سر مقتل الملكة الاسكتلندية ماري ستيوارت
يعتبر حكم الإعدام بحق الملكة الاسكتلندية ماري ستيوارت البالغة من العمر 44 عاماً، والذي طبق في الثامن من شهر شباط/ فبراير عام 1587، في قلعة فوتيرينغيت، واحداً من أكثر أحكام الإعدام شهرة بحق الملكات على وجه الخليقة، والتي اتُهمت بالتواطؤ في مؤامرة مع الكاثوليكيين ضد الملكة الإنجليزية إليزابيث.عُرفت ماري ستيوارت عبر التاريخ على أنها شخصية نبيلة ومأساوية بنفس الوقت، ولكن هناك انطباع يشير إلى أن ماري كانت امرأة أكثر مما كانت ملكة، على عكس منافستها وابنة عمها إليزابيث.ترعرعت ماري في وسط فرنسي رائع، درست خلالها اللغات والفنون، وفتنت كل من حولها بمعرفتها في القصائد التي ألفتها وكتبتها بنفسها. وفي الرابعة عشر من عمرها تزوجت من دوفين فرنسا، ولكن بعد بضعة أشهر من زفافها بات عرش إنجلترا شاغراً بشكل مفاجئ. وكانت ماري وريثته الشرعية، كونها تعود لسلالة الملك هنري السابع. ولكن الإنجليز لم يكونوا راغبين في أن يحكمهم شخص سقيم ضعيف ترعرع في وسط فرنسي معاد ويعتنق الكاثوليكية، في الوقت الذي أصبحت البروتستانتية دين الدولة الرسمي. ولهذا نصبوا وريثة أخرى وهي إليزابيث ابنة هنري الثامن ملكة على عرش البلاد.ومع ذلك واصلت ماري التعبير عن رغبتها اعتلاء عرش إنجلترا، وتحت ضغط من الملك الفرنسي اعتمدت شعار انجلترا ووحّدته مع شعار اسكتلندا. وهذا بالطبع أثار غضب إليزابيث، التي سرعان ما اكتسبت شعبية كبيرة أثناء حكمها في إنجلترا.وفي الوقت الذي مكثت ماري ستيوارت في فرنسا، حدثت ثورة دينية في اسكتلندا، حيث تم تبديل الديانة الكاثوليكية بالبروتستانتية. وبعد أن توفي ملك فرنسا وزوج ماري ستيوارت فرنسيس الثاني، في عام 1560، لم يبق أمام الأرملة إلا أن تتوجه إلى وطنها. وبطبيعة الحال، فإن ماري التي نشأت في الغربة لم تكن تشعر تجاه اسكتلندا أيّا من مشاعر الحنان. وكانت دائماً تقارن بين الفقر والهمجية في بلادها بحياة الترف والبذخ في باريس، وعظمة متحف اللوفر، وهذا كله كان يضفي عليها حالة من الحزن.كانت ماري ستيوارت تشعر في اسكتلندا بالملل، ولذلك سمحت لنفسها أن تتسلى مع فتى شاب يعود نسبه لعائلة نبيلة يدعى شاتيلار. وفي أحد الأيام تسلل الأخير إلى غرفة نومها واختبأ تحت السرير، وعندما رأته الملكة طردته ومنعته أن يحضر مرة أخرى إلى قصرها. ولكن شاتيلار لم يستمع إليها، وعاد مرة أخرى إلى مخدعها. ولكن هذه المرة أمرت ماري بقتل هذا الفتى العنيد، وبالفعل بعد يومين حكم على شاتيلار بالإعدام.