صفحة 3 من 11 الأولىالأولى 12 345 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 21 إلى 30 من 102
الموضوع:

موسوعة... كربلاء الخلود - الصفحة 3

الزوار من محركات البحث: 346 المشاهدات : 7703 الردود: 101
الموضوع حصري
جميع روابطنا، مشاركاتنا، صورنا متاحة للزوار دون الحاجة إلى التسجيل ، الابلاغ عن انتهاك - Report a violation
  1. #21
    ....
    sajaya ruh
    تاريخ التسجيل: January-2014
    الدولة: #ـــالعراق
    الجنس: أنثى
    المشاركات: 25,861 المواضيع: 643
    صوتيات: 40 سوالف عراقية: 0
    التقييم: 41412
    مزاجي: يبحث عن وطن
    أكلتي المفضلة: لا شيء معين
    مقالات المدونة: 46

    كيف أثر الإمام الحسين (عليه السلام) بتهجده وعبادته على قلب موازين معركة عاشوراء


    دور التهجد في الإعداد الروحي لخوض المهمات وتحمل الملمات :

    كثيراً ما يتعرض الإنسان لحوادث مختلفة خلال فترة حياته، منها حوادث قد ألمت به كالفقر والمرض والعسر وغيرها من الشدائد ونوازل الدهر.

    ومنها ما لم يقع كالخروج للقتال فلا يعلم الإنسان مصيره ولا يدري لمن النصر والهزيمة؛ أو كالدخول على الحاكم الجائر لا يدري الداخل ما يحل بأمره وغيرها من مهمات الأمور.

    هذه الحوادث كيف يستقبلها الإنسان؟ وكيف يتعايش معها؟ وماذا أعد لها؟ وهل يمتلك القدرة في المواجهة؟ أسئلة كثيرة ومختلفة كاختلاف الظروف والحالات التي يمر بها الإنسان؛ كما أن أجوبتها متعددة كتعدد الأسئلة، وكلها يمكن حدوثها لاختلاف مستوى التفكير عند الناس واختلاف ظروفهم الحياتية.

    إلا أن عاشوراء قد قدمت دروساً تضمنت جميع هذه الأسئلة وأجوبتها! لأنها جمعت أعظم الشدائد والنوازل على مر الدهر. ولاسيما ليلة العاشر فقد ألقت بهمومها وأحزانها وحذرها على الإمام الحسين وأهل بيته عليهم السلام، فكيف استقبلها حجة الله؟ وماذا أعد لهذه النازلة والشدة؟!.

    سؤال قد فرض نفسه في ساحة الذهن وألقى بظلاله على فكر الباحث والمتتبع لقضية كربلاء وما دار فيها من مآسٍ ومهام جسيمة أرهقت كاهل القارئ لها فكيف بمن عاشها وعايشته حتى أصبحت جزءاً لا يتجزأ من ملحمة عاشوراء.

    ولذا؛ فقد أعد الإمام الحسين عليه السلام لهذه النازلة العظيمة ركائز أربعاً، اشترك فيها الزمان والمكان فكانت كالآتي:

    أولاً: الصلاة.

    ثانياً: تلاوة كتاب الله تعالى.

    ثالثاً: كثرة الدعاء.

    رابعاً: الاستغفار.

    فأما الزمان الذي اتخذه حجة الله في قيام هذه الركائز؟ فكان الليل، والعلة في ذلك هي النهج الذي خطه القرآن الكريم للحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله في تخصيص هذا الوقت للتزود بالطاقات والفيوضات الربانية والتي عرفها القرآن بـ«التهجد» كما جاء في قوله تعالى في (سورة الإسراء، الآية: 79): {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا}.

    وقوله تعالى في (سورة المزمل، الآيات: 1 ــ 6): {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا }.

    ولقد حظي التهجد في مدرسة العترة المحمدية عليهم السلام بحيز كبير من الأحاديث الشريفة التي كانت بمجموعها دليلاً عملياً للمؤمنين في نظم أمورهم الدنيوية والأخروية وإعدادها.

    فالتهجد ليس مجرد قيام وصلاة في جوف الليل يتحمل فيه القائم عناء السهر، وإنما هو ــ في مدرسة أهل البيت عليهم السلام ــ منهج للإعداد النفسي، والروحي، والإيماني، والجسدي.

    ويمكن للباحث المتتبع أن يلمس هذا الإعداد للنفس والروح والجسد من خلال هذه الأحاديث التي كشفت هذه الخواص بشكل جلي، وهي كما يلي:

    1. نزل جبرائيل عليه السلام على النبي (صلى الله عليه وآله)، فقال له: «يا جبرائيل عظني،فقال: «يا محمد عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه. شرف المؤمن صلاته بالليل، وعزه كف الأذى عن الناس» (من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق: ج 1، ص 471).

    2. وعن الصادق عليه السلام قال: «إن من روح الله عز وجل، ثلاثة: التهجد بالليل، وإفطار الصائم، ولقاء الإخوان» (الأمالي للطوسي: ص 172).

    3. وعنه عليه السلام ، قال: «عليكم بصلاة الليل فإنها سنة نبيكم، وأدب الصالحين قبلكم، ومطردة الداء عن أجسادكم» (ثواب الأعمال للشيخ الصدوق: ص 41).

    4. وروى هشام بن سالم عنه عليه السلام أنه قال: «في قول الله عزوجل: { إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا }، قال: قيام الرجل عن فراشه يريد به وجه الله عزوجل، لا يريد به غيره» (علل الشرايع للصدوق: ج 2، ص 363).

    ولأجل هذه المزايا وغيرها اتخذ الإمام الحسين عليه السلام ليلة عاشوراء، ليلة للمناجاة والصلاة وتلاوة كتاب الله تعالى، وكثرة الدعاء والاستغفار، والتزود بالطاقات و الفيوضات الإلهية.

    فكان هو وأصحابه عليهم السلام بين قائمٍ وراكعٍ وساجدٍ، لهم دوي كدوي النحل لا يفترون من ذكر الله تعالى ومناجاته والتضرع إليه، والرهبة منه، والتبتل إليه، والابتهال له، عزّ شأنه راجين في ذلك رضاه ورضا رسوله (صلى الله عليه وآله) ملتمسين توفيقه في نصرة شرعه ودينه.

    فكان لهم ما سألوا الله من أجله، فقد أجاب دعوتهم فمضوا مضرجين بدمائهم مجزرين كالأضاحي في ساحة قدسه في البقعة المباركة من جانب الطور الأيمن، ضحىً من يوم عاشوراء.

    اثر التهجد والعبادة على سير المعركة في يوم عاشوراء:

    لقد أثر تهجد الإمام الحسين (عليه السلام) وصحبه على الأعداء تأثيراً بالغاً ومن عدة جوانب:

    المسألة الأولى: الجانب الرسالي :

    فقد كشف هذا الوقوف بين يدي الله ومناجاته أن لهؤلاء القوم قضيّة ربانية مرتبطة بالرسالات السماوية، وأنهم ليسوا طلاب سلطة ولا دعاة ملك أو رئاسة وإنما هم امتداد لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ورسالته. فهذه الفعال هي فعال الأنبياء والمرسلين (عليه السلام) وعباد الله الصالحين.

    المسألة الثانية: الجانب النفسي :

    في الجانب النفسي نجد أن للمناجاة تأثيراً معاكساً على الأعداء، بمعنى: كل ما يدخله الدعاء والمناجاة والعبادة من ارتياح وانبساط نفسي على المؤمن، يكون على عكسه حال الظالم. وخاصة حينما يرى أمام عينيه وقوف المظلوم ومناجاته لله رب العالمين.

    والسبب في ذلك؛ إن الظالم يتملكه شعور نفسي خاص يتكون من مجموعة إدراكات ذهنية مختلفة وهي كالآتي:

    1. كإدراكه بأنه متلبس بالظلم.

    2. وأنه من صنف أهل الشر.

    3 . وأن عاقبته سيئة.

    4. وأن مصيره إلى النار والعذاب.

    5. وأنه وضيع.

    6. وأنه أداة تستهلك بيد غيره.

    7. وأنه يدمر نفسه كي يتنعم بالدنيا غيره.

    8. وأنه عار على أبنائه وعشيرته.

    9. وأنه موضع لعنة الله على مر الأجيال.

    وغيرها من الإدراكات التي تدور في الذهن فتستشعرها النفس بمرارة وحسرة فتكون هذه الأحاسيس أشد ألماً على النفس من آلام الجراح. ولذلك؛ نجد الكثير من الظالمين حينما يعيش هذه الحالة النفسية تأخذه العزة بالإثم كما دلّ عليه قوله تعالى في (سورة البقرة، الآيات: 205 ــ 206): {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ}.

    فلا يجد من الناحية النفسية غير المضي بهذا الظلم، إلاّ في حالة واحدة وهي تغليب العقل على النفس فيأخذ من هذه المشاهد التي يراها من أهل الخير والصالحين فيشد النفس إلى اللحاق بهم بعد التوبة والمغفرة.

    المسألة الثالثة: الجانب العسكري :

    في الجانب العسكري أوجد تهجد الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه رعباً في نفوس الأعداء بمستوى كبير جداً؛ فقد بدا هذا الوقوف وهذا التهجد وكأنه وقعة حرب شرسة تدور رحاها على مقربة من الناظر. فهؤلاء الذين انتصبوا وقوفاً فبدوا للناظر رماحاً يزهر من أسنّتها النور، هم في يوم غد تتصدع من قارعة سيوفهم القلوب المتحجرة. وهذا الدّوي الآتي من هذه الشفاه التي رطبها الاستغفار، بدا للسامع قرقعة امتزج فيها صوت الأتراس حينما تصطك فوق أكتاف الفرسان وهم يجولون بخيولهم فيعلو صوت السنابك وهي تدق الصخور.

    إنه مشهد تداخلت فيه الصور فاحتار الرائي والسامع بأيهما يعقل؟!

    ولذلك: «انحاز من معسكر عمر بن سعد في هذه الليلة إلى معسكر الإمام الحسين (عليه السلام) اثنان وثلاثون رجلاً لما رأوا منهم هذا التهجد» (البحار للمجلسي: ج 44، ص 394، ط دار إحياء التراث العربي).

    بقلم: السيد نبيل الحسني.

  2. #22
    ....
    sajaya ruh
    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة جوهرة واسط مشاهدة المشاركة
    بارك الله بكم
    وبك عزيزتي منورتني

  3. #23
    ....
    sajaya ruh

    الإمام الحسين (عليه السلام) يؤسس للثورات والثوار مبدأ العزة والكرامة



    من الأسباب التي ثار من أجلها سيّد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) العزة والكرامة، وهما ركنان أساسيان من أركان المجتمع، إلا أنّ حكم بني سفيان أخذ ينقض هذه الأركان، فقد آلى معاوية بن أبي سفيان على نفسه إلا أن يسلب كرامة الأمة وعزتها، ويجرّدها من أيّ صفة تساعدها على سموها ورفعتها.

    فقد جرّدها من صفة الكرامة، وذلك عندما ولى على الأمصار من لا يفقه معاني الكرامة والعزة، فزياد ابن أبيه أحد الولاة الذين لم ولن يستوعبوا معاني العزة والكبرياء والشموخ، لأنه تربّى في جو مقفر تماماً من مفردات السمو والرفعة، ثم إنه لا أصل له.

    وكما هو ثابت في علم النفس التربوي فإنّ الابن يأخذ من صفات أبيه وأمه، وكلما كانت العلاقة سامية، فإنّها تساهم في ترسيخ أسس الفضائل النفسية، والصفات الحميدة، لكن زياد ابن أبيه لا يعرف له أب حتى يمكن أن تقوم علاقة طيّبة مع الآخرين، فهو ينسب لأكثر من واحد، منهم أبو سفيان الذي كانت علاقته سيّئة مع زوجته هند، فكيف بأم تتعاطى الزنا.

    ومن ولاته ((سمرة بن جندب)) الذي قتل ثمانية آلاف من البصرة، وقال: لو قتلت ضعفهم لما خشيت[1].

    و((عمرو بن العاص)) الذي ساوم معاوية على مصر، ورفض نصيحة ولده عبد الله وغيرهم، فهؤلاء سلبوا العزة والكرامة من الأمة، وكل مقومات الحياة الكريمة حتى أضحت الحياة قاحلة من كل صفة سامية فسفت الأنفس، لأنّ العزة والكرامة تهيأ النفس وتمكنها من احتضان الصفات العالية. لقد غابت مفاهيم العزة والكرامة عن حياة المجتمع الإسلامي فأصبح سهل الانقياد، لكل صغير وذليل وتمكنت فيه عقدة الذيلية، وهذه قاعدة حياتية. يقول الشاعر:

    من يهن يسهل الهوان عليه *** ما لجرحٍ بميتٍ إيلامُ [2]

    والمجتمع الإسلامي ظلّ يعاني من الذيلية لأن ابن أبي سفيان جرّده تماماً من كل معاني السمو والرفعة، وهكذا انقاد لمعاوية في كل شيء حتى في ((حتف نفسه)).

    ويحزّ في نفسي أنّ الناس ينقادون بسهولة لمن يهلكهم، ولكن يثاقلون إلى الأرض لمن ينقذهم، ويأخذ بأيديهم إلى العزة والكرامة.

    وهذا ما حدث في زمن أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، والإمام أبي عبد الله الحسين(عليه السلام)، وفي كل زمان، فقد أدخل معاوية أهل الشام في حرب صفين بسهولة، وهي كفر ونفاق[3]، أما الإمام علي (عليه السلام) فقد عانى كثيراً من جماعته.

    ثمّ إنّ معاوية استعمل أسلوباً في تجريد كرامة الأمة قلّ نظيرها تكمن في إسقاط شخصية الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، وشخصية الإمام علي (عليه السلام)، وشخصية النبي (صلى الله عليه وآله) تشكّل القدوة الحسنة.

    قال تعالى: ((لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ))[4].

    وقد أشاد الباري عز وجل في هذه الآية برسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى جعله نموذجاً في الأسوة، بإضافة حسنة، وهذه قمة الكمال، ثم ربط الأسوة الحسنة برضا الله عز وجل ورجاء الآخرة، فالباري عز وجل جعل رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله) في قمة الكمال إذ ربط مصير الإنسان بالاقتداء برسول الله (صلى الله عليه وآله).

    ولكن الذي حدث في حكم معاوية أن جعل رسول الله (صلى الله عليه وآله) شخصاً تلفّه الكثير من الاتهامات فهو رجل يحب التبرج والغناء[5]، وأيضاً يحب اللهو والضرب على الدفوف، والكثير من الاتهامات التي افتراها معاوية وألصقها برسول الله(صلى الله عليه وآله)، ثم أوجد السبيل كي تطبع في (صحيح البخاري)، و(مسلم)، وغيرهما من الصحاح.

