رثاء الإمام الحسين (عليه السلام) لمحة تاريخية
بقلم: د. علي حسين يوسف
بعد واقعة الطف بكربلاء سنة 61هـ، تملَّك المسلمين شعورٌ بالحيرة والذهول لهول ما فعلته السلطة الأمويَّة، حينما أقدمت على قتل الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه في مشهد دامٍ، فكان الناس آنذاك بين نادمٍ لعدم نصرته الإمامَ، وبين خائف من عقاب إلهي وشيك، وبين حانق على الأمويين، خائف من بطشهم.
ولم يكن خافياً على أحد من المسلمين ما كان للحسين (عليه السلام) من منزلة عظيمة، مستمدة من منزلة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، لاسيما أنَّ الحوادث دلَّت على شدة تعلّق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بابن بنته، وتأكيده المستمر على أنَّ الحسين (عليه السلام) امتدادٌ طبيعي لشخصه الكريم، وقد تجسَّد ذلك فيما تواتر عنه من قوله: "حسين مني وأنا من حسين، أحبَّ الله من أحبَّ حسيناً، الحسين سبط من الأسباط"[1].
فإنَّ المعنى المتبادر من التعبير (مني وأنا منه) يفيد شمولية الامتداد لعموم الصفات بين الشخصيتين المقدستين، ما عدا النبوَّة، فكان من الطبيعي أن يكون لمقتل سبط النبي بالطريقة التي قتل فيها، ذلك الوقع المؤلم في نفوس المسلمين، فإنَّ ما روي في كتب التاريخ والحديث يشير إلى عمق الفاجعة، وشدَّة الحزن الذي أصاب المسلمين باستشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) إلى درجة تجاوز حدود البشرية ليشمل الوجود كلَّه.
فقد روي أنَّ الجدران – بعد مصرع الإمام – كأنَّما تلطخ بالدماء ساعة تطلع الشمس[2]، وأنَّ السماء والأرض والجن والملائكة كانت تبكي على الإمام الشهيد[3]، وأنه ما رفع حجر إلا وجد تحته دم عبيط[4]، وغيرها من الأخبار[5].
ولم تقتصر تلك الأخبار على ما قيل من روايات تاريخية، بل تجاوزته إلى رواية الشعر، فقد نسبت كثير من الأشعار التي قيلت في الإمام الحسين (عليه السلام) بعد استشهاده إلى مصادر غيبية، فقد روي أنَّ هاتفاً سمع ليلة مقتل الحسين (عليه السلام) يقول[6] (الخفيف):
أيها القاتلون جهلاً حسينا *** أبشروا بالعذاب والتنكيلِ
ومن ذلك ما قيل في البيت المشهور[7] (من الوافر):
أترجو أمة قتلت حسيناً *** شفاعة جده يوم الحسابِ
ويمكن أن تكون هذه الأشعار، وغيرها مما روي للجن والهواتف دليلاً على عمق الفاجعة، وشدة أثرها في نفوس المسلمين، وصورة واضحة تعبر عن حزنهم، وعدم تصديقهم للأحداث التي وقعت للحسين، وأهل بيته (عليهم السلام) بكربلاء، كما مثلت خوفهم من بطش الدولة الأموية بهم في حال المجاهرة الصريحة برثاء الإمام.
لذا إنَّ من غير المستبعد أن تكون هذه الأشعار لشعراء خافوا على أنفسهم، وأسرهم من غضب السلطة، وقد لاحظ أبو الفرج الأصفهاني ذلك حينما قال: " وكانت الشعراء لا تقدم على ذلك [ أي رثاء الإمام الحسين ] مخافة من بني أمية، وخشية منهم"[8]، مما جعل أولئك الشعراء يتوسلون بوسائل تستحق الإعجاب، مثل اشراك عالم الغيب، أو نسبة الشعر إلى الجن والهواتف.
ومهما يكن من أمر فإنَّ تلك الأشعار المنسوبة إلى عالم الغيب أصبحت جزءاً من التراث لا يمكن تجاهله، لما يحمله من قيم تاريخية وفنية، فضلاً عن أبعاده الإنسانية والأخلاقية، ومن هنا كان بحاجة إلى دراسة موضوعية لإظهار وكشف تلك القيم، ولبيان ظروف نشأته وأسبابها.