وبين هذا وذاك، وبعد أن رفضت ماري ستيوارت عرض الزواج من ملوك السويد والدنمارك، وكذلك من نجل العاهل الإسباني، تزوجت فجأة من اللورد دارنلي وهو ابن سلالة ستيوارت وتيودور الملكية. ولكن بعد مرور ستة أشهر، شعر الزوجان بخيبة أمل ووقع خلاف بينهما، وبات لكل منهما حزبه الخاص ومؤيديه. وكان يشعر دارنلي بغضب خصوصاً من سكرتير زوجته الإيطالي ديفيد ريتشو، التي كانت تكن ماري له المودة. وفي أحد الأيام جاء درانلي مع بعض أصدقائه إلى غرفة الملكة لكي ينتقم منه، فتشبث ريتشو بتنورة ماري ستيوارت وصاح قائلاً: "يا صاحبة الجلالة لقد انتهى أمري! أنقذي حياتي، يا صاحبة الجلالة أنقذي حياتي!" لكن الملكة الحامل لم تكن قادرة على مواجهة مجموعة من الرجال الغاضبين، الذين أمسكوا بالرجل الإيطالي وسحبوه إلى غرفة أخرى، حيث أجهزوا عليه بعد أن ألحقوه بـ 56 طعنة.بعد ذلك لم يبق أثر من الحب في قلوب الزوجين في اسكتلندا، وحل الحقد والكراهية. ثم جمعت ماري مؤيديها وطردت دارنلي من العاصمة. بعد ذلك أخذت من النبيل بوثول الذي كان يتمتع بسمعة السارق حبيباً لها، حتى وصل الأمر إلى أنهما أرادا الزواج، لكنهما كان يعرفان بأن بابا روما لن يسمح لماري ستيوارت الطلاق بدون أن يكون هناك سبب وجيه. وقتها قرر الحبيبان أن يرتكبا جريمة، وعمدت ماري على خداع دارنلي واستدعته إلى أدنبرة، فقام بوثول بقتله.ففي منتصف ليل التاسع من شهر شباط / فبراير، تسلل بوثول مع جماعته إلى المنزل الذي كان يقيم فيه الملك. وبعد أن شعر الأخير بالخطر حاول الهروب، لكنه لم يتمكن من ذلك فتم خنقه. وبعد ذلك قام بوثول وجماعته بتفجير برميل من البارود في غرفته لإخفاء هذه الجريمة. لكن الشهود الذين عثروا على جثة الملك في الحديقة أدركوا على الفور بأنه لم يلق حتفه من جراء الانفجار، إذ أن جثته لم تتعرض للحرق ولم يكن هناك أثار للبارود.لم تفعل ماري ستيوارت أي شيء لإثبات براءتها من موت زوجها، لا بل على العكس تزوجت على الفور من بوثول، الذي كان يعتبر في عيون الجميع بأنه قاتل دارنلي. وبالتالي فإن هذا الزواج أثار استياء جميع الاسكتلنديين الذين تمردوا ضد ماري ستيوارت بوثول، حيث ألقى اللوردات القبض على الملكة، في حين أن بوثول هرب وأصبح قرصاناً. لكن فيما بعد ألقى الدنماركيون القبض عليه في الساحل النرويجي وزجوه في سجن مدينة مالمي حتى آخر أيامه.أما ماري ستيوارت فقد ألقى بها اللوردات في قلعة لوتش ليفين، حيث وقّعت على تنازل عن العرش لصالح ابنها يعقوب السادس. ومع ذلك تمكنت ماري الهروب من اللوردات، وجمعت جيشاً، لكنها تكبدت خسارة كبيرة، هربت على أثرها إلى إنجلترا، آملة العثور على ملجأ وحماية عند الملكة إليزابيث.وبالفعل قدمت إليزابيث الملجأ لابنة عمها، لكن الأولى وضعتها تحت المراقبة وكأنها أسيرة القصر. ومع ذلك تركت الملكة إليزابيث قطعة أرض صغيرة لابنة عمها ماري لكي تعتني بها على حسابها الخاص، لكن ماري كانت تشعر وكأنها في السجن لأنها محرومة من أي نوع من أنواع السلطة. مع الإشارة إلى أن ابنها يعقوب السادس الذي أصبح ملك الاسكتلنديين رفض الاعتراف بأمه قائلاً: "دعوا أمي تختنق بشراب البيرة الذي أعدته بنفسها" ربما كان لديه الحق في هذا الشعور، لأن أمه قتلت والده مع حبيبها. ومع ذلك، عندما أصبح ملكاً على إنجلترا، قام يعقوب بإعادة دفن رفاتها في مقبرة الملوك البريطانية تكريماً لوالدته.