    وبهذه الطريقة استطاع معاوية ابن أبي سفيان أن يقلّل من شخصية الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) في نظر أتباعه، ويجعله شخصية عادية تقترف الذنوب، وتتعاطى المعاصي (والعياذ بالله) كي يتسنّى له اجتراح أعظم الموبقات، وارتكاب أفظع الجرائم.

    وهذا السلوك المشين أثّر في المجتمع، فجعله ينسج على منوال قائده، والمثل يقول: ((إذا أردت أن تعرف القوم فاعرف من يقودهم)).

    وقد سرت موجات السلوك الأهوج لمعاوية في مفاصل المجتمع مما جعله يفقد تباعاً عناصر شخصيته.

    قال تعالى: ((فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ))[6].

    يقول روجيه غارودي: ((إنّ أول انحطاط في المجتمع الإسلامي ابتدأ بالثورة المضادة اجتماعياً وسياسياً والتي رافقها تضليل وتحريف ديني حول اليقظة الدينية إلى عملية تقديس للنظام الحاكم))[7].

    إنّ أول انحطاط ضرب المجتمع الإسلامي يكمن في طاعته لمعاوية ويزيد، فإنّ الطاعة لحاكم مثل معاوية تجعل الإنسان يسف ويقبع في مستنقع الجهل والتبعية، وآية ذلك أنّ أهل الشام لم يعترضوا عندما أقام معاوية صلاة الجمعة في الأربعاء[8].

    وأما الفساد الأخلاقي فقد عمّت أجواؤه النتنة كل ربوع الدولة الإسلامية وأول المدن التي أطلّ عليها المدينة وبعدها مكة.

    وهكذا انتشر الفساد الأخلاقي، وهذا مما سلب الكثير من صفات العزة والكرامة، لاسيما والمجتمع الإسلامي كان يعاني من إسقاط الشخصيات العملاقة، فألقت بظلالها السوداء.

    وكما أسلفت فإنّ معاوية حاول إسقاط سيد الكائنات وسيد الوصيين حتى يتسنى له إفساد المجتمع، ثم السيطرة عليه، وقد انبرى سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) لمخططات معاوية قائلاً: ((أيها الناس: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: من رأى سلطاناً جائراً، مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهده، مخالفاً لسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغير عليه بقول ولا فعل، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله))[9].

    وهكذا حدد الإمام (عليه السلام) ملامح العهد السفياني، منها الجور الذي من أظهر صوره سلب الكرامة والعزة، والصورة الأخرى تغيير الموازين الشرعية، فقد عمل معاوية ويزيد على تغيير الموازين الشرعية حتى يتسنّى لهم اللعب بمقدرات الناس كيفما يشاؤون، وذلك لأنّ الموازين الشرعية تحفظ كرامة الإنسان وتكسبه عزة لا مثيل لها، ومن ثم تعطيه القيمة الحقيقية.

    قال تعالى: ((وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا))[10].

    فهذه الآية تبرز أهم الميزات ((الكرامة، والقوة، والرزق الطيب، والتفضيل))، وهذه تكفي في قوة الإنسان وسموه.

    جاء في قوانين علم النفس الاجتماعي: أنّ الإنسان إذا أحسّ بقوته وأنه شخص يعتدّ به لا يخضع بسهولة، ولا يستجيب لمن يذلّه، ولكن معاوية ويزيد عملا على سحق شخصية الإنسان، ونسف مقوّماته ((يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان))، ثم تجاوزا في انتهاكه كل الحدود عبر طرق غاية في الدناءة، منها الرشوة، وأكل الحرام، وإشاعة الأجواء الفاسدة، والترهيب، فقد قتل معاوية ما لا يحصى من الصحابة والأخيار، ثم توليه يزيد[11] الذي شكّل انتهاكاً صارخاً لكل المقدسات.

    يقول المؤرخون والمحدثون: إنّ معاوية ابن أبي سفيان أهدر كرامة الإنسان بشكل لا مثيل لها عندما ولى يزيد ملكاً، لأنّ الأخير لا يقيم وزناً لأيّ حق من حقوق الإنسان.

    والدليل على ذلك انتهاكه حرمة المدينة المنورة في واقعة الحرة، وفرض البيعة على سيد شباب أهل الجنة، ثم تضييق الخناق عليه حتى ألجأه إلى إلى مكة، وفيها دبّر ابن أبي سفيان مؤامرة قذرة لاغتياله حتى لو كان متعلّقاً بأستار الكعبة.

    وبعد مكة ألجأه إلى كربلاء، فقتلوه، ثم وطئوا صدره الشريف، ولم يكتفوا بذلك فقطعوا رأسه الشريف، ورؤوس أهل البيت وأصحابه.

    إنّ مجزرة كربلاء أو قل ساحة كربلاء أبرزت الملامح الكالحة لوجه معاوية ويزيد وبني سفيان، فظهر بطلانهم بشكل لم يجعل لأحد شكاً في قذارتهم، وسيئاتهم، فكربلاء أظهرت الملامح الرئيسة، ولولاها لم تظهر قسمات وجه بني أمية.

    وليس مثل كربلاء من يكشف الزيف والبطلان.

    إنها كربلاء الحسين (عليه السلام) ترفع وتضع، تعزّ وتذل، ترفع من يرتفع إليها، وينهل من نميرها حتى إذا تربّع في القمة صار عنواناً بارزاً، وقانوناً من قوانين الحياة، وتضع من يحاول أن يتطاول عليها ويسطو على قيمها.

    فيتحول إلى أمثولة يسخر منها التاريخ، والأمثلة كثيرة، (فحسين كامل) حاول أن يقارعها قائلاً: ((أنت حسين وأنا حسين)) ولكن سرعان ما تلاشى واندثر، وصار عبرةً لمن اعتبر.

    إنها كربلاء.. القانون الذي يأبى التعطيل.

    أتى إليها الإمام أبو عبد الله الحسين (عليه السلام) ليرسم صورة سامية للعزّة والكرامة، ثم ينحتها في ضمير الإنسانية، فدخلت العزة والكرامة إلى قلب كل إنسان، وليس المسلم حسب، لقد ألبس الصفات السامية ثوباً لا يبلى ولا يُخلق.

    جاء في كتاب (الثائر الأول في الإسلام): قال أبو عبد الله الحسين (عليه السلام) وهو ينظر إلى الحشد الهائل، وقد فرضوا طوقاً حوله: ((ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعي قد ركز بين اثنتين: بين الذلة والسلة، وهيهات منّا الذلّة، يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، وأنوف حمية، ونفوس أبيّة من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام))[12].

    يقول النقّاد والمحللون: لا يمكن لإنسان فقد خيرة أهله وأصحابه ثم يظلّ وحيداً مع عائلته وهو يتسلق أعلى درجات البطولة والشهامة إلا ما كان من الإمام الحسين (عليه السلام) الذي ضرب مثلاً رائعاً في ذلك، وبذلك استطاع أن يتحدى الجموع بكل قوة، ويقف وكأنّ وراءه جيوشاً كبيرة.

    وهكذا استطاع الإمام (عليه السلام) أن يركز أعمدة العزة والكرامة في المجتمع، ويعطيها طابعاً فذاً يختلف كثيراً عما يشرعه المنظرون، إنّ صفة العزة والكرامة تتطلب جهداً استثنائياً بالذات إذا انسلخت مدة طويلة عن واقع المجتمع.

    فليس من السهل إرجاعها إلى جسد الأمة ما لم يصاحبها واقع عملي صادق وفذ.

    من هنا فإنّ الإمام أبا عبد الله (عليه السلام) أدرك هذا المفهوم فرأى أنّ العزة والكرامة قد انتزعت من نفوس القوم، وصارت غريبة عن حياتهم، فأصبحوا أذيالاً بما للكلمة من معنى، وتأكدت فيهم صفة ((التذبذب والانقياد الأعمى))، فجاؤوا بعمى لقتال سيد الشهداء (عليه السلام)، ثم الإصرار في قتاله وسبي ذراريه، فكان عليه (صلوات الله عليه) أن يغير الواقع المزري الذي قبع فيه القوم، فما كان منه إلا أن يسطّر الصفحات الرائعة في العزة والكرامة.

    ((والله لا أفرّ فرار العبيد، ولا أقر إقرار العبيد، إني لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برماً))[13].

    لقد رفض كل أنواع المساومة والذلّ، وصمد إلى آخر لحظة وكان بين جنبيه نفس أبيه، فلم تنل منه الجموع والحشود ثلمة ولو صغيرة، إنها البطولة بأعلى صورها، والشهامة في أسمى معانيها، وتبقى الصفات السامية مدينة للإمام أبي عبد الله الحسين(عليه السلام)، وتشرق كلما التصقت بسيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام)، فهو ليس فقط سيد الشهداء إنما سيد الصفات السامية، وها نحن بتنا نعرف معنى الصفات السامية من خلال معاني كربلاء الإمام الحسين (عليه السلام).

    فكربلاء أحدثت منعطفاً في معاني الصفات، فقبل ملحمة كربلاء غارت معاني الصفات العملاقة ومعاني الدين حتى بات الواحد منهم لا يفهم معنى التملق إلى الحاكم، فراح يتمسح على أعتابه بكل طواعية وبدراهم معدودة، وكأن لم تكن للمعاني وجود وتاريخ.

    لقد جرد معاوية ابن أبي سفيان الواقع الإسلامي من كل معانيه، فأضحى هزيلاً وخاوياً إلى درجة لم يألفه الناس حتى في الجاهلية الأولى، فباتت الذلة والمهانة والتملق الطابع الغالب على المجتمع الإسلامي، فأضحى المجتمع مهزوماً في داخله، وبذلك فقد الثقة بنفسه، فبات لا يصدق أنه إنسان يعتدّ به.

    جاء في كتاب (أضواء على النفس البشرية): ((إننا يجب ألا نشعر بالهزيمة.. هزيمة الفرد أمام نفسه، أو أمام الآخرين، لأنها في الحالتين ضعف للثقة بالنفس، وعندما تضعف ثقتنا بأنفسنا نفقد ثقتنا بالآخرين، وفاقد الشيء لا يعطيه، ونكون قد خسرنا المعركة الواحدة مرتين لأنّ الثقة بالنفس هي مفتاح السلام الحقيقي للحرب الطاغية بين الأفراد والجماعات))[14].

    إنّ معاوية أراد أن يهزم الإنسان في داخله، وذلك بقتل شخصيته، وكما أسلفت فإنّ الهزيمة من الداخل تشكّل قتلاً للإنسان، فجاء التحرك الحسيني ليرجع الثقة إلى نفس الإنسان، ويمدّها بروافد العزم والمضي.

    في كربلاء تنفست المعاني السامية الصعداء، وألقت عن وجهها الستار القاتم الذي صنعه بنو سفيان.

    إنّ الدرس الذي نتعلّمه في العزة والكرامة يكمن في إباء الإمام أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) لكل ألوان المساومة والمهادنة.

    لقد تحدى الحكم بكلّ شموخ وهو في أصعب الظروف، فالحكم الغاشم لم يجعل للإمام (صلوات الله عليه) هامشاً ولو ضئيلاً من الحرية، ولكن أبى أبو الضّيم أن يستجيب.

    فجاء الرد: ((إني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما))[15].

    وهذا درس بليغ لنا نحن المسلمين، فعلينا أن نستقيم أمام الباطل حتى لو ملأ الدنيا خيلاً ورجالاً وملك ظهيراً من الباطل، فتبقى قدرته محدودة إزاء قدرة الباري عز وجل.

    وهناك معادلة ثابتة كلما ازداد الإنسان استقامة قويت عنده الإرادة، وتجذّرت حتى تصبح ملكة.

    إنّ الاستقامة مطلوبة في ساعة العسرة لأنها تشكّل المصداق العملي لقوة المبادئ وعمقها في كيان الإنسان، فالاستقامة تشكّل أبرز مظاهر عمق العقيدة، والاستقامة مطلوبة من المؤمنين طالما الكفّار يستميتون في الدفاع عن مبادئهم التي لو قيست إلى مبادئ الإسلام لا تشكّل شيئاً يذكر.

    فعليه فإنّ الإمام الحسين (عليه السلام) أكّد صفات العزة والكرامة في حياة الأمة الأمر الذي أدّى بها إلى الوقوف بقوة أمام التيار السفياني تباعاً، فانبثقت الثورات في كل أرجاء الدولة الإسلامية، ولولا إحساسها بالعزة والكرامة لما أقدمت بهذه القوة، ووقفت شامخة أمام حكم السفيانيين.

    الكاتب: الشيخ حسن الشمري.

  4. #24
    ....
    sajaya ruh

    القيم التربوية للإمام الحسين (عليه السلام) وأهميتها في بناء المجتمع ووحدة تماسكه


    أهمية التربية:

    التربية هي العمل الذي يساعد الكائن الحي على ان ينمي استعداداته الجسمية والفكرية ومشاعره الاجتماعية، والجمالية والأخلاقية من اجل انجاز مهمته الإنسانية ما استطاع إلى ذلك سبيلا[1]. وقد أكد البعض إن (التربية في جوهرها عملية قيمية) سواءاً عبرت عن نفسها في صورة واضحة أو ضمنية، فالمؤسسة التعليمية بحكم ماضيها وحاضرها ووظائفها وعلاقاتها بالإطار الثقافي الذي تعيشه مؤسسة تسعى إلى بناء القيم في كل مجالاتها النفسية والاجتماعية والخلقية والفكرية والسلوكية[2].

    وقد حظي موضوع القيم اهتماماً كبيراً من قبل المتخصصين في عدة ميادين مثل الفلسفة وعلم الاجتماع والتربية، إذ تعد القيم من أهداف التربية[3]. وذلك لان من اهم وظائف التربية هو الحفاظ على التراث الثقافي ونقله من جيل لآخر، فالمعرفة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية ينبغي ان يتعلمها الجيل الجديد في المجتمع لضمان استمراره في الحياة. فالتراث هو الذي يحمل عناصر الأصالة وهو الذي يمنح الثقافة التواصل مع الماضي والقدرة على المعاصرة والتطور في المستقبل وهو الذي يمنح الإنسان أسلوب الحياة وأنماط السلوك والقيم والعادات والتقاليد[4].

    اهتمام الإسلام بموضوع التربية:

    لقد اهتم الإسلام اهتماماً كبيراً بالأخلاق والقيم إذ جعل من أهدافه الرئيسة العناية بخلق الإنسان وتنميته لتصبح جزءً من شخصية الإنسان العربي وقد يكون هذا من أهم العوامل التي حفظت الأمة العربية من التدهور والانحلال الخلقي الذي تعاني منه المجتمعات والحضارات المتقدمة المعاصرة إذ يسود ضياع القيم والأخلاق والانتحار وغيرها من مظاهر التأزم الخلقي والنفسي[5].

