الشاعر الحسيني كاظم منظور: نَذَرَ عمره لخدمة القضية الحسينية ووَظّف قريحته
في عرض واقعة الطفّ ومصائب آل البيت(عليهم السلام)
لقد خلَّد التاريخ رجالاً أفنوا حياتهم في خدمة المجتمع والدين، فلا زالت آثارهم باقية وصدقاتهم جارية بما خلّفوه مِن علمٍ وعمل،
ولا زالت أسماؤهم وسيرتهم العطرة تتردّد على ألسن الفضلاء والنبلاء،
ومن هؤلاء الشاعر الحسيني كاظم المنظور الكربلائي، فهو واحد من أولئك الرجال الذين أبدعوا ورفدوا الساحة الشعرية،
كتب أكثر قصائده الرثائية في حبّ العترة النبوية الشريفة لكونه نشأ نشأةً دينية وحضر المجالس الأدبية ووُلدَ
في مدينةٍ لها تاريخها الدينيّ العريق وهي كربلاء المقدسة.
وشاعرنا المرحوم هو كاظم بن حسون بن عبد عون الشمري، ولد في كربلاء عام (١٨٩١م) الموافق لـ(١٣٠٩هـ)
في محلة باب النجف (خلف تكية العباسية حالياً)،
وعاش في كنف والده الذي توفّي وفارقه وله من العمر (٧ سنوات)، فتولّى تربيته ورعايته أخوه الأكبر وخالهُ،
واستمرّ بالعيش في كربلاء حيث سكنها وانتقل بين محلاتها الشعبية، فمن محلة باب النجف انتقل إلى محلة باب الخان وسكن قرب حمام العلقمي،
ثم انتقل إلى منطقة باب طويريج المسماة بـ(المقلع)، واستقرّ بعدها في محلّة العباسية الشرقية سنة (1958) قرب مديرية الجنسية حالياً..
عمل في (الجندرمة) خلال الشهور الأخيرة من الحكم العثماني، وكان أحد حراس بوابة كربلاء الشمالية (الطريق من وإلى بغداد)
في ثورة العشرين(1920) ومارس المنظور العديد من المهن، كمهنة (القهوجي)، وكذلك مهنة تصنيع الجص (جصاص) ومن ثمّ بيع التمور،
وبعدها مهنة بيع الأغنام، وكان طيلة ممارسته هذه المهن مولعاً بكتابة الشعر الحسيني.
في ريعان شبابه أخذ يتردّد على المجالس الحسينية لاسيّما في شهري محرم وصفر، وكان يحفظ الشعر، وبانت عليه ملكة الحفظ رغم أنّه لا يقرأ ولا يكتب،
بدأ بجزء عمَّ وكان يحضر في شهر رمضان مجالس تفسير القرآن في الصحن الحسيني الشريف للعلامة المفسّر السيد حسن الاسترابادي،
وأكمل حفظ القرآن وهو في سنّ الخامسة والعشرين دون أن يُتقن الكتابة، وكان يستعين بمن حوله للكتابة.
وقد أكسبته قراءة القرآن في سنّه المبكّر موهبةً فريدة في نظم الشعر بصورةٍ ميّزته عن أقرانه،
حيث كان الشعر في ذلك الوقت يدور حول واقعة الطف ومأساتها، إلّا أنّ المنظور استطاع أن يأتي بنمطٍ شعريٍّ ثوريٍّ جديد نابعٍ من صميم
العقيدة الإسلامية، واستطاع أن يُدخل مفردات جديدة في شعره، ومنها عالم الأرواح والقبر والبرزخ والحساب والشفاعة.
عاصر المنظور قسماً كبيراً من الشعراء الكبار أمثال
الشاعر والمبدع المرحوم الحاج عبّود غفلة والشيخ هادي القصاب وعبدالأمير الفتلاوي وكاظم البنّا والحاج كاظم السلامي
والشاعر الرادود عبدالأمير الترجمان وغيرهم آخرون،
وتتلمذ على يديه شعراءٌ كبار كالشاعر والرادود مهدي الأموي والشاعر سعيد الهر والشاعر سليم البياتي وغيرهم،
واتّفق أهل صناعة الشعر الدارج (العامي) على أنّه أميرهم بدون منازع، لم يأخذ شيئاً ممّن سبقوه أو عاصروه،
بينما أخذ الجميع كلّ شيءٍ منه، وتميّز بأسلوبٍ رضيت به كلّ الأذواق، فصار شاعر كربلاء الأوّل في الشعر الحسيني،
وغمرت روائعه أحاسيس المتذوّقين، وطبع له ديوان (المنظورات الحسينية) في 21 جزءً،
وأخرج عنه مجلّدان ضخمان، كما جمعت له نماذج شعرية أخرى منتقاة من قصائده وطبعت عام (1958) في ديوان (الأغاريد الشعبية)
الذي طُبعَ بعد وفاته أيضاً، وقد أنشد شاعرنا الكثير من قصائده.
