والغنى بالنزوات الأدبية وباللمعات الذهنية استمد منه الأجداد نمط عيش فريد قد يكون المدخل لفهم الحيثيات والتفاصيل التي تحيط بحقبة تاريخية معينة.
فالثقافة عند الناس قبل ان تصلنا بحاضرها الآني وقبل ان تصل الى أولادنا مستقبلاً بتطور نوعي كانت ماضياً راسخاً في ذاكرة الشعوب التي تستشف منها المستقبل الذي يؤمن ديمومة الاستمرار.
من هنا فإن الثقافة الشعبية هي تواصل إنساني عبر الذاكرة الأدبية للناس، وركائزها الأولى هي الفطرة والعفوية والصدق والتجارب والاختبارات الحياتية ولأنها كذلك فهي سجل تاريخي وهي خزائن من المعارف ومن الشواهد والبراهين والإثباتات التي لا غنى عنها في تأكيد حدث او مناقضة آخر.
وفي تثبيت نظرية معينة ومخالفة نظرية ثابتة.
فإذا أخذنا الأمثال التي نرددها من جيل الى جيل فإننا نجد فيها حكاية الوطن الصادقة، فما قرأناه في الصحف والمجلات والكتب فهو (تاريخ المصالح الدائمة)، اما ما حفظناه من المثل فهو (تاريخ الناس الحقيقي) فالمثل له امتداد واسع في الزمن والتاريخ وهو خير معبر عن أحداث جرت او عن ظروف مرت بها جماعة من الناس او أناس أدوا أدواراً معينة مع ظروف محددة، فهو ابن التجربة والحياة المعيشة وحكمة الاستمرار.
المثل هو تاريخ حياة الناس مع الناس بكل تفاصيلها الكبيرة والصغيرة، بما في ذلك طرائق عيشهم وحالاتهم الإنسانية: الفرح، القلق، الوجع، الحكمة، الفطنة، الدهاء وسواها.
والعبارات القديمة التي بطل استعمالها اليوم تعبر عن حالة تاريخية وحضارية وتسلط الضوء على واقع معيشي معين، كعبارة (آتون) على سبيل المثال التي تعني فرناً لتصنيع الكلس من جراء حرق الصخور الكلسية وله شكل هندسي نصف دائري وشاروق هواء وقناتان لتوزيع الهواء داخله، وكان الكلس المستخرج يستعمل لدهن البيوت وجدران الغرف وكذلك للبناء، وهو لفظة بابلية وتعني الدخان الأسود او اللهيب.
وللأغنية الشعبية مكانة مهمة مع الدلالات التاريخية فهي عدا كونها ذات طابع موسيقي وفولكلوري وابتهاجي، فإنها أيضاً تحمل في طياتها معالم ورموز تاريخية وهي منطلق ومرجع ومستقبل لماضٍ جميل لأنها تختزن وجدان الناس في عصر ما ومكان ما، وهي بالتالي صورة واضحة عن حياتهم اليومية وعن تعلقهم بفرح الأرض، ما يعكس واقعاً جلياً واضحاً لحقبات مهمة من تاريخ مجتمعات عديدة وعبر اجيال وأجيال، فللأغنية الشعبية علاقة مباشرة ترتبط بقصة او حادثة او طرفة او مشكلة وتعكسها بصدق وأمانة نستطيع من خلالها ان نؤرخ للحدث وأن نربطه بتسلسل زمني معين وبحقبة محددة، فإذا تبحرنا في كلمة (العتابا) وهي من الأغاني الشعبية الشهيرة لوجدنا، كما تقول الدراسات ان أصلها يعود الى فتاة اسمها عتابا كانت تعيش في قرية نائية من جبل الأكراد اللبنانية مع زوجها الفلاح الدرويش، وبعدما أعجب بها حاكم المنطقة وأخذها من زوجها، هاجر هذا الأخير واستوطن قرية في منطقة عكار اللبنانية وفي غمرة الشوق والألم غنى لها: (عتابا بين برمي وبين لفتي...) فإذا عدنا الى التعمق بالدراسات بشأن (العتابا) لاستطعنا من خلال هذه الأغنية الشعبية ان نسلط الضوء ربما على حكام هذه المنطقة وعلى علاقاتهم برعيتهم وعلى أساليب الحياة السائدة حينذاك.
وللفولكلور بشكل خاص مكانة مهمة في الترابط التاريخي بين الحدث والقصة والواقع فهو كناية عن ظواهر روحية واجتماعية وفلسفية وعقائدية وفكرية متنوعة وهو مجموعة أفلام ومشاهد تتوالى الواحدة بعد الأخرى، مسلطة الضوء على الكثير من العادات والتقاليد والمعتقدات والخرافات وأساليب العيش، ذلك أنه يجمع في طياته تجارب واختبارات الإنسانية القديمة من طب وفلسفة ودين وفن وعلم وأقاصيص وأساطير وسواها، وهو يدخل الى القلب ببساطته وجماليته وعفويته وبراءته.
ويعطينا من حيث نريد أو لا نريد معلومات وأفكاراً وربما دراسات تاريخية غير مباشرة ويصلنا بماض دفين نتعرف من خلاله الى نمط حياتي واقعً ملموس قد تكون غفلت عنه كتب التاريخ والاجتماع، لأن الكيان الاجتماعي والثقافي مغروس في قلبه وفي وجدانه وفي ضميره وحياته عموماً.
وان المراحل المتقدمة التي وصل اليها التراث عبر الأجيال تؤكد بما لا يرقى اليه الشك ان الآداب والعلوم والإنجازات الإنسانية والعمرانية والفقهية والفلسفية والأدبية هي الأمجاد الحقيقية للأمة والتي تندرج في نطاق ما استطاعت ان تخزنه من المعطيات والحقائق التاريخية عاكسة واقعاً عاشه الأجداد وهو استباق لما نحن عليه اليوم من تطور وتقدم علمي وتقني وفني.
والثقافة الشعبية هي حكمة وإتقان وعلاقات أخلاقية وتقاليد وبطولات تاريخية وحكايات وأساطير تجمع في طياتها كل البحث التاريخي وكل المعطيات والانبثاق والقرائن التي يمكن الاستناد عليها لكشف النقاب عن حقائق وتفاصيل وربما أرقام غفل عنها الباحثون الأكاديميون.
ولابد ان نذكر أيضاً ان الصناعات اليدوية والحرف هي تراث شعبي مهم جداً ملتصق بالشعب ومعبر ببراءة وببساطة وصدق عن حاجاته وتطلعاته وبالتالي عن ظروفه وأحواله المعيشية ومشاكله الاجتماعية والاقتصادية وتتبدل انواع هذه الحرف والصناعات مع تبدل الأحوال ما يعكس الواقع الذي تعيشه الناس ويسلط الضوء على حقبة تاريخية مرتبطة بمجموعة من الأحداث والتقلبات الظرفية التي يمر بها مجتمع ما.
والصناعات اليدوية كما هو معروف عمل تعاوني على الصعيدين العائلي الخاص او الجماعي العام، وهذا العمل المشترك يشرح لنا الوضع الاجتماعي والواقع الذي يعيشه أبناء منطقة معينة في فترة زمنية محددة