    غوستاف فون غرونبوم وسبب التخلف العربي:

    في حين اتهمت الكثير من الدراسات التي حاولت تحليل المجتمع العربي بحثاً عن عوامل تخلفه، لاسيما الأجنبية منها، الجذور والينابيع الأساسية التي يستقي منها هذا الوجود قيمه وبناءه الاجتماعية وعلى رأس تلك الينابيع الأساسية الدين والتراث الإسلامي والتاريخ العربي الإسلامي بل والعقل العربي الإسلامي، إذ يرى المستشرق "غوستاف فون غرونبوم" ان (الاسلام يفرض شروطاً على مجمل حياة المؤمن وافكاره) ويرى كذلك انه (ليس هنالك اي شيء، مهما يكن صغيراً أو شخصياً أو خاصاً، لا يستحق التنظيم من قبل أدارة مقدسة) وهو لا يحمل هذا القول على محمله الحسن، بمعنى ان ثمة رقابة ذاتية خلقية يفرضها الإسلام دوماً على أي شكل من أشكال سلوك المؤمن، بل يقصد منه تعطيل المبادرة والحرية والعمل الإرادي والعقل، ويؤكد أن الثقافة العربية السائدة ثقافة تستند إلى القيم الجبرية والسلفية والإتباع، بدلاً من الحرية والتجديد والإبداع.

    الصهيوني "رافائيل بطي" ونظريته عن التخلف العربي:

    ومن تلك الدراسات أيضا والتي حملت الثقافة العربية مسؤولية التخلف، تلك التي نجدها عند عالم الانثروبولوجيا الصهيوني "رافائيل بطي" في كتابه العقل العربي: اذ يرى أن الدين الإسلامي (ليس جانباً واحداً في الحياة، بل المركز الذي يشع كل شيء أخر منه. فكل العادات والتقاليد دينية، والدين كان وما يزال للغالبية التقليدية في البلدان العربية القوة المعيارية المركزية في الحياة) بينما خسر الدين في الغرب "وظيفته المعيارية" ولم يعد ينظم حياة أبنائه. وهو بذلك يحمل الدين الإسلامي سبب تخلف الأمة العربية وتراجعها عن الغرب.

    تأثر بعض الباحثين العرب بالنظريات السلبية للمستشرقين:

    وقد ذهب إلى ما ذهب إليه بعض المستشرقين باحثون عرب وعلى رأسهم فاضل الأنصاري في كتابه "الجغرافية الاجتماعية" والذي أكد فيه أن (التقاليد والقيم البدوية أثرت في المجتمعات الزراعية العربية بتأثير الهجرة البدوية المستمرة فأصبحت حياة معظم الريفيين، في سهول الرافدين أو النيل أو بلاد الشام وسهول المغرب، أمتداداً لحياة المجتمعات البدوية في كثير من قيمها وسلوكياتها اليومية. . . ولم يقتصر تأثير البداوة هذا على المجتمعات الزراعية الريفية في الوطن العربي، وإنما تجاوزها إلى المجتمعات المدنية أيضاً)[6].

    وهو بذلك يعزي سبب تخلف وتأخر المجتمعات العربية إلى تمسكها بالقيم البدوية والتي تشكل بدورها الثقافة العربية، وعلى النقيض من ذلك نجد بعض الفلاسفة والمفكرين يشيدون بدور الإسلام بإنقاذ البشرية من التخلف والانحطاط، إذ أكد ذلك الفيلسوف الانكليزي "برناردشو" في مقولته الخالدة (لقد كان دين محمد موضع تقدير سام لما ينطوي عليه من حيوية مدهشة وأنه لا بد من القول أن محمداً رسول الله منقذ الإنسانية، وأنه لو أتيح لرجل مثله أن يتولى زعامة العالم الحديث فأنه لمن المؤكد أنه سينجح في أيجاد الحل لكل مشاكله).

    "جيكوب زيزلر" ومقولته عن عظمة الإسلام وتأثيره التاريخي:

    وفي هذا الصدد كتب "جيكوب زيزلر" يقول مشيراً إلى عظمة الإسلام وتأثيره التاريخي: (على مدى خمسة قرون ساد الإسلام العالم بقوته وعلمه وحضارته الفائقة، فبعد أن ورث الإسلام الكنوز العلمية والفلسفية للحضارة اليونانية، نقل هذه الكنوز – بعد أن أثراها- لأوربا الغربية، وهكذا وسع من الآفاق الفكرية للعصور الوسطى وترك أثراً بارزاً على أوربا فكراً وحياة)[7].

    المؤرخ الانكليزي "ويلز" والازدواجية بين قوانين الإسلام وأفعال المجتمع الإسلامي:

    وفي هذا المدار أيضاً يطالعنا المؤرخ الانكليزي "ويلز" في كتابه "ملامح من تاريخ الإنسانية": أن أوربا مدينة للإسلام بالجانب الأكبر من قوانينها الإدارية والتجارية([8])في حين أننا نرى في المجتمعات العربية والإسلامية الكثير من الأنظمة والقوانين السائدة والتي تنص على أن الدين الرسمي لذلك المجتمع هو الإسلام، ولكن في واقع الحال ليس من الإسلام في شيء وانعكس ذلك على التربية فنجدها غريبة عن الإسلام وأصوله[9].

    الجري وراء الغرب من أهم أسباب التخلف في المجتمع الإسلامي:

    إننا نصف الأمة الإسلامية بالتخلف ونحن على يقين أن من أهم أسباب تخلفها الجري وراء نموذج الغرب، ومحاولة الاقتداء به والسير في ركابه ورؤية الحياة كما يراها هو، والاصطباغ بصبغته المادية التي حولت الإنسان إلى بهيمة سائمة، بل أضل سبيلاً. إن في (مجتمعنا العربي الإسلامي) أزمة، لا بل أزمات، يعبر عنها في الممارسات السياسية والاجتماعية، والاقتصادية والتربوية والخلقية، وتأخذ طابع الازدواجية في السلوك، والانحراف شبه الكلي عن أصالة المبادئ والقيم التي تنتمي إليها الأمة.

    والأزمة تلح علينا بصور عدة من زمن، ونراها تقعد وتهبط تبعاً لمؤثرات كثيرة وأحداث متلاحقة، إلا أن حدتها قد اشتدت وأصبحت تنذر بشر مستطير، منه تدهور الأمة وانحلالها وانعدام أثرها وفاعليتها، واختزال دورها إلى مستوى هامشي لا يعتد به.

    لذا فان السبب الحقيقي من وراء تخلف الأمة العربية هو عدم الالتزام بالقيم الإسلامية وهذا ما أكدته الكثير من الدراسات النظرية والميدانية والتي أجمعت على وجود خلل في منظومة القيم نتيجة العزوف عن القيم الإسلامية واللهث وراء القيم الغربية ومنها دراسة الجمالي والذي أكد إن الكثير من المسلمين بعد أن نسوا دينهم وهجروا قرآنهم، وصاروا يقلدون غيرهم ويستوردون عقائد ومباديء متطرفة وبعيدة عن منهجنا الإسلامي[10].

    وهذا ما توصل اليه فرحان أيضا من خلال بحثه عن القيم التربوية في عالم متغير من منظور أسلامي والذي قدمه في مؤتمر القيم والتربية في عالم متغير الى أن القيم السائدة في العالم العربي لا تعبر عن قيم الإسلام وحضارته، فإلاسلام شيء والمسلمون شيء آخر وبينهما فرق شاسع في التصور والممارسة[11].

    كما أكد عبد الرحمن منذ دخول القرن الحادي والعشرين تجري عملية عولمة لكل شأن اقتصادي واجتماعي وتربوي وثقافي وأخلاقي وفي أطار هذه العولمة التي غالبيتها قيم أمريكية مطلوب من امتنا العربية أن تعيد النظر بما لدينا من نظريات ومناهج وتجري عملية تأصيل لها، وذلك لأن ميدان التربية من أهم الميادين التي تتأثر والتي تحتاج لإعادة الفحص النقدي وإعادة البناء والتكوين إذ أن التربية وسيلة التغيير دائماً[12].

    وتأسيسا على ما تقدم هناك أزمة في القيم الإسلامية نتيجة اللهث وراء القيم الغربية ويرى الصدر([13]) إن علاج الأزمة يكمن في تحويل الإنسان من فريسة لحركة التأريخ إلى موجه لتلك الحركة عن طريق ربط الإنسان بالقيم الأخلاقية ذات المصدر الإلهي[14].

    الإمام الحسين هو الحل لتأصيل قيمنا التربوية الإسلامية:

    ففي تراثنا التربوي نظام شامل للتربية والإعداد للحياة وتوجيه الشباب التوجيه التربوي الصحيح وتقويم سلوكهم الذي يرتكز على أسس تعليمية وتربوية سليمة نابعة من تعاليم الدين الإسلامي الحنيف والذي جاء وافياً بمطالب الحياة كلها: وانه لحري بكل مرب مخلص ان يستبصر بجوانب الفكر التربوي الإسلامي وإبراز ايجابيته وما يزخر به من آداب وفضائل.

    وذلك من خلال العودة إلى تراثنا وتأصيل قيمنا التربوية لدى أبنائنا من خلال القدوة الحسنة والمتمثلة برجالات الإسلام الفذة والذين يمثلون قيمها بأعلى مستوياتها من خلال ربطهم النظرية بالتطبيق الفعلي، وعلى رأس تلك الرجالات الحسين عليه السلام والذي يعد في دنيا الإسلام قمة من قمم الرجال الذين صنعوا العظمة في تاريخ الإسلام والإنسانية وسكبوا النور في دروب البشرية، من خلال عطائه الفكري الفذ والمتمثل بالمئات من الوصايا والحكم والخطب والأشعار والأدعية والتي ملأت كتب التاريخ، فضلاً عن الرسائل[15] والخطب[16] والوصايا[17] والمحاورات[18] الصادرة عن الحسين عليه السلام نجد السلوك والممارسة العملية في حياته الشخصية التي توضح لنا جانباً من الفكر والتشريع وتجسد الصيغة التطبيقية، والتي من خلالها يمكن أن نبني منهجاً تربوياً إسلاميا يحفظ لنا هويتنا العربية الإسلامية ويرسخ قيمنا التربوية الخاصة بنا. لذا جاءت هذه الدراسة لكي تسلط الضوء على إنسان فذ كبير وعلى وجود هائل من التألق والإشراق وعلى حياة زاهرة بالفيض والعطاء من اجل التعرف على القيم التي نادت بها وسعت إلى تحقيقها.

    أهمية القيم:

    تعد القيم من المفاهيم الأساسية في ميادين الحياة جميعها، وهي تمس العلاقات الإنسانية بكافة صورها، إذ إنها ضرورة اجتماعية وهي معايير واهداف لا بد أن نجدها في كل مجتمع منظم سواء كان متأخراً أو متقدماً، فهي تتغلغل في نفوس الأفراد على شكل اتجاهات ودوافع وتطلعات، وتظهر في السلوك الظاهري الشعوري واللاشعوري، وفي المواقف التي تتطلب ارتباط هؤلاء الأفراد، ولا يمكن ان نفرضها على الأفراد وانما تكتسب من خلال تأثير المنزل والمدرسة والمسجد ومن خلال الأصدقاء والأقران والقادة خارج المنزل[19].

    تأثير القيم على بناء المجتمع وتماسكه:

    وتؤثر القيم في بناء المجتمع ووحدة تماسكه، إذ يؤدي اتساقها في نظام قيمي موحد يجمع عليه أفراد المجتمع إلى تماسك بنية ذلك المجتمع، فإذا ما كانت تلك القيم متسقة ومشتركة بين جميع أعضائه، آدت إلى تماسك بنية ذلك المجتمع، أما إذا كانت غير واضحة في نظام قيمي موحد، أدت إلى صراع بين أفراد ذلك المجتمع، وساد التفكك والضعف، فالنظام القيمي الموحد الواضح هو الذي يسهل عملية تضامن المجتمع، ويزيد من قوة تماسكه، لأنه يعتمد على الأهداف والقيم المشتركة بين أفراده[20].

    حاجة المجتمعات إلى منظومة القيم:

    لذا فأن المجتمعات بحاجة إلى منظومة قيم تستند عليها عندما تقوم بالتفاعل الإيجابي مع بعضها البعض ويستلزم هذا التشابه في كل مجتمع، إذ تستطيع هذه القيم أن تكفل وتضمن قيم المجتمع وأهدافه ويعتمد ذلك على مدى قبول المجتمعات لمثل هذه القيم أو رفضها إذ إن قبولهم لها يؤدي بالتالي إلى وحدة بناء وتماسك المجتمع ورفضها سيؤدي إلى تفككه وانحلاله[21].

    ومن خلال ما تقدم يتضح إن القيم لها أهمية بالغة بالنسبة للأفراد والجماعات والمجتمع على حد سواء لأنها تتصل اتصالاً مباشراً بالأهداف التي يسعى المجتمع إلى تحقيقها عن طريق التربية، إذ ترتبط القيم بالتربية وذلك من خلال أهمية القيم في صياغة الأهداف التربوية المبنية على فلسفة التربية والتي تنبثق اصلاً عن فلسفة المجتمع، وتأتي أهمية القيم في تعبيرها عن فلسفة مجتمع ما واطار حياته وتوجيهه للتربية وفلسفتها وأهدافها التي تعتمد في بلورتها وصياغتها على وضوح القيم، لاختيار نوع المعارف والمهارات وتعيين الأنماط السلوكية المرغوبة[22].

    وبذلك يمكن القول إن لكل مجتمع تربيته الخاصة والتي تعكس فلسفته وأهدافه وظروف حياته، والوان نشاطه، وقيمه ومعتقداته، أي تعكس عموماً ايديولوجيته في الحياة، لتجعل الصغار يشبون على هذه الايديولوجية، فينضمون إلى حملتها من الكبار[23].

    السعي إلى تربية الذات الإنسانية كبداية لتربية المجتمع :

    ولقد سعت التربية الإسلامية إلى ذلك من خلال تربية الذات الإنسانية والتي تعد محور نشاط هذه التربية وبها تتشكل ذات الإنسان المسلم عن طريق عملية تنمية وتغذية لمواهب الإنسان بصورة متزنة، وهي لهذا تتعهد بناء الإيمان والعلم والخلق والعمل الصالح بصورة متلاحمة منسجمة[24]. كما تؤكد التربية الإسلامية أهمية التمسك بالقيم الروحية والخلقية فضلاً عن حرية الفكر والانفتاح على المصادر المختلفة للثقافة وأن تنمي في الفرد قدرات ومهارات واتجاهات معينة مثل العمل بروح الفريق وتغليب المصلحة المشتركة وكذلك أهمية العمل[25].