نذر عمره لخدمة الحسين(عليه السلام) ووظّف قلمه وقريحته في عرض واقعة الطف ومصائب آل البيت (عليهم السلام)،
وأتقن الشعر فشغل الساحة الحسينية لأكثر من ستّين عاماً بشكل ملحوظ، وتميّز بين أقرانه من الشعراء بهذه الفرادة الكبيرة
كشاعر أمّيّ في الأصل لكنّه أبدع في نظم الشعر الذي لا زال يردّده الرواديد على المنابر الحسينية، فضلاً عن ذلك فإنّه شاعرٌ بارعٌ وكبير.
من أبرز قصائده المميّزة هي قصيدة (جابر يجابر ما دريت بكربلا اشصار) فأخذت مدى واسعاً ولاقت صدى كبيراً
في الشارع الكربلائي حتى هذا اليوم، وقد نظمها شاعرنا المرحوم عام (1965)،
وسرعان ما ذاع صيتها وانتشرت في العالم الإسلامي بصوت رادود أهل البيت(عليهم السلام) الحاج حمزة الزغير،
وعرض فيها مشاهد لقاء الصحابي الجليل جابر بن عبدالله الأنصاري بالإمام زين العابدين(عليه السلام).
وسُمّي بالمنظور كونه في بداية نشأته الشعرية، وبروزه كشاعر تُقرَأُ قصائده على المنابر كان معروفاً باسم "كاظم حسون"،
والبعض يناديه باسم "كاظم الجايجي" لمهنته آنذاك، وهذا ما ولّدَ خلطاً بينه وبين الكثيرين الذين يحملون نفس الاسم ونفس الصفات،
ممّا اضطرّ شيخ الرواديد في ذلك الوقت الشيخ "حسين فروخي" إلى وضع لقبٍ يميّز به شاعرنا الكبير،
وفي ذات يومٍ وفي أثناء صلاته في صحن الإمام الحسين(عليه السلام) بجانب المذبح الشريف، وبعد انتهائه من الصلاة،
حيث كان يفكّر بضرورة إيجاد لقبٍ للشاعر، وهنا سمع صوتاً يقول: (سمّيناه كاظم المنظور)، فانتبه الشيخ الفروخي إلى مصدر هذا الصوت
ولم يجد أحداً بجانبه، ومعناه أنّ الإمام الحسين(عليه السلام) اختار هذا اللقب لشاعرنا، ليعني أنّه منظورٌ من قِبل أهل البيت(عليهم السلام).
وبصمة المنظور في الشعر الفصيح، كانت مميّزة فقد نظم الفصيح واعتمد على نفسه دون عرضه على المختصّين في اللغة،
لأنّه وبحكم حفظه وإجادته للقرآن قد تمكّن من نظم الشعر في مختلف المناسبات.
في عام (1974) رقد المنظور في فراش المرض، إلّا أنّه لم ينقطع عن مراسيم شهر محرم، التي سرت في فكره وخالطت دمه،
فاستمرّ بكتابة الشعر رغم مرضه، ويزوّد المواكب الكربلائية به،
وهو يبكي ويقول: (لقد طال بقائي في البيت، وإن شاء الله يومَ غدٍ سأخرج، لأنّ عدم مشاركتي في المواكب أثقل عليّ من المرض).
ولمّا أطاح المرض بشاعر كربلاء، ولازم الفراش، دعا وجهاء كربلاء والحسينيّين وأصحاب المواكب الحسينية لزيارته في بيته،
حيث كانت الآلام ترتسم على قسمات وجهه من شدّة المرض، دون أن يشكو،
وتمّ نقله أكثر من مرة إلى مستشفى الحسيني القديم إلّا أنّه في المرة الأخيرة اشتدّ عليه المرض، وأصابه نزيف معوي شديد،
وبدأ يودّع الحياة بعد عمرٍ ناهز الثمانين عاماً حافلٍ بالإنجازات الحسينية.
وبعد إعلان وفاته من على مئذنتي المرقدين الشريفين الحسينيّ والعباسيّ –في حينها- ومساجد المدينة بتاريخ (26جمادى الآخرة 1394هـ)
والموافق للسابع عشر من تموز (1974م) بدأ تشييع الجنازة من داره الواقعة خلف بناية محافظة كربلاء متوجهاً إلى مغتسل المخيّم القديم،
وبعد الغسل والتكفين، حُمل النعش بحضور جماهير كربلاء المحتشدة على رؤوس الأصابع، وتقدّم النعش موكبُ عزاءٍ ولافتات تعبّر عن الحزن والأسى،
واستمرّت مجالس الفاتحة في كربلاء لمدة أربعة أيام، وتوافد المعزّون من المحافظات إلى كربلاء، من شعراء ورواديد،
مشاركين بقصائدهم ومشاعرهم على الفقيد الراحل.
رحمه الله عليه رحمه الابرار ورحم الله خدام الحسين الباقين
وحشرهم مع محمد آله محمد الطيبين الطاهرين وطال الله في اعمار الباقين وسدد خطاهم
بحق محمد وآله محمد الاطهار
المصدر