ولكن قبل ذلك، لابد أن نذكر أنه بعد حياة متواضعة ومغمومة قضتها 19 عاماً في إنجلترا، أقدمت ماري ستيوارت على مغامرة أخرى، حيث دعمت وأيدت مؤامرة بابينغتون الذي خطط لاغتيال الملكة إليزابيث الأولى والقيام بإنزال الإسبانيين في إنجلترا. لكن تم اكتشاف المؤامرة ووقعت مراسلات بابينغتون في أيدي الملكة الإنجليزية، وقد أصبحت رسائل ماري ستيوارت أدلة دامغة ضدها. بالطبع، تم تذكير ماري في المحكمة بكل ما اقترفته يداها سابقاً، ووجهت إليها تهمة التواطؤ في مقتل زوجها الثاني اللورد دارنلي، والتورط في سلسلة من المؤامرات ضد إليزابيث الأولى. لكن ومع ذلك اتخذت إليزابيث قرار التوقيع على حكم الإعدام بحق ابنة عمها بصعوبة بالغة، وكانت تنتظر من ماري طلب العفو، لكن كان ذلك عبثاً. ولهذا ونظراً لأسباب تتعلق بأمن الدولة والحفاظ على الديانة البروتستانتية قررت الملكة إعدام ماري ستيوارت.وفي كتابات ستفين تسفايغ، تم وصف عملية الإعدام التي وقعت، في الثامن من شهر شباط / فبراير لعام 1587، في قلعة فوتيرينغيت ببراعة تامة، حيث أشار:"لقد اختارت ماري ملابس احتفالية رائعة لآخر خروج لها على منصة الحياة، وكان فستانها الجميل المخصر مصنوع من المخمل البني الغامق، مع قطعة فراء جميلة وياقة بيضاء وأكمام متدلية وعباءة سوداء من الحرير تحيط بهذا اللباس الرائع الفاخر، وعلى الرغم من أن طرف عباءتها كان طويلاً وثقيلاً، لكن كان على حاجبها ميلفيل أن يحمله بكل احترام. لقد كانت ماري بلباس الأرملة، وهو عبارة عن غطاء أبيض كالثلج وقد غطى جسدها من رأسها حتى أخمص قدميها. أما المسبحة الثمينة والمزخرفة، فقد كانت بديلاً عن زينتها المرصعة بالذهب والألماس، حتى أن حذاءها الأبيض المغربي لم يكن يسمع له صوت حتى لا يحدث اضطراباً في هذا الصمت الهامد في اللحظة التي توجهت نحو منصة الإعدام. وهنا أخرجت الملكة بنفسها المنديل الذي سيغطي عيونها. وتحسباً للحظات الأخيرة الدامية، ارتدت ماري ستيوارت ثوباً من الحرير القرمزي، وأمرت أن يصنع لها قفازات نارية اللون طويلة حتى كوعها، وذلك من أجل ألا يتلوث فستانها من الدم الذي سيكون على الفأس. وهذه هي المرة الأولى التي تستعد فيها سجينة لتنفيذ حكم الإعدام بهذا الشكل.وفي الساعة الثامنة صباحاً، قُرع الباب، لكن ماري ستيوارت لم تجب، إذ أنها مازالت واقفة على ركبتيها، راكعة أمام منبر وتقرأ الصلاة. وبعد أن انتهت وقفت، ولدى قرع الباب مرة أخرى فتحته، فدخل الشريف مع قضيب أبيض بيده، وأخذ يقول بكل احترام ووقار شديدين: "يا سيدتي لقد أرسلني اللوردات وهم في انتظارك". فأجابته ماري ستيوارت وهي تستعد للخروج "هيا بنا".