    اختلاف الفلاسفة والمفكرين في تعريف معنى القيم الخلقية:

    وإذا كانت القيم الخلقية التي تشكل في ضوئها أهداف التربية الخلقية تختلف من مجتمع إلى آخر إذ اختلف الفلاسفة فيما بينهم في تفسيرها، ففسرها بعضهم تفسيراً بيولوجياً ومنهم من فسرها تفسيراً اجتماعياً، واختلفوا ايضاً في معنى الحق والخير فأصبحت لهم فيها مذاهب متعددة وأراء مختلفة لا تستند إلى اصل ثابت ومنبع واحد، فنرى " كونفوشيوس " يؤمن بان المرء يولد مفطوراً على الخير وفي ذلك يقول: ((إن الناس يولدون خيرين سواسية بطبيعتهم، وكاُنهم كلما شبوا اختلف الواحد منهم عن الآخر تدريجياً وفق ما يكتسب من عادات))[26]، في حين على العكس من ذلك نجد ان " جون لوك " يجد إن (التربية هي أساس الأخلاق وليست الفطرة)[27]. ويرى " اوجست كونت " إن الأخلاق (عملية وضعية، نسبية متغيرة ليست مطلقة، اجتماعية ليست فردية، منهجية ليست تلقائية)[28].

    إلا أن هذا الاختلاف لا محل له في الإسلام، فالقيم الخلقية في الإسلام يصورها القران الكريم، وقد تشكلت بصورة حية في أخلاق الرسول (صلى الله عليه وآله)، وعلى هذا، فلا اختلاف ولا مذاهب شتى في القيم الخلقية المستمدة منها فقد سئلت عائشة، عن خلق الرسول فقالت (كان خلقه القران)[29].

    الفكر التربوي الإسلامي أطلق حريات الإنسان وحطم لقيوده:

    وبما إن الفكر انعكاس صادق لحياة الجماعة الإنسانية، فان نوعه يتحدد بنوع هذه الحياة وبالإطار العقائدي الذي يوجه مسارها، وطالما أننا نعيش في مجتمع إسلامي، فان الفكر الذي يعكس حياتنا الثقافية والأخلاقية – في المجال التعليمي – هو الفكر التربوي الإسلامي بكل أصوله وركائزه ومحدداته ومقوماته وأساليبه النابعة من شريعتنا الإسلامية من ناحية، ومن واقعنا الإسلامي من ناحية ثانية، ومن تطلعاتنا المستقبلية من ناحية ثالثة[30].

    ولقد سجلت حركة الفكر صفحة من أروع صفحاتها في التاريخ بظهور الإسلام وانتصاره وانتشاره، إذ أطلق حريات الإنسان وحطم القيود التي فرضت على عقله وأرادته لانه انتقل بالعرب من القبيلة إلى الأمة ومن التعددية إلى التوحيد ومن الخرافة والأسطورة إلى العقل والمنهج العلمي[31].

    وبذلك بلغ المسلمون مكانة رفيعة بين الأمم من خلال تمسكهم بالمثل والقيم العليا التي ينطوي عليها جوهر دينهم، ونتيجة هذه الحركة الفكرية تركوا لنا الكثير من المصادر والمؤلفات الإسلامية المكتوبة والمنقولة والتي تضمنت خلاصة فكرهم وإبداعهم الحضاري والثقافي ما يشكل اليوم التراث العربي الإسلامي والذي يشكل الفكر التربوي جانباً مهماً من هذا التراث بما يتضمنه من آراء ومواقف وقيم تربوية صائبة ودروس تفيدنا في فكرنا التربوي المعاصر نستطيع من خلاله ردم فجوات الضعف في معتقداتنا وممارستنا التربوية[32].

    وهنا حقيقة من الضروري التوقف عندها، وهي أن الكثير من الجهود الفكرية في المجالات التربوية وغيرها، لم تتجاوز مرحلة التأرجح والمراوحة بين الكلام عن القيم التربوية الإسلامية وعطائها الحضاري والتاريخي، مع العجز عن تطوير وسائلها ورؤيتها وأدواتها المعاصرة، وبين القيم التربوية الغربية ومحاولة دفع الافتتان بها، سواء كانت هذه الجهود في مجال المقارنة وبيان التميز في النظرية والإنتاج، أو كانت هذه الجهود في مجال المقاربة ومحاولة التفتيش عن المواقع المشتركة، لعل ذلك يعطي القيم التربوية الإسلامية بعض الثقة عند (الآخر) أو عند تلامذته في الواقع الإسلامي[33].

    ومما ينبغي لنا عمله في هذه المرحلة هو تمثل تراثنا بشكل صحيح، ومن ثم القدرة على غربلته وفحصه والإفادة من العقلية المنهجية التي أنتجته، والقدرة على إنتاج فكري معاصر يوازيه، وليس كما يفعل البعض من الوقوف أمام التراث للتبرك والمفاخرة من غير أن تكون له القدرة على العودة إلى الينابيع التي استمد منها، فينتج تراثاً معاصراً قادراً على قراءة مشكلات العصر، وتقديم الحلول الموضوعية الموافقة لحركة الحياة[34].

    إذ إن التراث هو الذي يحمل عناصر الأصالة[35]، ومن خلاله يتعلم الإنسان أسلوب حياته وأنماط سلوكه وقيمه وعاداته وتقاليده، فهو أصالة في المعرفة وعمق في التفكير، وغنى لا يفنى، وأساس وطيد لكل جديد، وزرع الثقة بالنفس، والوسيلة الفعالة للتقدم والتطور[36].

    وقد جاءت الرسالة الإسلامية الخاتمة لهداية الإنسان، وتحريره من جميع ألوان الانحراف في فكره وسلوكه، وتحريره من ضلال الأوهام ومن عبادة الآلهة المصطنعة، وتحريره من الانسياق وراء الشهوات والمطامع، وتهذيب نفسه من بواعث الأنانية والحقد والعدوان، وتحرير سلوكه من الرذيلة والانحطاط.

    وقد اختصر رسول الله (صلى الله عليه وآله) الهدف الأساسي من البعثة بقوله المشهور: (إنّما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).

    تجسيد الإمام الحسين عليه السلام للمفاهيم والقيم الأخلاقية الصالحة:

    وقد واصل الأوصياء والأئمة من أهل البيت عليه السلام هذه المهمة لتترجم في الواقع في أعمال وممارسات وعلاقات، ولهذا كانت القيم الأخلاقية هي المحور الأساسي في حركاتهم، وقد جسد الإمام الحسين عليه السلام في نهضته المباركة المفاهيم والقيم الأخلاقية الصالحة، وضرب لنا وأصحابه وأهل بيته أروع الأمثلة في درجات التكامل الخلقي[37].

    والإسلام، ثورة فكرية وأخلاقية، ثورة قيمية أبرزت حقائق وأقرت تعاليم. وهو ثورة إنسانية إذا ما قيست بهمجية الحياة العربية الغابرة، وضيق الايديولوجيات الدينية السابقة مثل الوثنية واليهودية. وهذه الثورة الإسلامية الإنسانية تتميز بأنها ثورة مستمرة ومستجدة، آية ذلك إقرارها قيماً إنسانية تضع الإنسان في أسمى منزلة على الأرض وتحله مرتبة منفردة لا يضاهيها سواها لدى سائر الكائنات الحية[38].

    أن الثورات والحركات المقدسة، قد ابتدأت في الحقيقة بالأنبياء العظام، وقد ورد ذكر تلك الثورات، والحركات المقدسة، وجهاد الأنبياء المقدس في سورة الشعراء إذ يذكر القرآن الكريم قصص موسى وإبراهيم ونوح وهود ولوط وصالح وشعيب وخاتم الأنبياء محمد (صلوات الله عليهم جميعاً)، بأنهم قاموا في سبيل مكافحة عبادة الأصنام والنضال ضد الظلم والاستبداد والجهل والتعصب والإسراف والتبذير والإفساد في الأرض والفحشاء والامتيازات الاجتماعية الوهمية.

    وقد سلك الإمام الحسين عليه السلام الطريق نفسه الذي سلكه الأنبياء، لكنه بالطبع واجه ظروفاً غير تلك التي واجهت الأنبياء والسبب في سيره على خط الأنبياء والصالحين الذي دعا إليه الله سبحانه وتعالى ونبيه الكريم محمد(صلى الله عليه وآله) وقدم نفسه الطاهرة قرباناً هو الانحراف الذي حدث في ذلك الوقت على يد الحكام والعزوف عن اتباع الحق والأقوال الواردة في تاريخ عاشوراء خير دليل على ذلك إذ قال عليه السلام وهو يخاطب الجموع من حوله ناصحاً لهم باتباع الحق والرجوع عن الباطل (آلا ترون أن الحق لا يعمل به، وان الباطل لا يتناهى عنه...) وامثالها الكثير والتي تدعو إلى ضرورة التمسك بالقيم الإسلامية والعمل بها. لقد أراد الإمام أن يسجل اعتراضه، وعدم رضاه ومطالبته بالعدالة والحق (وبالتالي نشر راية الإسلام) بواسطة سيل من الدماء التي تدفقت من بدنه وأبدان أهله واصحابه، والتاريخ يثبت لنا أن الخطب والأقوال التي تسجل بالدم لا يمكن أن تمحى من الوجود أبداً، ذلك إنها تعبر عن خلوص نية، وعمق إرادة، وكمال إخلاص، وصفاء فكر[39].

    وإننا في هذا الزمان – كما كان الناس قَبْلَنا – بحاجة إلى فكر نوراني ملهب ورشيد في آن واحد كفكر الإمام الحسين عليه السلام ، وإلى الانفتاح الإنساني الواسع على شخصيته عسى أنْ نستفيد من مخزونه الروحي والقيمي والثقافي واستثماره في معالجة قضايانا الكئود، وحل إشكاليات الإنسان العميقة في هذا العصر.

    فلم يعد الحسين مجرد ثورة وحركة جهادية، بل هو مشعل نور متوهج ومتألق في كل شيء.

    وإذا كان الناس قد أفرطوا في حب الحسين والتأثر بمواقفه السياسية والجهادية، فإننا نطالبهم بالإفراط في اتخاذه قدوتهم في المعرفة والأخلاق والإصلاح الاجتماعي والأدب والتربية الجهادية والانتصار على شهوات الذات، والمبالغة في الارتباط بكل جانب من جوانب حياته المضيئة. (فالإنسان المؤمن وغير المؤمن بحاجة إلى معرفة " الحسين " الثائر" والحسين " المصلح الاجتماعي " وبحاجة لروح الحسين " العرفاني " والحسين " الشاعر "والحسين " المربي " والحسين " المرشد الأخلاقي " والحسين " السياسي " المتمكن، والحسين المجاهد المقاتل الذي لا يأبه " الموت " ولا يخافه.

    وبذلك يمكن أنْ يتحول المنبر الحسيني إلى منظومة ثقافية واسعة، وحركة عقلانية منظمة تطل على شخصية الإمام من جوانبها جميعها دون تركيز على " الجانب المأساوي " وحده، نعتز به ميراثاً إنسانياً لا فعلاً يختصر شخصية الحسين ويهمش فعاليتها، بل ينبغي تفحص تراث الإمام الحسين عليه السلام في الفكر والعلم والتربية والأخلاق والقيم والأدب والشعر والعرفان الروحي، والإصلاح الاجتماعي، والنشاط السياسي، وأنْ تعقد حواراً بين هذا التراث والواقع الإنساني، فتستنطقه الأمة في قضاياها الإنسانية المعاصرة، وتستمد منه معرفة مستنيرة قادرة على مواجهة إشكاليات العصر.

    وتأسيسا على ما تقدم فأن أهمية المقالة الحالية تتجلى من خلال:

    1. أهمية القيم في حياة المجتمع، للدور الذي تلعبه في تكامل البنية الاجتماعية وانسجام أفراد المجتمع وتماسكهم في ما يواجههم من تحد مصيري في عالم اصبح فيه لموقف المجتمع الموحد أهمية كبيرة لبقائه وديمومته.

    3. إن بذر القيم التربوية التي هي قوام منهج الإسلام الشامل في نفوس الأفراد، هي الضمان لتحقيق أهداف التربية الإسلامية. ومن هنا فتحديد الأهداف لا بد أن يراعي صفة الشمول التي تكتسبها تلك القيم، بحيث تتكامل فيها النواحي العقدية مع النواحي المنهجية، وهذه مع النواحي الأخلاقية. . وفي غياب هذا التكامل، تذهب الجهود المبذولة هدرًا وتنتهي إلى بناء مهزوز وطريق مسدود.

    4. ترتبط القيم التربوية في أمة من الأمم، ارتباطًا صميمًا بثقافتها، وعليه فإن فصل القيم التربوية الإسلامية عن إطارها الثقافي السليم، ودمجها في مناخ من الازدواجية الثقافية، أو تركها تحت طائلة الغزو الثقافي، يعرضها للذوبان، وينزع منها الفعالية في صياغة الشخصية الإسلامية القوية وصنع الواقع الحضاري السليم.

    5. تبصير التربويين بالقيم التربوية الإسلامية التي يحتاج المجتمع الإسلامي إلى تعزيزها وتنميتها وذلك من اجل إعداد الإنسان إعداداً صحيحاً قادراً على مواجهة متطلبات المرحلة المقبلة.

    6. إن الصراع بين الثقافة الإسلامية والثقافة الغربية (بمفهومها الحضاري الشامل)، لابد أن يحتدم في الاتجاه الإيجابي الفعال الذي ينتهي إلى تحرير الثقافة الإسلامية والقيم المنبثقة منها، من أجواء الثقافة الغربية القائمة على أسس ومقومات مناقضة لأسس الإسلام ومقوماته، التي منها الربانية والثبات. فالثقافة الإسلامية تعبر عن أسس قائمة على القيم الدينية والأخلاقية المستمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، ومن ثم فإن الهدف من مثل هذا اللون من ألوان التعليم هو بناء الإنسان المسلم، الراسخ الإيمان بالله، الذي لا يتعدى حدود الله، بل يحاول أن يفهم ظواهر الكون، خارجية أو داخلية، في ضوء قدرة الله سبحانه وتعالى القادر على كل شيء[40].

    7. إن المقالة الحالية يعد محاولة في تأصيل الفكر التربوي في التراث وذلك بالكشف عن مضامينه القيمية والأخلاقية ومساهمة في مواجهة ما تعانيه الأمة العربية والإسلامية من حالات التمزق الداخلي والتبعية الفكرية، ولعل فيه زيادة نوعية للبحوث في هذا المضمار.

    بقلم: الأستاذ المساعد الدكتور حاتم جاسم عزيز السعدي.

  5. #25
    ....
    sajaya ruh

    أسباب رفض الإمام الحسين (عليه السلام) لبيعة يزيد بن معاوية


    رسالة الإمام الحسين (عليه السلام)


    ((أيّها الأمير، إنّا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، ومحلّ الرّحمة، بنا فتح الله، وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق، شارب خمر، قاتل النفس المحرّمة، معلن بالفسق، مثلي لا يبايع مثله))[1].