وقد واكب الشعر الحدث الحسيني، منذ مقتل الإمام (عليه السلام) في كربلاء فكان استذكاراً لهذا الحدث، يعتمد على صياغة الحقيقة التاريخية بقوالب فنية معبرة، تعيد صورة الماضي البطولي، وتؤجج مشاعر المتلقي، جاعلة من أحداث كربلاء صوراً مليئة بالايحاءات والدلالات، رابطة إياها بزمن المتلقي[9]، فكان للأدب العربي من ذلك ثروة لا تقدَّر[10].
ومن الطبيعي أن تكون بداية رثاء الإمام الحسين (عليه السلام) تلك المقطوعات التي نسبت لأفراد من البيت النبوي، مثل السيدة زينب بنت علي[11] (عليهما السلام)، والسيدة سكينة بنت الحسين[12] (عليهما السلام)، والسيدة الرباب زوجة الإمام[13] (عليه السلام)، فهؤلاء النسوة كنَّ جزءاً من وقائع المأساة، وأول المفجوعات بفقد سيدهنَّ، فلا نستبعد صحَّة نسبة تلك المقطوعات إليهنَّ، لاسيما أنها دلَّت بألفاظها الرقيقة، ومعانيها الحزينة، وصورها المؤثرة على شدَّة الجزع الذي ألمَّ بأهل البيت (عليهم السلام)، فضلاً عمّا عرف عن العرب من شاعريَّة، ولاسيما في أوقات الشدائد، فقد يصدر البيت والبيتان والمقطوعة، وربما القصيدة من غير الشعراء في مثل تلك الظروف، فما بالك بأهل البيت النبوي، معدن الفصاحة والبيان.
وكان لمشاعر الظلم والندم التي أصابت نفوس المسلمين، ولاسيما التوابون الذين ندموا على عدم نصرتهم الإمام (عليه السلام) دورٌ مهمٌ في تطويع الرثاء لأغراض تجاوزت الحزن والتفجع إلى الرفض والمطالبة بالثورة، الأمر الذي كان طابعاً مميزاً لمراثي الإمام الحسين (عليه السلام) إلى يومنا هذا، فبعد مصرع الإمام وصحبه قال عبيد الله بن الحر الجعفي[14] (من الطويل):
يقول أميرٌ غادرٌ حقَّ غادر *** ألا كنت قاتلت الشهيد ابن فاطمهْ!
فيا ندمي ألأّ أكون نصرته *** ألا كلّ نفسٍ لا تسَّدد نادمهْ
وإني لأني لم أكن من حماته *** لذو حسرة ما ان تفارق لازمهْ
سقى الله أرواح الذين تآزروا *** على نصره سقياً من الغيث دائمهْ
....................
فإن يقتلوا فكلَّ نفس تقيةٍ *** على الأرض قد أضحت لذلك واجمهْ
وما ان رأى الراؤون أفضل منهم *** لدى الموت سادات وزهراً قماقمهْ
أتقتلهم ظلماً وترجو ودادنا *** فدع خطة ليست لنا بملائمهْ
لعمري لقد راغمتمونا بقتلهم *** فكم ناقم منا عليكم وناقمهْ
أهمَّ مراراً أن أسير بجحفلٍ *** إلى فئة زاغت عن الحق ظالمهْ
فكفوا وإلاّ ذدتكم في كتائبٍ *** أشدّ عليكم من زحوف الديالمهْ
هذه المعاني الرافضة لظلم السلطة، والتي كانت نتيجة للشعور بالظلم والإحباط، كانت الأساس في إشعار الأمة بأنَّ قوى الخير ستظلّ مستهدفة ما لم تكن هناك وقفة تحدٍ، وهو ما تجسَّد فعلياً على أرض الواقع بالثورات الكثيرة التي قامت بوجه الأمويين بعد وقعة كربلاء. لذا يمكن القول أنَّ عبيد الله بن الحر الجعفي " هو الذي وضع لمن جاء بعده من الشعراء التقاليد الفنية لرثاء الحسين، وأنه هو الذي مهد لهم الطريق، وذلل مناكبه، حتى أصبح رثاء الحسين موضوعاً أساسياً من موضوعات الأدب الشيعي "[15].