صعدت ماري درج المقصلة ورأسها مرفوع بكل فخر، بنفس الصورة التي اعتلت فيها عرش فرنسا لمدة 15 عاماً، وكان لها أن تصعد بنفس الصورة عرش إنجلترا، لو أن القدر وقف إلى جانبها.على الرغم من أن العصور الوسطى مليئة بالقسوة والعنف، إلا أنه لا يمكن أن نصفها بالعصور الظلامية، ففي بعض عاداتها انعكس شعور عميق بالوحشية، التي لا يمكن أن نصادفها في يومنا هذا. ففي كل حالة إعدام، مهما كانت وحشيتها، كانت هناك ومضات من عظمة الإنسان، فعلى سبيل المثال، قبل أن يمد يده الجلاد على الضحية لقتلها أو لتعذيبها، ينبغي عليه أن يطلب منها الصفح لجريمته التي سيرتكبها ضد روح خلقها الله. وهذا هو الحال عندما جثا الجلاد ومن معه وهما ملثمين على ركبتيهما أمام ماري ستيوارت، وطلبا منها الصفح والسماح لأنهما مضطران لتنفيذ حكم الإعدام. وتجيب ماري ستيوارت قائلة: "أنا أغفر لكم من كل قلبي، فإنني في الموت أرى راحتي من كل العذاب الذي كنت أعيشه". وبعد ذلك فقط يبدأ الجلاد ومساعده بتنفيذ القرار....بعد ذلك، لم يبق إلا القليل وهو أن يتدحرج رأسها بين يديها. بالطبع، فإن ماري ستيوارت حتى اللحظة الأخيرة حافظت على العادات الملكية العظيمة، إذ أنها لم تظهر لا في حركاتها ولا في كلماتها خوف يتربصها. فابنة سلالة تيودور وستيوارت استعدت بكرامة كما يجب للموت. فلا يمكن اعتبار إعدام روح إنسانية شيء ما رومانسي أو أمر سامي. فالموت تحت فأس الجلاد، في أي حال من الأحوال، أمر مخيف ومرعب. وما حصل آنذاك هو أن الجلاد في بداية الأمر أخطأ الهدف، فالضربة الأولى لم تصب رقبتها وإنما أصابت خلف الرأس، حتى أن المعذبة أصدرت أنيناً من صميم قلبها، إلا أن الضربة الثانية شقت رقبتها بعمق وخرج الدم يتدفق كالنافورة، إلى أن قسمت الضربة الثالثة وفصلت رأسها عن جسدها. الوصف الفظيع للمشهد المروع لا ينتهي عند هذا الحد، فهناك طقس آخر من طقوس الإعدام يجب على الجلاد القيام به، وهو أن يمسك رأسها من شعرها ليظهره للجمهور، لكن الذي حصل هو أنه أمسك بشعرها المستعار ليسقط رأسها المغطى بالدماء مع صوت اصطدامه بالأرض، وكأنه إكليل يتدحرج على أرضية خشبية.وعندما انحنى الجلاد مرة أخرى ليرفع الرأس عالياً، يصاب الجميع في حالة من الذهول، فأمامهم يظهر رأس شبح- رأس شائب شعره لامرأة مسنة. ويقف الناس لدقيقة حابسين أنفاسهم من هذا المشهد الفظيع ولم ينطق أحد بكلمة واحدة، باستثناء راهب من بطرسبورغ عاد إلى رشده للتو وصرخ بصوت أجش "عاشت الملكة".وها هي العيون الميتة الغائمة تنظر إلى النبلاء الذين، لو أن الأمور سارت غير ذلك، لكانوا خادمين مطيعين عندها ومواطنين مثاليين.