    في هذه الرسالة وضع الإمام أبو عبد الله الحسين عليه السلام الأسس المتينة التي على ضوئها رفض كل ألوان الباطل:

    ((إنّا أهل بيت النبوة))

    1 ــ ابتدأ الإمام عليه السلام بأول ميزة سامية، فبيت النبوة يشكّل المركز الفكري والعلمي الذي يبثّ كلّ أنواع المعرفة والعلم، والدليل:

    قال تعالى: ((فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ))[2].

    وقد اتسم بيت النبوة بالرفعة والسمو لينير الطريق، ويكشف كلّ ألوان الباطل.

    وكما هو ثابت في سنن المجتمعات فإنّ أهل المصالح الضيّقة يكيدون للأمم بالذات التي انتهجت طريق الخير، فألف شيطان يتربّص بها ويريد أن يغويها.

    وقد تربّص (بيت أبي سفيان الذي هو مأوى الشياطين) بالأمة الفتية، وأراد أن يركسها في الفتنة وكادت لولا بيت النبوة الذي رفعه الله عز وجل حتى يفضح البيوت الفاسدة.

    وقد ضمّ بيت النبوة سيد الكائنات، وسيد الوصيين، وسيدة نساء العالمين، وسيدي شباب أهل الجنة.

    ويبقى بيت النبوة رفيعاً على مرّ الدهور، ليكشف زيف الباطل، ويمزق سُدفَ البغي كيما يهبط بالأمة في مستنقع الرذيلة.

    ثم إنّ بيت النبوة يتسامى ويحلّق ليتحدى طغيان الباطل، فلابدّ من مثال وقدوة ونموذج يكشف ما تحيكه شياطين الإنس والجن.

    وبيت النبوة الذي أشار إليه المولى أبي عبد الله الحسين عليه السلام كان مهبط الملائكة في مقدمتهم جبرائيل عليه السلام وكفاه فخراً وسمواً، وممّا لا شكّ فيه فإنّ نزول الملائكة وباستمرار يكمن فيه معانٍ كبيرة وعظيمة، منها القيم المثلى.

    قال تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ))[3].

    فالملائكة تتنزّل بقيم الشجاعة والطمأنينة والاستقرار ((أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا))[4]، ثم القيمة الكبرى: البشارة بالجنة ((وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ))[5].

    فهذه المعاني الكبيرة ترفع البيت وتسمو به إلى مدارج الكمال الأخلاقي والعبادي، وكلما يرتفع البيت يسمو الإنسان، ويعدّ البيت أفضل مدرسة تهيّأ الإنسان للمجتمع، ويبقى البيت المدرسة الأولى التي تبني شخصية الإنسان بجوانبه كافة، بالذات الجانب الأخلاقي والاجتماعي.

    إنّ البيت يساهم في بناء الأسس الأخلاقية والمعنوية فهو يدخل في صميم المشاريع الأخلاقية، ونحن بحاجة إليه بالذات في هذا الوقت الذي شحت المؤسسات، ومنها المدارس من القيم الأخلاقية.

    وكان بيت النبوة مفعماً بالمعاني السامية، فالزهراء (عليها السلام) كانت تعلّم الإمامين منذ الصغر ((صلاة الليل))، وكيفية التعامل مع الناس، والجلوس مع الكبار، لاسيّما مع سيد الكائنات محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهذه المعاني الجليلة حفرت موقعاً في قلب الإمامين عليهما السلام فكانا يصدران عنه في كل حين، ويظلّ التوجيه في السنوات الأولى الحجر الأساس في استقامة الإنسان، وتربّى المولى أبو عبد الله عليه السلام في أحضان النبوة والإمامة، وتشبع قلبه بعبقهما، فكيف يهادن ويسلم القيادة إلى الأذلاء من بني أمية، وقد حاول بنو أمية أن ينالوا من بيت النبوة، وإذا كنا نعتبر وقلما نعتبر، فدولة بني أمية، وبني العباس أتوا بكيدهم، وألقوا بحبالهم وعصيهم، فسحروا أعين الناس واسترهبوهم.

    ولكن خسئت محاولاتهم، وارتدّوا صاغرين.

    لقد حاول حكام بني أمية وبني العباس النيل من البناء الشّامخ الذي قام على أسس التقوى.

    وفي نظري فإنّ محاولات حكام بني أمية وبني العباس هي الأخطر من نوعها في تاريخ الأمم، فقد أرجعوا الأمة إلى الجاهلية الأولى.

    يقول طه حسين: ((وعاد العرب في عهد بني أمية إلى شر مما كانوا فيه في جاهليتهم من التنافس والتناحر القبلي))[6].

    إذ لم يتعرّض دين مثلما تعرض الإسلام إلى محاولات تحريفية وتخريبية جرت على أيدي من يدّعي الإسلام وهو منهم براء.

    إن أخطر وسيلة يمكن أن تنطلي على الناس هي ((الدين))، فإنّ من يتلبّس بالدين يمكن أن ينفذ ويحقق مآربه حتى إذا نفذ يترك أثراً سيئاً للغاية لأنّه يمسّ المقدسات، والناس بطبيعتها تحترم المقدسات، وتؤمن من يأتي عبرها، لذا فهي تصدق من يحمل مسوح الإيمان.

    ولكن الويل إذا انكشف الواقع، فإنّ أول الضحايا هو الدين.

    على كل حال فإنّ بيت النبوة الذي أشار إليه الإمام الحسين عليه السلام يعدّ العامل الأول في رفض كلّ ألوان الباطل.

    والإمام أبو عبد الله الحسين عليه السلام عندما يورد عبارة ((إنا أهل بيت النبوة)) فهو الأولى في تحمّل مسؤولية الحفاظ على الدين (فصاحب الحمل أحق بحمله).

    2 ــ ثم إنّ الإمام الحسين عليه السلام هو الثمرة من الشجرة الطيبة الثّابت أصلها، فمن الطبيعي أنها تحمل خصائص الثبات والأصالة والطيب، فلا يمكن أن تشذ قيد أنملة.

    3 ــ وطالما الإمام الحسين عليه السلام من أهل بيت النبوة، فليس هناك من يدانيه في هذه المرتبة فهو الأحق والأجدر في الدفاع عنها وتَحمّل ما يخصّ الرسالة المحمدية، وعليه تقع مسؤولية الدفاع عن هذا البيت الرفيع الذي خصّه الله عز وجل بمزايا فريدة.

    4 ــ والإمام أبو عبد الله الحسين عليه السلام عندما ينسب نفسه إلى بيت النبوة إنما يريد أن يثبت حقيقة واضحة أنّ هذا البيت يأبى الذلّ والخضوع لأنه حلقة الوصل بين السماء والأرض، فهو الأمين في نقل وصايا السماء إلى الأرض، فكيف يهادن الباطل، ويساوم الظالم.

    ثم إنّ هذا البيت هو الحلقة الأخيرة في سلسلة الأنبياء والأوصياء، فلابدّ أن يكون جامعاً للقيم الإلهية حتى يمكن أن يوصلها ويتواصل بها، وفي أقصى درجات الكمال.

    5 ــ ثم من هو يزيد حتى يمكن أن يتواصل أهل البيت النبوي معه، ويمدّ جسور التفاهم، إنّ بيت أبي سفيان لا يفقه معاني العزّة والكرامة والشهامة، فهو استمرَأ الخسّة والضّعة واللؤم حتى عشعش في كل زواياه، الأمر الذي أدّى به إلى أن يكون نموذج الخسة والضعة.

    لذلك فهو يريد للإمام أبي عبد الله عليه السلام أن يكون كما يريد، ويأبى الله ذلك للإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام لأنه تخرّج من بيت النبوة الذي جمع كلّ مزايا الشهامة والبطولة والرجولة.

    قال تعالى: ((رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ))[7].

    إنهم رجال، ونعم الرجال، فتأبى شهامتهم الخضوع حتى لو أتت الدنيا بأجمعها، والشياطين بخيلهم ورجلهم، وهؤلاء الرجال إنما انطلقوا في تحديهم لأنهم وجدوا الأساس المكين في البداية، وهي تؤثّر كثيراً في النتائج لأنّ النتائج تتبع أخس المقدمات.

    وقد تلعب البداية في بعض الأحيان دوراً حاسماً في حجم النتائج، وكلما كانت البداية قوية تكون النتائج كبيرة وباهرة، وفي بعض الأحيان تفوق ((التصور)).

    وهكذا ربط الباري عز وجل بين البداية السليمة والنتائج.

    قال تعالى: ((وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا))[8].

    6 ــ إنّ بيت النبوة لا يخرج إلا الرجال، قال تعالى: ((فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ))[9].

    ومن سنن الحياة أنّ الكبير يبقى كبيراً، وذلك حتى يتسنى للآخرين اقتفاء أثره، ويملك القدرة على اجتياز العقبات، وكما هو ثابت فإنّ الحياة مطبوعة على الكدر ومفعمة بالصعاب، وما لم يجد الإنسان رجالاً أقوياء فلا يمكنه اجتيازها لاسيّما وأنّ هناك من يحاول استنساخ نهج أبي سفيان، ومعاوية، ويزيد.

    فلابدّ من وجود الكبار حتى نعرف حجم ((الصغار))، إننا لا نعرف الجمل إلا عندما نرى ضدّه، ومن ثمّ لا نرى حجم الكبير إلا إذا عرفنا مقياس الكبر والصغر، ولا نعرفها ما لم نتطلع إلى ((قيم الشهامة والبطولة والشجاعة))، وهذه الخصال ارتسمت تماماً في سلوك أبي الضيم الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام.

    فالإمام أعطى دروساً في ((جامعة كربلاء)) ظلّت تشعّ رواءً، وتلألأ في سماء البطولة والفداء والشهامة.

    وهكذا تزينت سماء البطولة بهذه الدروس العملاقة التي رفعتها كربلاء.

    ((معدن الرسالة))

    هو الموضع الأصيل للرسالة المحمدية، فالمعدن هو الأصل.

    وبحق فإنّ بيت النبوة هو الموضع الأصيل للرسالة المحمدية التي اكتملت به جميع الأديان من لدن آدم عليه السلام، وإلى رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

    إنّ الموضع الذي تنطلق منه رسالة السماء لهو من أشرف وأطهر المواضع، فقد تعاهدها جبرائيل، وظلّلها ميكائيل، وعطّرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعبق النبوة، فجاءت الرسالة بأرفع صورها وأسمى معانيها لأنها قامت على أسس متينة.

    ومن معدن الرسالة ينطلق الحق ليدحر الباطل، وما لم ينطلق الحق من معدنه لا يستطيع أن يجابه قوى الشر، ثم إنّ الحق لا يكتسب قوته الحقيقية إلا من معدنه، فلكل معدن صفة به يتميز ومنه يأخذ صورته الحقيقية كشجر السنور، فما لم ينبت في أرضه لن يعطي ثماره الحقيقية.

    ولن تنبت الرسالة المحمدية إلا في معدن بلغ القمة في السمو والشموخ، حتى تعطي ثمارها الحقيقية، والمعدن تجسد في الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فاتسع ليتواصل مع أهل البيت عليهم السلام، ومن قبل اتصـل مع الأنبياء عليهم السلام.

    قال تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ))[10].

    وهكذا اتصلت الحلقات من آدم عليه السلام، وإلى رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهي أرفع وأقوى الحلقات، ثم اتصلت الحلقات لتتسلسل في الأئمة من آل البيت عليهم السلام، فكان المولى أبو عبد الله الحسين عليه السلام الذي أشرقت فيه، فكانت الحلقة التي أوثقت سلسلة الأنبياء وأحكمتها، ثم أوصلتها بالأئمة عليهم السلام.

    جاء في (المراجعات) وبسند رفيع: عن سلمان المحمدي، قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإذا الحسين بن علي على فخذه، وهو يلثم فاه، ويقول: ((أنت سيد ابن سيد، أنت إمام ابن إمام أخو إمام أبو الأئمة، وأنت حجة الله وابن حجته وأبو حجج، تسعة من صلبك تاسعهم قائمهم))[11].

    وقد يتأكّد المعنى في قول رسول الإنسانية محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ولده الإمام الحسين عليه السلام: ((حسين مني وأنا من حسين))[12].

    وقد ثبّت المولى أبو عبد الله الحسين عليه السلام ((المعدن))، وأعطاه المعنى الحقيقي عندما رفض بيعة يزيد بن معاوية، والتي أراد يزيد من خلالها ((قتل الإسلام والإجهاز على قيمه))، ومن ثم إرجاع القيم الجاهلية التي قبرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

    لقد تهيأت أسباب الرفض للإمام الحسين عليه السلام، ومنها ((معدن الرسالة)) التي تمكنه من الوقوف بحزم وثبات، لذلك لا يمكن للإمام عليه السلام أن يستجيب ليزيد ((القرود والكلاب)).

    إنّ مهادنة يزيد كانت تشكّل خرقاً فاضحاً لكلّ القيم الأصيلة، ومنها ((معدن الرسالة))، وهكذا فإنّ الإمام الحسين عليه السلام عندما رفض البيعة دلّل بشكل قاطع على أصالة ((المعدن))، وسموّ الرسالة.

    وكما هو ثابت في علم الحضارة أنّ رفض الباطل والوقوف أمامه بقوة يُصغّره، وكلما يتسامى الرفض ويقوى يتصاغر الباطل ويندحر.

    من هنا فإنّ رفض الإمام أبو عبد الله عليه السلام جعل باطل يزيد يتصاغر وينكفئ وينحسر عن ربوع الدولة الإسلامية ليعيش في أضيق مساحة، حتى كاد أن ينهزم في عقر داره ((الشام)).

    لذلك دبّر ((يزيد)) مؤامرة التخلص من الإمام بأسرع وقت، وبشتى الأساليب، فأوفد الكثير، وأعطى المزيد، عسى أن يقمع الرفض، أو على الأقل ((يوقفه)). ولكن ظلّ الإمام الحسين عليه السلام ((يصدح بالحق، ويرفض بيعة يزيد))، مما أعطى زخماً متواصلاً للأمة لتستعيد عافيتها، وتثيب إلى رشدها.

    ولعلّ انتقال الإمام عليه السلام إلى مكة يأتي في إطار ((الرفض الواسع)) الذي توخّاه الإمام عليه السلام، لأنّ مساحة الرفض كانت تشكّل أهمية استثنائية، ومن ثمّ تهيأ الأجواء لإسقاط العرش السفياني قبل أن يقدم على مجزرة كربلاء، وهكذا استبق الإمام الحسين عليه السلام وأخذ يصعد من وتيرة الرفض بعد أن أرسل مسلم بن عقيل (صلوات الله عليه)، وسوف نأتي إلى أحداثها. إنّ رفض البيعة من قبل الإمام عليه السلام وانتقاله إلى مكة بثلّة قليلة من أهل بيته يدلّل بوضوح إسقاط ((هيبة الحكم السفياني))، فإن الإمام عليه السلام كان يتحاشى ((السيف)).