ويلاحظ على المراثي التي أعقبت استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) أنَّها في الغالب كانت مقطوعات، أو قصائد قصيرة، من دون مقدمات، وهي ظاهرة طبيعية في وقت كانت عيون السلطة الأموية ترقب كلَّ من تشك في ولائه لها، فربما كان خوف الشعراء وراء عدم إطالتهم القصائد، ثمَّ إنَّ تلك المراثي كانت استجابة انفعالية تعبر عن لحظات الحزن في نفوس أشجاها الأسى لما حصل لآل البيت النبوي، وألهبتها ثورة الرفض والاستنكار للفعل الشنيع الذي ارتكبته حكومة يزيد[16]، فإنَّ تلك المراثي كانت استجابة للحظتها الراهنة، فهي إما أن تكون صادرة عن موالٍ محب، أو قريب مفجوع من أهل البيت، فالوقت الذي أعقب الفاجعة، ليس وقت إطالة وتكلف، ولا هو وقت تفنن وتزويق، فالنفوس حزينة، والعبرات حرّى.
ويمكن أن يكون الإطار العقائدي لمأساة كربلاء، الذي لم يتبلور بعد في تلك الحقبة سبباً في عدم وجود قصائد مكتملة كما آل إليه حال المراثي فيما بعد.
ومن الخير أن لا نستبعد فقدان قصائد كاملة ربما قيلت في تلك الحقبة، كما فقد كثير من كنوز تراثنا العربي، وقد يعزز ما ذهبنا إليه تصريح أبي الفرج الأصفهاني حينما قال: " وقد رثى الحسين جماعة من متأخري الشعراء... أما من تقدَّم فما وقع إلينا شيء مما رثي به... "[17].
وقد أعقب هذه المرحلة - مرحلة المقطعات والقصائد غير المكتملة – مرحلة أخرى، نلحظ فيها أنَّ رثاء الإمام الحسين كان ضمن قصائد مكتملة البناء، ومستوفية لشروط القصيدة التقليدية، لكنه لم يكن غرضاً مستقلاً بذاته، إنما كان ضمن موضوع عام يتضمن مأساة (آل هاشم) عامة، وكان الشاعر الكميت بن زيد الأسدي خير ممثل لهذه المرحلة في قصائده التي عرفت ب (الهاشميات)[18]، والتي أظهر فيها ولاءه وإخلاصه لآل بيت النبي ورثاء شهدائهم.
ومما اشتهر من تلك القصائد (الهاشميات) بائيته المعروفة، ومطلعها[19] (من الطويل):
طربت وما شوقاً إلى البيض أطربُ *** ولا لعباً مني وذو الشيب يلعبُ
وقد ضمنها أبياتاً في رثاء سيد شباب أهل الجنة، منها[20]:
قتيلٌ بجنب الطف من آل هاشمٍ *** فيا لك لحماً ليس عنه مذبَّبُ
ومنعفر الخدين من آل هاشم *** ألا حبذا ذاك الجبين المترَّب
قتيل كأنَّ الولّه العفر حوله *** يطفن به شم العرانين ربربُ
ويتجلى في الأبيات المتقدمة صدق العاطفة، والتحسر بادٍ فيها، وهي سمات تكاد تشترك فيها أغلب مراثي الإمام الحسين في هذه الحقبة - أي حقبة الدولة الأموية[21] - فإنَّ أغلبها صدر عن شعراء عرفوا بشدة ولائهم وتمسكهم بمنهج أهل البيت، من دون أن تكون هناك دوافع مادية تدفعهم، فهذا الكميت يجيب الإمام الباقر (عليه السلام) حينما أجازه على ما نظمه في أهل البيت قائلاً: " والله ما أحببتكم للدنيا، ولو أردت الدنيا لأتيت من هي في يديه، ولكني أحببتكم للآخرة"[22]، فعلاقة الشاعر بأهل البيت علاقة أخروية أكثر مما هي دنيوية[23].
وكان أسلوب الشعراء يختلف باختلاف الباعث، فحين يحملون على الأمويين يكون قوياً، وإذا جادلوا كان هادئاً[24]، وكان هذا دأب الشعراء برغم قسوة السلطة، وملاحقتها لكل من تظن به الولاء لأهل البيت والإخلاص لهم، ففي الوقت الذي كانت فيه منابر بني أمية تجهر بسب علي[25] (عليه السلام) كانت حناجر محبيه تصدح بالولاء له، وكانت واقعة كربلاء النشيد الحزين، وترنيمة الأسى لقلوب فجعت بفقد الحسين، وأهل بيته الأطهار، فكان الرثاء يصدر عن تلك القلوب " ملتاع الزفرات، ملتهب العبرات، لأنه صادر عن حب ووفاء "[26].
وقد حافظت مراثي الإمام الحسين في العصر الأموي على أكثر عناصر الرثاء الجاهلي أصالة، مثل التفجع على الميت، والمطالبة بأخذ الثأر، لأنَّ من عادة الشعراء في هذا العصر " أن ينسجوا على منوال الأولين "[27]، وان كان الثأر الجاهلي مرفوضاً في الاسلام لذلك تميز في مراثي الإمام الحسين بصدق العاطفة، المستندة إلى العقيدة التي ترسخت في أذهان الشعراء، والتي تبلورت بفعل الثورة الحسينية، فكانت الملامح العقائدية في تلك المراثي تتجسد في الاحتجاج على الخصم، والقول بالرجعة، أملاً في عودة الإمام ليقتصَّ من أعدائه، والقول بالتقيَّة[28]. وكان ذلك واضحاً في مراثٍ كثيرة لشعراء حركت فاجعة كربلاء مشاعرهم فراحوا يبكون سيد الشهداء، ويعلنون سخطهم على الأمويين، مثل سليمان بن قتة[29]، وعوف بن عبد الله الآزدي[30]، وأبي الأسود الدؤلي[31]، وأبي دهبل الجمحي[32].
وفي العصر العباسي، كانت المراثي الحسينية صوراً صادقة لنقل ما جرى في كربلاء، بشكل مؤلم، ومثير، يستثير الدموع، ويوقد اللوعة والحزن في النفوس.
يقول منصور النمري[33] (من الوافر):
فدت نفسي جبينك من جبينِ *** جرى دمه على خدٍ أسيلِ
أيخلو قلب ذي ورع ودينِ *** من الأحزانِ والألم الطويلِ
وقد شَرَقَت رماحُ بني زيادٍ *** بري من دماء بني الرسولِ
بتربة كربلا لهم ديارٌ *** نيام الأهل دارسة الطلولِ
فأوصال الحسين ببطن قاعٍ *** ملاعب للدبور وللقبولِ
فقد حاول الشاعر ربط الورع والدين بالحزن على الحسين، إيماناً منه بأنَّه يمثل الإسلام بأكمله.
أما السيد الحميري فقد قال فيه الدكتور طه حسين: " ولعلَّ شيعة العلويين لم يظفروا بشاعر مثله في حياتهم السياسية كلها، وقف عليهم عمره وجهده، وكاد يقف عليهم مدحه وثناؤه، مخلصاً في ذلك كله إخلاصاً لا يشبهه إخلاص"[34]، فمن رثائه للإمام الحسين (عليه السلام) قوله[35] (مجزوء الكامل):
أُمررْ على جدث الحسيـ *** ـن وقل لأعظمه الزكيةْ
يا أعظماً لا زلت من *** وطفاء ساكبة رويَّةْ
.........................
قبر تضمَّن طيِّباً *** آباؤه خير البريَّةْ
آباؤه أهل الريا *** سة والخلافة والوصيَّةْ
فقد ضمَّن الشاعر أبياته مفاهيم مثل (الخلافة، والوصية)، ويبدو أنَّ هذا الأمر كان مسألة طبيعية في عصر تبلور فيه مذهب آل البيت، وكثر فيه الجدال الفكري بين الفرق الإسلامية لإثبات صحة معتقداتها في الدين والسياسة.
وكانت تائية دعبل بن علي الخزاعي من أجمل القصائد التي رثي بها الإمام (عليه السلام)، حتى إنَّ ابن المعتز وصفها بأنها أشهر من الشمس[36]، وقال فيها أبو الفرج الأصفهاني بأنها من أحسن الشعر، وأفخر المدائح في أهل البيت[37]، ومطلعها[38]: (من الطويل)
مدارسُ آياتٍ خلت من تلاوةٍ *** ومنزل وحي مقفر العرصاتٍ
ومنها قوله في رثاء الحسين[39] (عليه السلام):
أفاطم لو خلت الحسين مجدلاً *** وقد مات عطشاناً بشط فراتِ
إذن للطمت الخدَّ فاطم عنده *** وأجريت دمع العين في الوجناتِ
أفاطم قومي ياابنة الخير واندبي *** نجوم سماوات بأرض فلاةِ
ومما يميز المراثي الحسينية في هذا العصر تلك الوفرة من القصائد التي قيلت في رثاء الحسين (عليه السلام)، وقد كان تشجيع الأئمة، ورعايتهم للشعراء، عاملاً مهماً في ذلك.