    ولم تكن عند الإمام عليه السلام ((النية)) لرفع السيف في وجه يزيد، وإن كان من حقّه ذلك لأنّ يزيد كان يتربّص به، وينوي القضاء عليه في كلّ حين، وليس أدلّ على ذلك من الرسالة التي وجّهها إلى ولاته في المدينة ومكة.

    فيزيد عقد العزم في مواجهة الإمام عليه السلام عاجلاً أم آجلاً، وكان ينوي القضاء عليه في كلّ الأحوال حتى لو بايعه كما ذكرنا، فإنّ يزيد كان مشبعاً بروح الانتقام، وكانت وصية معاوية بن أبي سفيان مكتوبة على صفحة ((قلبه)) قبل أن تكون مكتوبة على الورق.

    وكان أيضاً مدفوعاً ((بسكرة الملك)) التي أعمت بصيرته، فكان لا يرى إلا ملك أبي سفيان حتى لو أراق دماء جميع الأنبياء والأوصياء فالذي يجرأ على قتل سيد شباب أهل الجنة عليه السلام لا يتورّع من قتل جميع الأنبياء والمرسلين، وقد قتلهم عندما أقدم على قتل سيد شباب أهل الجنة الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام.

    وفي نظري فإنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما يذكّر السلاطين والأمة الإسلامية بقتل الإمام الحسين عليه السلام إنما يؤكد على حقيقة واضحة تكمن في انتهاك السلسلة النبوية، ومن جانب إذا كان الباري عز وجل يعدّ قتل الإنسان هو قتل الناس جميعاً.

    قال تعالى: ((مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا))[13]، فكيف بقتل سيد شباب أهل الجنة الإمام الحسين عليه السلام؟! أنا أضع هذه الملاحظة أمام العالم.

    ((ومختلف الملائكة))

    وهذه ميّزة أخرى اختصّ بها أهل بيت النبوة (صلوات الله عليهم أجمعين)، فاختلاف الملائكة على بيت الرحمة يجعله رفيعاً بمعنى الكلمة.

    وفي مقدمة من اختلفوا إليه ((جبرائيل وميكائيل وإسرافيل))، والروايات تثبت أنّ جبرائيل نزل وبشّر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بسموّ بيته.

    قال تعالى: ((فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ))[14].

    وكان جبرائيل يختلف إليه مراراً وحينما ولد المولى الإمام أبو عبد الله الحسين عليه السلام نزل جبرائيل باسمه من بارئ الكون، ومرّ على ((الملك فطرس)) الذي عطّل جناحيه، فتعلّق بين السماء والأرض، وعندما إلتقاه جبرائيل عليه السلام، قال له فطرس: أرى السماء تزينت ما الذي حدث؟.

    قال جبرائيل: الآن ولد لمحمد المصطفى ذكر. قال: ما اسمه؟.

    فقال جبرائيل: ((الحسين)).

    فقال فطرس: لقد وقع في قلبي، أسألك بالله أن تطلب الشفاعة لي بحقه.

    فنزل جبرائيل، وقصّ على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فتوسّل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالإمام أبي عبد الله عليه السلام أن يرد عليه جناحيه، فرجعت[15].

    قال الشاعر:

    لمهدك آيات ظهرن لفطرس *** وآية عيسى أن تكلم في المهد

    فإن ساد في أم فأنت ابن فاطمة *** وإن ساد في مهد فأنت أبو المهدي[16]

    إنّ بيتاً تختلف إليه الملائكة لخليق أن يتألق في كل حين، ويسمو بقدر سمو المعاني التي كان ينزل بها جبرائيل وميكائيل.

    ثم إنّ نزول جبرائيل عليه السلام وهو مَلَك قد أكتنز قوة هائلة.

    قال تعالى في جبرائيل: ((ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ))[17]، فأيّ قوة كان يضخّها في بيت النبوة لاسيّما وأنّ جبرائيل كان ينقل ما يحدث للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في حياته وبعد مماته (صلوات الله عليه)، وثبت أنّ حديث القوي يزرع القوة، ويلهم الإنسان، ويفجر فيه ينابيع ((القوى الروحية)).

    وجبرائيل عليه السلام هو الملك الذي وكل بالأنبياء من لدن آدم عليه السلام وإلى نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهذه الميّزة وفّرت لجبرائيل عليه السلام قوة إضافية، وهذه أسباب معنوية شكّلت روافد شقّت طريقها إلى بيت النبوة.

    ومع مكانة جبرائيل عليه السلام وعلو منزلته كان ينزل ويهزّ مهد الإمام أبي عبدالله عليه السلام، ويخدمه حتى قال أبو نواس شاعر أهل البيت المفترى عليه كذباً وزوراً، قال وهو يمدح الإمام الرضا عليه السلام، وقد تقلّد ولاية العهد:

    قيل لي: أنت أشعر الناس طراً *** في فنون الكلام البديهِ

    لك من جوهر الكلام بديعٌ *** يثمر الدرّ في يدي مجتنيهِ

    فعلام تركت مدح ابن موسى *** والخصال التي تجمّعن فيهِ؟

    قلت: لا أستطيع مدح إمامٍ *** كان جبريل خادماً لأبيهِ[18]

    وإذا كان البعض يضيق ذرعاً من نزول الملائكة على أهل بيت النبوة والرسالة عليهم السلام، والبعض يستعظم ذلك ويستكثرها، فإنّ الملائكة نزلت على مريم أم عيسى عليهما السلام، قال تعالى: ((وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ))[19]، والسيدة مريم عليها السلام كانت من النساء العابدات.

    والملائكة عليهم السلام تنزل على الذين استقاموا، قال تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ))[20] فالملائكة بنصّ الآية وليُّ المؤمن في الدنيا والآخرة.

    والسؤال هو: لماذا ذكر المولى أبو عبد الله الحسين عليه السلام ((الملائكة)) واختلافها؟.

    لا شكّ أن نزول الملائكة وفي مقدمتهم جبرائيل عليه السلام يدلّ على أنّ بيت النبوة يجسّد العلاقة الوثيقة بين السماء، وبين بيت النبوة عليهم السلام. ثم إن نزول الملائكة واختلافها إنما يؤكّد حقيقة لا مراء فيها خلو البيت الطاهر من رجس الشيطان.

    قال تعالى: ((إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا))[21].

    وإذا كانت أجواء البيت النبوي الذي ترعرع فيه الإمام (صلوات الله عليه) مفعمة بقوة جبرائيل عليه السلام وعبيره وقد استنشقه الإمام عليه السلام منذ الصغر فتشرب قلبه بحب الله عز وجل منذ الولادة، فكيف يجنح إلى المهادنة والمساومة؟.

    وقد ثبت في علم النفس التربوي: إنّ الذي يتربّى طويلاً في أحضان الفضيلة والمثل السّامية لا يستمرئ القبائح، بل يستوحش منها ويظلّ يعشق كل ما هو حسن وجميل.

    وثبت أيضاً: أنّ الذي يحتضن القيم المثلى في سنيّه الأولى يعشقها كبيراً، وتظلّ تكبر في عينيه كلّما تقدّم به العمر حتى إذا بلغ أشدّه يكون أشدّ ميلاً ليصبح مثالاً في تجسيدها.

    وثبت أيضاً: أنّ الصفات الحسنة عندما يعشقها الإنسان إنما تنسجم مع الفطرة التي جُبلت على حب الخير، فبقدر عشقه تظهر الفطرة بأجلى صورها. ثم إنّ العشق ينشر الصفات في مساحات واسعة في كيان الإنسان، فتضحى كلّ خلية تنطق بالصفات، لذلك فإنّ الخالق جلّ وعلا يستنطق جلد الإنسان في يوم القيامة.

    قال تعالى: ((وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ))[22].

    ممّا يدلّ على اكتناز خلايا الجسم، كل ما هو قبيح وحسن، ولكن يبقى عشق الإنسان للصفات الطيّبة أعمق وأوسع لأنّ الإنسان جُبِلَ على حب الخير والفضيلة.

    قال تعالى: ((فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ))[23].

    فالنفخة الإلهية فيها ما لا يحصى من الخير، ومن جانب تشكّل دليلاً على ((فطرة الإنسان السليمة)).

    ثم ذكر اختلاف الملائكة على بيت النبوة، ومعدن الرسالة، إنما يضع حداً لمن يتقوّل على أهل البيت عليهم السلام، فالبعض يريد من الإمام عليه السلام الدخول في بيت ((الوضيع)) يزيد بن معاوية.

    عجباً لهؤلاء كيف يستسيغون الحديث ومهادنة ((يزيد القرود والفهود))، ويترعونه حديثهم بالتبريرات الواهية لبيعة من حرمت عليه الخلافة بنصّ الحديث النبوي صلى الله عليه وآله وسلم.

    أخرج ابن مردويه، عن عائشة، أنها قالت لمروان: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لأبيك وجدك (أبي العاص بن أمية): ((إنكم الشجرة الملعونة في القرآن))[24]، ومعاوية بن أبي سفيان منها.

    جاء في تفسير الآية: ((وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ)) [25]، كما في تاريخ الطبري وشرح النهج: أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى أبا سفيان مقبلاً على حمار، ومعاوية يقود به، ويزيد ابنه يسوق به، قال: ((لعن الله الراكب والقائد والسائق))[26].

    وروى العلاء بن حريز القشيري، أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لمعاوية: ((لتتخذنّ يا معاوية: البدعة سنة، والقبيح حسناً، أكلك كثير، وظلمك عظيم))[27].

    وجاء في (تاريخ الطبري): إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((يطلع من هذا الفج رجل من أمتي يحشر على غير ملتي. فطلع معاوية))[28].

    ويكفي الحديث الذي نقله مسلم في (صحيحه): ((من خلع الطاعة وفارق الجماعة ميتته جاهلية))[29].

    ومعاوية خلع طاعة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، ثم فارق الجماعة، فهو مات ميتة جاهلية، وعلى غير ملة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

    جاء في (صحيح مسلم): عن ابن عباس: أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر، فإن من فارق الجماعة شبراً ومات، مات ميتة جاهلية))[30].

    وجاء أيضاً: ((ليس أحد خرج من السلطان شبراً فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية))[31].

    وعن ابن عمر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية))[32].

    ((بنا فتح الله، وبنا ختم))

    وهذه ميّزة أخرى يثبتها الإمام (صلوات الله عليه)، فقد فتح الله عزّ وجل برسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم أبواب الرحمة التي كانت موصدة أمام الأمم، فجاءت الرحمة، ونزلت البركات على الأمم التي عانت الجدب العلمي والفكري والأخلاقي ردحاً طويلاً، وغفت على الذلّ والمهانة، حيث كانت ((مذقة الشارب ونهزة الطامع، أذلة خاسئين، يتخطفهم الناس من كل جانب، فأنقذهم برسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم ))[33]، وجعل منهم أمة تتنفس عبير الكرامة والشموخ فصارت تفهم معاني الحياة وتستوعب أصولها الحقيقية تاركة وراءها الأحقاد والإحن الجاهلية.

    ثم إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فتح باب العلم والحكمة والآداب، قال تعالى: ((هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ))[34].

    ومن قبل فإنّ الأبواب كانت موصدة، والسبل غائمة، والحياة يلفّها الظلام، حتى بات الإنسان لا يبصر أبعد من قدميه، ومما يؤسف له أن الأمة الإسلامية بعد رحيل النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم أصيبت بقحط علمي مروع، بعد أن ضربها زلزال الانقلابات المتتالية بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي استطاع بكل قوة أن يفجّر أنهار المعرفة في كل واد، وأن ينعش العقل الإسلامي الذي اعتراه الإعياء، وإلى تسميد التربة الإسلامية بما يساعدها على الإخصاب والازدهار، وذلك بإمداد لا ينقطع من المعرفة الشاملة، والثّقافة المتعدّدة الأنواع.

    قال العلماء وأصحاب الفكر:

    ((إنّ الفتح الذي حقّقه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أزاح الستار عن العقول، فكبرت كي تستوعب القيم التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبهذا الفتح والإنجاز أحدث نقلة نوعية في مسيرة الأمم، بعكس الكثير من القادة، فديدنهم الاستحواذ وتصغير العقول كي يُجَيرونهم للسطوة والقوة.

    ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسّع الآفاق أمام العقول ممّا سهّل كثيراً في استيعاب المثل العليا والقيم السامية، وقد سلك إلى النفوس مسلكاً قلّ أن تجد له نظيراً إذ ربطهُ بالرحمة والرأفة.

    قال تعالى: ((لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ))[35].

    ومن ثم جاء إلى القلب فضخّه بالإيمان حتى يطمئن.

    قال تعالى: ((الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ))[36].

    والقلب كما هو ثابت في علم النفس التربوي لا يطمئن إلا بالإيمان، وهذا ممّا أشار إليه ((ألكسيس كارليل)) في كتابه القيّم (الإنسان ذلك المجهول)، وبهذه الأعمدة الثلاثة أقام النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم شخصية الإنسان، وأعطاها قوة تستطيع بها أن تقف أمام أعتى قوة في العالم.

    لذلك عندما نأتي إلى حياة الصحابة الأجلاء، فإنّنا نطلّ على عالم كبير مفعم بالصّفحات المضيئة.

    يروى أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم في يوم من الأيام كان جالساً مع أصحابه، فجاء إليه أعرابي وأمسكه من ثوبه.

    ثم قال: يا محمد إني بعتك فرساً ولم تدفع إليّ ثمنه.

    فقال صلى الله عليه وآله وسلم: هذه لي وقد خرجت إليك من ثمنها.

    فقال الإعرابي: كلا، وإذا كان كذلك فهل عندك من يشهد؟.

    تقول الرواية: فوقف ((خزيمة))، قائلاً: يا رسول الله أنا أشهد بأنك دفعت له الثمن.

    فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من أين علمت؟ أحضرت ابتياعي لها؟.

    قال: لا، ولكن علمت ذلك من حيث علمت أنك رسول الله، يا رسول الله إنني أشهد من حيث أعلم أنك صادق، أنت نبي الله، وقد برهنت لنا بالأدلة على ذلك، وبرهنت لنا بالمعاجز على صدق نبوتك، أتيتنا تخبرنا بأخبار السماء، وقدمت لنا البراهين والأدلة على ذلك، وقد صدقناك على أخبار السماء، فكيف نكذّبك على قول إعرابي (بوّال على عقبيه).

    تقول الرواية: فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((قد أجزت شهادتك وجعلتها شهادتين))[37].