فقد روي أنَّ الإمام علي بن موسى بن جعفر الرضا (ت 150ه) حينما دخل عليه الشاعر دعبل، طلب منه أن ينشده تائيته التي تقدم ذكرها فأنشده إياها، فبكى الإمام حتى أغمي عليه، ثمَّ قال للشاعر أحسنت ثلاث مرات، وأمر له بمكافأة كبيرة[40].
ونجد أيضاً في تلك المراثي معارضة واضحة للسلطة العباسية تصل أحياناً إلى درجة التحدي، فهذا دعبل يهجو ويسخر من بني العباس، على الرغم من قوة بطشهم وقد قال يوماً: " أنا أحمل خشبتي على كتفي منذ أربعين سنة، فلا أجد أحداً يصلبني عليها "[41]، مما يدل على أنَّ العقيدة الثابتة في نفوس الشعراء، كانت تجد صداها في مراثيهم في أهل البيت عامة، والإمام الحسين خاصة، فقد كان هؤلاء الشعراء يرون " أنَّ العباسيين اغتصبوا الخلافة من العلويين "[42]، لاسيما أنَّ العباسيين أقاموا دولتهم تحت شعار الرضا من آل محمد، لكن سياستهم كانت بخلاف ذلك، فقد ذكر أنَّ آل أبي طالب كانوا " في محنة عظيمة، وخوف على دمائهم، قد منعوا زيارة قبر الحسين والغري من أرض الكوفة، وكذلك منع غيرهم من شيعتهم حضور هذه المشاهد "[43].
لذا كثر الاحتجاج والجدال السياسي في هذا العصر، فانعكس على مراثي الإمام الحسين (عليه السلام)[44]، مما ميزها بالسهولة والوضوح، وضمنها مفاهيم ومصطلحات عقائدية كالإمامة، والإمام، والوصاية، والمهدي[45]، لكن أهم ما يميز مراثي الإمام الحسين في هذا العصر أنها وصلت إلى تكامل مستوياتها البنائية، وظهرت القصيدة الكاملة في رثاء الحسين (عليه السلام) بعد ما كان رثاؤه متداخلاً مع رثاء أهل البيت، أو على شكل مقطوعات ونتف، ونجد ذلك واضحاً عند شاعر أهل البيت الكبير الشريف الرضي، إذ اكتسبت المرثية عنده صورتها المتكاملة،" فجاءت متكاملة البناء والنسيج... وكانت وحدات البناء الهيكلي مترابطة بشكل كلي"[46]، وبدل الطلل القديم ليكون طللاً متجدداً، حياً، نابضاً بالمعاني الروحية، والسمو المتجدد، يقول الشريف الرضي[47] (من الكامل):
قف بي ولو لوثَ الإزار فإنما *** هي مهجة علق الجوى بفؤادها
بالطف حيث غدا مراق دمائها *** ومناخ أينقها ليوم جلادها
فالقصيدة من أولها إلى آخرها كربلائية النفس، حسينية المعاني، الأطلال فيها طفوف كربلاء، ويوم التنائي يوم عاشوراء، وسبب أرق الشاعر مأساة الحسين " لقد طوع الشاعر الموروث الشعري القديم ليصوغ بنية جديدة، وطللاً جديداً هو أسمى وأعمق من طلل الجاهلي الذي وقف وبكى واستبكى، وسأل الطلل، ولم يجبه"[48] راسماً بذلك الملامح الأساسية لبنية المرثية الحسينية التي أصبحت مثالاً طالما سار عليه الشعراء فيما بعد.
لقد تهيأت الدوافع المناسبة لنضوج المرثية الحسينية في هذا العصر، فالدافع العاطفي المتمثل بتأثر الشعراء بمأساة الحسين (عليه السلام)، والدافع النفسي المتمثل بالشعور بالظلم والإحباط، والدافع السياسي الذي تمثل بإحساس الشعراء أنهم جزء من المعارضة للحكومة العباسية، تلك الدوافع شكلت صورة مكتملة للمرثية الحسينية من جهة الموضوع والفن[49].