    إنّ هذه الصفحة المشرقة تترجم بوضوح قوة الإيمان وتكامل العقيدة، وكما هو ثابت في علم النفس التربوي: أنّ قوة الإنسان تنبع من إيمانه بعقيدته، فلو ملكها لامتلك ينبوع القوة التي بداخله، ثم لا تظهر شخصية الإنسان إلا عندما تجتمع الأعمدة الثّلاثة: الإيمان والأخلاق والحكمة.

    ثم إنّ الإمام أشار إلى مسألة مهمة وهي ((وبنا ختم))، ويشير بها إلى القائم من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وبما أنّ الله فتح أبواب الرحمة برسوله صلى الله عليه وآله وسلم فلابدّ أن يختمها بوصيّه القائم عليه السلام الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً وفقاً لقانون ((لكل بداية خيرة نهاية طيبة)).

    جاء في (سنن ابن ماجة)، و(سنن الترمذي): قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد، لطوّل الله ذلك اليوم حتى يظهر رجل من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي وكنيته كنيتي، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً))[38].

    فإذا كان الفتح الأول على يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلابدّ أن يكون الفتح الثاني على يد وصيه عليه السلام.

    ومن جانب توحي عبارة الإمام عليه السلام أنّ هناك انقلابات تترى على الأمة بحيث ترجع بها القهقرى يضرب بعضها رقاب بعض، كما جاء في (البخاري: باب الارتداد).

    ولعلّ أخطر الانقلابات التي حدثت في التاريخ هي بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ جعلت الأمة تغرق في مستنقع البغضاء والإحن وتكون شيعاً بعد أن أقصت القادة الحقيقيين من آل البيت عليهم السلام، وشكّل هذا البعد مأزقاً حقيقياً جعلت الأمة تدخل في نفق مظلم، ولحد هذه اللحظة، وسوف تستمر المأساة إلى أن يظهر الإمام الحجة عليه السلام ويطوي صفحة المأساة التي ألمّت بالأمم.

    إنّ المآسي التي تلفّ الأمم أخذت تتفاقم، وتأخذ حجماً مخيفاً منها أزمة الفقر، وهي من الأزمات الخطيرة التي تكلف الإنسانية ما لا يحصى من المشاكل بالذات المشاكل الأخلاقية، وقد حاولت الدول إصلاح هذا الخلل المتفاقم، إلا أنها فشلت إذ لم تمتلك المنهج الإصلاحي، وحتى لو امتلكت فإنّها لا تملك الإرادة، فالأغنياء (25 نفراً) في العالم لا يدعون أي خطوة إصلاحية في هذا الاتجاه.

    وقد ظهرت الأزمة بوجهها القبيح في أفريقيا إذ في كلّ سنة يموت من الأطفال (9 ملايين)، وقد أخذ الرقم يتصاعد ليس في أفريقيا وإنما في كل دول العالم بما فيها الثريّة، مثل أمريكا، وهكذا تتجه الإنسانية نحو الهاوية، فلابد من مصلح يأتي حتى يطوي صفحة المأساة المروّعة، وبات العالم كله الآن بدأ يترقّب المصلح من آل البيت عليهم السلام، وهو القائم الحجة محمد بن الحسن (صلوات الله عليه).

    صفات يزيد

    ثمّ يردف الإمام عليه السلام، ويعرج على صفات يزيد، ويقول: ((ويزيد رجل فاسق فاجر، شارب الخمر، قاتل النفس المحرّمة، معلن بالفسق))، لقد بيّن الإمام عليه السلام صفات يزيد المخزية التي لا تقبل التغطية والطلاءات، ولكنّ البعض يريد أن يغطي هذه الصفات المخزية فيمدح من تشربت كل خلاياه بالفسق والفجور، وأيّ شيء ترجو فيمن استبد به التعصب ومن رجل شبّ على الفسق والفجور، ويكرع كؤوس الخمر منذ فتح عينيه في بادية الشام، فيزيد تربّى على الفسق حتى تشرّب قلبه، ثم عشش في كلّ خلايا جسمه فبات لا يرى إلا الفسق ولا يتنفس إلا به، ثم هو صار يتباهى بما هو عليه حتى جعله عنواناً عريضاً لحكمه الغاشم.

    جاء في (البداية والنهاية): ((وقد روي أنّ يزيد كان قد اشتهر بالمعازف، وشرب الخمر، والغناء، والصيد، واتخاذ الغلمان والقيان والكلاب، والنطاح بين الكباش، والدباب، والقرود، وما من يوم إلا يصبح فيه مخموراً، وكان يشدّ القرد على فرس مسرجة بحبال ويسوق به، ويلبس القرد قلانس الذهب، وكذلك الغلمان، وكان يسابق بين الخيل، وكان إذا مات القرد حزن عليه، وقيل أن سبب موته أنه حمل قردة وجعل ينقزها فعضته، وذكروا عنه غير ذلك))[39].

    وجاء أيضاً: ((قال الطبراني: حدثنا محمد بن زكريا الغلابي، حدثنا ابن عائشة، عن أبيه، قال: كان يزيد في حداثته صاحب شراب، يأخذ مأخذ الأحداث، فأحسّ معاوية بذلك، فأحبّ أن يعظه برفق، فقال: يا بني ما أقدرك على أن تصل إلى حاجتك من غير تهتك يذهب بمروءتك وقدرك، وتُشَمِّتَ بكَ عدوك، ويسيء بك صديقك، ثم قال: يا بني إني منشدك أبياتاً، فتأدّب بها واحفظها. فأنشده:

    أنصب نهاراً في طلاب العلى *** واصبر على هجر الحبيب القريبْ

    حتى إذ الليل أتى بالدجى *** واكتحلت بالغمض عين الرقيبْ

    باشر الليل بما يشتهي *** فإنما الليل نهار الأديبْ

    كم فاسق يحسبه ناسكاً *** قد باشر الليل بأمر عجيبْ

    غطّى عليه الليل أستاره *** فبات في أمن وعيش خصيبْ

    ولذّة الأحمق مكشوفةٌ *** يسعى بها كل عدو مريبْ[40]

    جاء في مبادئ علم النفس التربوي:

    ((إنّ الإنسان في الصغر بإمكانه أن يتعلم الكثير، ويصوغ شخصيته على وفق ما يتلقى، كما بيّنه ((برتراند رسل)) في كتابه (التربية)، ثمَّ إذا عاش في جو موبوء يحاول أن يثبت مقدرته على المحاكات، ويتقمّص من يهواه، ويظل الإنسان في الصغر يجنح إلى تقليد من يميل إليه بقوة حتى في نطق الكلام)).

    وهذا ما كان من يزيد فقد تقمّص شخصية معاوية بكل سيئاتها مما جعله المثل الأعلى، وقدوته المثلى، والرجل الأوحد، فأضحت سيئات معاوية في عين يزيد مثلاً راح يجسّدها في حياته، ومما ساهم في هذا الأمر تسلّمه للخلافة، حيث وفّرت فرصاً للتعلق بسيئات معاوية.

    وقد أعد معاوية يزيداً ليكون الخلف السيء ((للخط السفياني)).

    وفي نظري فإنّ معاوية هو الذي أعدّ يزيداً، وصاغ شخصيته بهذا الشكل الهزيل، كي لا يقيم وزناً للمثل العليا، والشخصيات الرفيعة، وفي مقدمتهم الإمام المولى أبو عبد الله الحسين عليه السلام، وعبد الله بن عباس، وغيرهم.

    فيزيد تشبّع بالرذائل سواءً كان في بيت معاوية، أو في بيت أخواله، لذلك انعدمت فيه عوامل التقييم السليم، وقواعد الأخلاق التي على أساسها يفرز السليم من القبيح.

    وقد هيّأ معاوية الأجواء تماماً ليزيد حتى يحكم، ويقضي على الرموز العملاقة، التي ليس لها مثيل ولا غرابة فهو ينطلق من عقلية تشبّعت بقيم الجاهلية التي لا تعرف معنى للكبار ولا للقيم المثلى، ويزيد صفحة سوداء في تاريخ البشرية وليس في تاريخ الإسلام حسب، ولا أعرف أمةً هبطت كالأمة الإسلامية حين تولى عليها يزيد وقبعت في مستنقع الذل والمهانة.

    ولكن بما أنّ معاوية كان يريد للبيت السفياني وللشجرة الخبيثة البقاء، فكان لابدّ أن يهيّأ الأسباب ليزيد حتى يتسنّى له القضاء على كل من يعترض سبيل الخلافة والسلطة الغاشمة.

    وبالفعل فعندما تربّع يزيد، وصار ملكاً، أخذ على عاتقه الإجهاز على الشخصيات التي يحسب لها حساب، وفي مقدمتهم الإمام أبو عبد الله الحسين عليه السلام، وعلى القيم التي تضخّ روح التضحية والفداء في عروق الأمة، وإذا كنّا نتحدث عن استهتار يزيد، فإنه تعمّد ذلك، وكان يرى فيه أسباباً للقضاء على هذه الرموز المرموقة، فالاعتراض من قبل الرموز يشكّل خرقاً لدستور آل أبي سفيان، وسلطة العائلة الحاكمة، فإذن لابدّ من أن تقمع هذه الأصوات، وتضرب بيد من حديد كل ذلك تحت ستار ((الحفاظ)) على وحدة المسلمين، وعلى خليفة المؤمنين، هذا ما كان يزعق به وعاظ السلاطين، ولكن أنّى للسكوت أن يكون والخطر قد أحاط بالأمة والدين.

    لهذا فإنّ الإمام أبا عبد الله الحسين عليه السلام كان يرى السكوت عن يزيد تعطيلاً لحكم الله، ومخالفاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

    قال أبو عبد الله الحسين عليه السلام: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من رأى منّكم سلطاناً جائراً، مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغير ما عليه بفعل ولا بقول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله))[41].

    إنّ الإمام عليه السلام ارتأى من واجبه القيام بوجه يزيد الفاسق، والقاتل للنفس المحرمة، ولكن قيامه جعل الكثير من الشخصيات التي تسكن المدينة تتريّث وتحجم لأنها كانت ترى فيه خرقاً لدستور آل أبي سفيان، وشقاً لعصا المسلمين[42].

    ولكن ماذا يصنع المولى أبو عبد الله الحسين عليه السلام؟ وهو يرى يزيد قد جمع كل صفات الرذيلة، وهو يتربّع على عرش ((السلطة)) والمجتمع الإسلامي، يعاني من أزمات ((أخلاقية)) جعلت الكثير منهم ينسون الصلاة والصيام والخمس والزكاة، كما ذكرها ابن عباس لأهالي البصرة.

    وكان ينبغي لأولئك النفر الذين اعترضوا سبيل الإمام التسليم لأمره، أو على الأقل التشاور معه في سبب الرفض، ولكن لم يجد الإمام عليه السلام تجاوباً وأيّ شكل من أشكال التعاون، وكأنّ يزيد كان ينطق عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

    ما بالهم يعترضون على الحق؟ ويسكتون عن الباطل، وكأنّه الحق؟.

    أين أولئك الذين اعترضوا على وصيّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقاموا باعتراضات مسلّحة أنهكت الأمة، وجعلتها مسرحاً يرتع فيه الجاهلون حتى إذا تربّع معاوية ومن بعده يزيد أسلسوا لهم القياد، وبلغوا فيه حداً لم يبلغوه مع رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسيّد الأوصياء علي عليه السلام.

    ويا ليتهم وقفوا عنّد التسليم، ولكنهم ألبسوه لباس الدين، فقالوا: إنّ يزيد خليفة، والخارج عليه خارج على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم[43].

    ثم أين أولئك الذين قاموا بوجه الإصلاحات التي نهض بها الوصي أمير المؤمنين عليه السلام؟ وهم يعلمون أنّ الإصلاحات التي نهض بها الإمام عليه السلام إنما تدخل في صميم العملية الإصلاحية، وقائمة على الدستور، وعلى حفظ حقوق الإنسان.

    لقد غارت الألسن، وتلاشت الكلمات، وكأن لم تكن في قاموس العرب معاني العزة والكرامة والشهامة، ومقاومة الظالم، على كل حال فإنّ الإمام أبا عبد الله عليه السلام صنع خطاً أحمراً أمام كل سلطان جائر وأرسى مفاهيم سامية تتضمن مفردات الرفض ومقاومة كل من تسوّل له نفسه اللعب بمقدّرات الأمة والدين.

    ثم حرك مشاعر الأمة لتنهض وتقاوم حتى لو كلفها حياتها، فحياتها لن تكون أعزّ من حياة ونفس سيد شباب أهل الجنة عليه السلام.

    وهكذا يعلّمنا الإمام عليه السلام درساً في المقاومة أن لا سبيل إلى السكوت إذا كان السلطان فاجراً وجائراً، ومعلناً بالفسق، ويقتل النفس المحرمة، وأن لا مهادنة إزاء الباطل بحجة أنّ الدماء لها حرمة.

    وإذا كنّا نعتبر من دروس كربلاء فإنّ من أعلى دروسها تحدّي الباطل حتى لو ملأ الدنيا، لأنّ الباطل مهما امتلك من أسباب القوة يظلّ هزيلاً أمام الحق وصغيراً أمام الرجال.

    إنّ من القوانين الثابتة في ديننا ((المقاومة)) كلما كانت المقاومة أقوى وأعز نفراً ينكفئ الباطل وينحسر ذليلاً، وكلما اشتدت المقاومة وأخذت بأسباب النصر الإلهي تتضاعف قواها وتشتد عزيمتها ثم لا تأبه لأكبر قوة شيطانية.

    ومن القوانين الثابتة كلما تقدم الحق خطوة يتراجع الباطل خطوتين، أما إذا تراجع الحق وضعف عن المقاومة فإنه يعطي للباطل جرعة فيأخذ القوة من تراجع الحق لا من الباطل، لأنّ الباطل لا يملك القوة الذاتية.

    وهل هناك أقوى من الشيطان؟ فالشيطان يملك من الذرية بقدر عدد البشر أو أكثر كما في الروايات، وأطول عمراً إذ جاء مع أبينا آدم عليه السلام وهو حي، وقد يطول آلاف السنين، وعنده من التجارب ما لا تحصى، ويتحرك في الغيب، ولكن عندما يقابل المؤمن يقول الباري عز وجل: ((إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا))[44].

    فإذن لا أحد أقوى من المؤمن ((إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ))[45].

    وفي آية أخرى وباعتراف الشيطان: ((قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ))[46]. وهذا اعتراف صريح للشيطان بعدم قدرته على غواية المؤمن فيكفي دلالة.

    ثم إنّ الباطل جبان في كل الأحوال، فهو لن ينازل المؤمنين إلا في قرىً محصّنة أو من وراء جدر، قال تعالى: ((لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ))[47].