وفي العصور المتأخرة لم تسلم مراثي الإمام الحسين (عليه السلام) مما أصاب الشعر العربي عامة من وهن وضعف[50]، بيد أنَّ ذلك لم يحل دون وجود شعراء مجيدين[51] حافظوا على الوجه المشرق للشعر العربي، منهم الشيخ علي الشفهيني[52]، وابن العرندس الحلي[53]، صاحب الرائية المشهورة في رثاء الإمام الحسين (عليه السلام)، ومنها قوله[54] (من الطويل):
أيقتل ظمآناً حسينٌ بكربلا *** وفي كل عضو من أنامله بحرُ
ووالده الساقي على الحوض في غدٍ *** وفاطمة ماء الفرات لها مهرُ
فيا لهف نفسي للحسين وما جنى *** عليه غداة ألطف في حربه الشمرُ
أما في العصر الحديث فقد عرف عدد من الشعراء برثائهم لسيد الشهداء، كان من بينهم السيد حيدر الحلي الذي عرف بجودة رثائه للإمام الحسين، حتى قيل فيه: " لقد ناح جده الإمام الحسين وأولاده الأئمة من بعده نوح الثكالى "[55]، ومن مشهور رثائه قصيدته[56] (من الرمل):
عثر الدهرُ ويرجو أن يقالا *** تربتْ كفّك من راجٍ محالا
والحلي في هذه المرثية ومراثيه الأخرى كان صادق العاطفة بقدر إجادته في تقديم النموذج الراقي لمراثي الإمام الحسين (عليه السلام)، كما وصلت إليه من أسلافه الشعراء، مضيفاً لمساته الإبداعية التي أكدت تفوقه في هذا الفن.
وعلى الرغم مما أصاب مراثي الإمام الحسين (عليه السلام) في العصور المتأخرة ومطلع هذه الحقبة من ركاكة الأسلوب، والإفراط في الصنعة البديعية، واللحن في الإعراب، ووجود المفردات الدخيلة[57]، فقد كانت تلك المراثي تعبر عن مرحلتها التاريخية، مثلما كانت دليلاً على بقاء الذكرى الحسينية حيَّة في ضمائر الجماهير حتى في أحلك الظروف، فان الثورة الحسينية ظلت قوية في نفوس الناس وكانت حية الى ان وصلت الى العصر الحديث.
مما تقدَّم يمكن ملاحظة أنَّ مراثي الإمام الحسين (عليه السلام) منذ استشهاده حتى العصر الحديث قد مرَّت بأكثر من مرحلة من التطور في الشكل والمضمون، فمن ناحية الشكل كانت المرثية الحسينية في بادئ الأمر مقطوعة أو قصيدة قليلة الأبيات، غير مكتملة البناء الفني، وكانت تلك المقطوعات وليدة ظرف خاص أعقب مصرع الإمام (عليه السلام)، ثمَّ تطوَّرت إلى قصائد مكتملة، كان رثاء الإمام الحسين جزءاً من موضوع يشتمل على مواساة أهل البيت عامة، لكننا بعد ذلك وفي العصر العباسي، وعند الشريف الرضي خاصة، نجد أن تلك المراثي أخذت شكلها النهائي من جهة البناء، لتكون أنموذجاً يحتذيه شعراء المراثي فيما بعد.
أما من ناحية المضمون، فقد مرَّ أن المقطوعات التي قيلت في الإمام بعد مصرعه كانت صوتأً مدوياً للرفض والاستنكار والتشنيع على قتلة الإمام، وكانت صورة معبرة عن ندم آخرين ممن لم يشترك في المعركة، ثمَّ تطوَّر موضوع المراثي في القصائد التي نظمت في أهل البيت عامة لبيان مظلوميتهم، وحقوقهم المغتصبة، كما في الهاشميات. وقد اتسع الموضوع بعد ذلك ليكون حجاجاً ومخاصمات مبنية على أسس عقائدية.
وبعد أن استقرَّت المرثية الحسينية في العصر العباسي، والعصور التي تلته أصبح موضوع الرثاء يشتمل على الحزن لما أصاب الإمام الحسين (عليه السلام)، وإظهار الشاعر ولاءه، وطلب الشفاعة، واستنهاض الإمام المهدي ومعالجة الشعراء قضايا أمتهم فيما بعد.
منقول