    ثم يقول المولى أبو عبد الله الحسين عليه السلام: ((وقاتل النفس المحرّمة)) أو في رواية ((المحترمة)). ويقصد نفسه المحترمة، لأن يزيد كان يقصد الإمام الحسين عليه السلام في كل الأحوال.

    فيزيد عقد العزم على ذلك حتى لو بايع الإمام (صلوات الله عليه) كما أسلفنا، ولربما بيعة الإمام عليه السلام كانت تسهل كثيراً عملية القتل، لأنّ البيعة كانت تعطيه العذر الشرعي، وتوفّر غطاءً شرعياً يحلم به، فالبيعة معناها تمكين يزيد شرعياً من تولي زمام الأمور.

    قد يقول قائل: وكيف يذكر الإمام عليه السلام القتل ويزيد بعد لم يتولى ذلك؟.

    والجواب: إنّ إقدام يزيد على قتل سيد شباب أهل الجنة عليه السلام يفصح عن نوايا يزيد، ويكشف عمّا كان يبطنه إزاء الإمام عليه السلام.

    وكيف لا يقدم وهو ابن آكلة الأكباد معاوية بن أبي سفيان الذي قتل سيد شباب أهل الجنة الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، والكثير من صحابة رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومئات الألوف من الأبرياء في الأنبار وهيت والمدينة.

    يقول الشيخ محمد الغزالي في كتابه (هموم داعية) وهو يصف حكم معاوية الجائر:

    ((كيف بلي المسلمون بأولئك الرؤساء؟.

    كيف وصلوا إلى مناصبهم؟.

    هل ناقش الفقهاء الطرق التي وصلوا بها إلى الحكم؟.

    هل كانت هناك أجهزة تشير عليهم وتضبط أعمالهم؟.

    هناك حكام ارتدوا بتعاونهم مع الصليبيين، فهل أعلن ارتدادهم؟.

    وكيف تمرّ خيانة عظمى بهذه السهولة))[48].

    لقد بليت الأمة بحفنة من المجرمين الذين ضربوا أسوأ الأمثلة في القتل والغدر والختل حتى أضحت الدنيا تعجّ بجرائمهم، والتاريخ يقطّر خزياً وعاراً من أعمالهم الشنيعة.

    نرجع، ونقول: إنّ يزيدً كان يروم قتل الإمام عليه السلام في كلّ الأحوال، وكان أهون عليه إذا كان قد بايعه، ويبدو أنّ المخطط الأموي كان يروم استئصال أهل البيت عليهم السلام في كلّ بقعة يتواجدون فيها، وفي مقدمتها ((المدينة المنورة))، وحاول يزيد قتل المدينة ومكة بقتله الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام.

    فالمخطط الإجرامي تضمن إبقاء الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام في المدينة حتى يجهز عليه، ثم يتخذ القتل ذريعة لأعماله الشنيعة تباعاً، ومنها سبي أهل البيت عليهم السلام.

    فقتل النفس المحترمة هي نفس المولى أبي عبد الله الحسين عليه السلام، وإذا كان يزيد قد استمرَأ الخمرة والفجور، ونكح الأمهات والعمات، وفتح المواخير في مكة والمدينة، فأي شيء يردعه عن قتل سيد شباب أهل الجنة الإمام الحسين عليه السلام، بل لا يرى غضاضة في أيّ جريمة تطالها يده.

    إنّنا جرّبنا الحكام إنهم ينسفون في لحظة واحدة كلّ القواعد والمبادئ بما فيها مبادئهم، وأقول لقد قتل الإمام أبو عبد الله الحسين عليه السلام يوم تولى معاوية، وجعل الحكم لعبة بيد الصبيان والغلمان، وهكذا تهيأت أسباب قتل ((العظماء)) حين تولى الصبيان، وتعد ولاية الصغار أفضل طريقة لقتل ((الكبار))، فجاء يزيد ليتولى هذه المهمة، فأخذ يلعب بمقدّرات الأمة، بشكل مريع فلا عجب أن يقدم على جريمته النكراء بقتل سيد شباب أهل الجنة عليه السلام، بل العجب أن لا يقدم.

    لأنّ ((صغار العقول)) لا يمكنهم استيعاب مفردات العظمة والسمو، فعقولهم تضيق في استيعاب هذه المفردات فتراهم يسفون، حين يسمو الكبار، ويوغلون في ((السفه)) حين ((تسمو معاني العظماء))، ويبقى ((العظماء)) قذى في أعين الصغار، وشجى في حلقهم.

    إنّ صغار العقول ((أمثال يزيد، ومن لفّ لفهم))، يشعرون بالضّعة كلما شاهدوا كبيراً يسمو، وعظيماً يتألق.

    من هنا فإنّهم يجنحون إلى أساليب وضيعة للغاية كي يسدلوا الستار على ((عظماء الأمة))، وهم لا يعلمون أنّ الستائر تنقلب عليهم قبل العظماء، قال تعالى: ((وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ))[49]، ولأنّ العظيم يتحول إلى قانون وسنّة من سنن الحياة التي هي قائمة على قواعد متجذّرة في عمق الحقيقة فلا يمكن للصغار نسخ العمالقة.

    وحتى لو حاول الصغار تصغير الحياة وسلخ قوانينها الأساسية، فإنّ محاولاتهم تبوء بالفشل، إنّ محاولات يزيد الرعناء ساهمت في تحذير السنن الحياتية من حيث لا يشعر، فهو أراد أن يذبح القيم في كربلاء، وإذا بها تتجذّر، وتمدّ عروقها بعيداً، فلامست الحقيقة، فتجلّت صورها واضحة في ملحمة كربلاء، فكبرت وصارت عنواناً عريضاً صار فوق الزمان والمكان، وهكذا هي كربلاء فهي تكبر إذا ناجزها الصغار، وتعلو من يحاول السطو عليها، فهي الآن أكبر مما سبق، وسوف تكبر إلى أن تأخذ حجمها الحقيقي في دولة الإمام الحجة عليه السلام.

    وثمّة لقاء حار بين نهضة كربلاء، ودولة القائم من آل محمد (صلوات الله عليهم أجمعين)، ومن يظن أنّ كربلاء تصغر فإنّه لا يفهم معنى قيام الإمام الحجة عليه السلام، ولا يستوعب ثورته المباركة، فإنّ كربلاء أعدّت لقيام الدولة العالمية بقيادة الإمام الحجة عليه السلام.

    فكربلاء تكبر كلّما امتد الزمن لأنها المقدمة الأساسية لهذه الدولة.

    بقلم: الشيخ حسن الشمري.

  6. #26
    ....
    sajaya ruh

    الثورة الحسينية اسبابها ومخططاتها




    لم يفجر الامام الحسين (ع) ثورته الكبرى أشرا، ولا بطرا ، ولا ظالما، ولا مفسدا - حسب ما يقول - وانما انطلق ليؤسس معالم الاصلاح في البلاد، ويحقق العدل الاجتماعي بين الناس، ويقضي على أسباب النكسة الاليمة التي مني بها المسلمون في ظل الحكم الاموي الذي الحق بهم الهزيمة والعار.

    لقد انطلق الامام ليصحح الاوضاع الراهنة في البلاد، ويعيد للامة ما فقدته من مقوماتها وذاتياتها، ويعيد لشراينها الحياة الكريمة التي تملك بها ارادتها وحريتها في مسيرتها النضالية لقيادة أمم العالم في ظل حكم متوازن تذاب فيه الفوارق الاجتماعية، وتقام الحياة على أسس صلبة من المحبة والاخاء، انه حكم الله خالق الكون وواهب الحياة، لا حكم معاوية الذي قاد مركبة حكومته على اماتة وعي الانسان، وشل حركاته الفكرية والاجتماعية .
    لقد فجر الامام (ع) ثورته الكبرى التي أوضح الله بها الكتاب ، وجعلها عبرة لاولي الالباب، فاضاء بها الطريق، وأوضح بها القصد ، وانار بها الفكر، فانهارت بها السدود والحواجز التي وضعها الحكم الاموي امام التطور الشامل الذي يريده الاسلام لابنائه، فلم يعد بعد الثورة أي ظل للسلبيات الرهيبة التي أقامها الحكم الاموي على مسرح الحياة الاسلامية، فقد انتقضت الامة - بعد مقتل الامام - كالمارد الجبار وهي تسخر من الحياة، وتستهزا بالموت، وتزج بابنائها في ثورات متلاحقة حتى اطاحت بالحكم الاموي، واكتسحت معالم زهوه .
    ولم يقدم الامام على الثورة إلا بعد ان انسدت امامه جميع الوسائل وانقطع كل أمل له في اصلاح الامة، وانقاذها من السلوك في المنعطفات فايقن انه لا طريق للاصلاح إلا بالتضحية الحمراء، فهي وحدها التي تتغير بها الحياة، وترتفع راية الحق عالية في الارض .
    وفيما اعتقد ان أهم ما يتطلبه القراء لامثال هذه البحوث الوقوف على أسباب الثورة الحسينية ومخططاتها، وفيما يلي ذلك .

    أسباب الثورة :
    واحاطت بالامام (ع) عدة من المسؤوليات الدينية والواجبات الاجتماعية وغيرها، فحفزته الى الثورة ودفعته الى التضحية والفداء وهذه بعضها .
    1 - المسؤولية الدينية :
    واعلن الاسلام المسؤولية الكبرى على كل مسلم عما يحدث في بلاد المسلمين من الاحداث والازمات التي تتنافي مع دينهم، وتتجافي مع مصالحهم، فانه ليس من الاسلام في شئ أن يقف المسلم موقفا يتسم بالميوعة واللامبالات أما الهزات التي تدهم الامة وتدمر مصالحها، وقد أعلن الرسول (ص) هذه المسؤولية، يقول (ص) :
    كلكم راع ، وكلكم مسؤول عن رعيته " فالمسلم مسؤول أمام الله عن رعاية مجتمعه ، والسهر على صالح بلاده، والدفاع عن أمته .
    وعلى ضوء هذه المسؤولية الكبرى ناهض الامام جور الامويين ، وناجز مخططاتهم الهادفة الى استعباد الامة واذلالها، ونهب ثرواتها ، وقد أدلى (ع) بما يحتمه الاسلام عليه من الجهاد لحكم الطاغية يزيد، امام الحر وأصحابه قال (ع):
    " يا أيها الناس :
    إن رسول الله (ص) قال :
    " من راى سلطانا جائرا مستحلا لحرم الله ناكثا لعهد الله، مخالفا لسنة رسول الله (ص ) يعمل في عباد الله بالاثم والعدوان، فلم يغير عليه بقول ولا فعل كان حقا على الله أن يدخله مدخله " .
    لقد كان الواجب الديني يحتم عليه القيام بوجه الحكم الاموي الذي استحل حرمات الله، ونكث عهوده وخالف سنة رسول الله (ص)، وقد صرح جماعة من علماء المسلمين بان الواجب الديني كان يقضي على الامام أن ينطلق في ميادين الجهاد دفاعا عن الاسلام، وفيما يلي بعضهم .
    1 - الامام محمد عبده والمع الامام محمد عبده في حديثه عن الحكومة العادلة والجائرة في الاسلام إلى خروج الامام على حكومة يزيد، ووصفه بانه كان واجبا شرعيا عليه، قال :
    " اذا وجد في الدنيا حكومة عادلة تقيم الشرع، وحكومة جائرة تعطله، وجب على كل مسلم نصر الاولى، وخذل الثانية...
    ومن هذا الباب خروج الامام الحسين (ع) سبط الرسول (ص) على امام الجور والبغي الذي ولي أمر المسلمين بالقوة والمنكر يزيد بن معاوية خذله الله، وخذل من انتصر له من الكرامية والنواصب " (1).
    2 - محمد عبد الباقي وتحدث الاستاذ محمد عبد الباقي سرور عن المسؤولية الدينية والاجتماعية اللتين تحتمان على الامام القيام بمناهضة حكم يزيد قال :
    " لو بايع الحسين يزيد الفاسق المستهتر، الذي اباح الخمر والزنا وحط بكرامة الخلافة الى مجالسة الغانيات، وعقد حلقات الشراب في مجلس الحكم، والذي البس الكلاب والقرود خلاخل من ذهب، ومئات الالوف من السلمين صرعى الجوع، والحرمان .
    لو بايع الحسين يزيد أن يكون خليفة لرسول الله (ص) على هذا الوضع لكانت فتيا من الحسين باباحة هذا للمسلمين، وكان سكوته هذا أيضا رضى، والرضا من ارتكاب المنكرات ولو بالسكوت اثم وجريمة في حكم الشريعة الاسلامية.. والحسين بوضعه الراهن في عهد يزيد هو الشخصية المسؤولة في الجزيرة العربية بل في البلاد الاسلامية كافة عن حماية التراث الاسلامي لمكانته في المسلمين، ولقرابته من رسول رب العالمين ، ولكونه بعد موت كبار المسلمين كان أعظم المسلمين في ذلك الوقت علما ورهدا وحسبا ومكانة.
    فعلى هذا الوضع أحسن بالمسؤولية تناديه وتطلبه لا يقاف المنكرات عند حدها، ولا سيما ان الذي يضع هذه المنكرات ويشجع عليها هو الجالس في مقعد رسول الله (ص) هذا أولا :
    وثانيا :
    انه (ع) جاءته المبايعات بالخلافة من جزيرة العرب ، وجاءه ثلاثون الفا من الخطابات من ثلاثين الف من العراقيين من سكان البصرة والكوفة يطلبون فيها منه الشخوص لمشاركتهم في محاربة يزيد بن معاوية، وألحوا تكرار هذه الخطابات حتى قال رئيسهم عبد الله بن الحصين الازدي :
    يا حسين سنشكوك الى الله تعالى يوم القيامة اذا لم تلب طلبنا ، وتقوم بنجدة الاسلام، وكيف والحسين ذو حمية دينية ونخوة اسلامية ، والمفاسد تترى أمام عينيه، كيف لا يقوم بتلبية النداء، وعلى هذا الوضع لبى النداء، كما تامر به الشريعة الاسلامية، وتوجه نحو العراق " (2) .
    وهذا الراي وثيق للغاية فقد شفع بالادلة الشرعية التي حملت الامام مسؤولية الجهاد والخروج على حكم طاغية زمانه .
    3 - عبد الحفيظ أبو السعود يقول الاستاذ عبد الحفيظ أبو السعود :
    " وراى الحسين أنه مطالب الان - يعني بعد هلاك معاوية - أن يعلن رفضه لهذه البيعة، وان ياخذ البيعة لنفسه من المسلمين، وهذا اقل ما يجب حفاظا لامر الله، ورفعا للظلم، وابعادا لهذه العابث يعني يزيد - عن ذلك المنصب الجليل " (3) .
    4 - الدكتور احمد محمود صبحي وممن صرح بهذه المسؤولية الدينية الدكتور احمد محمود صبحي قال :
    " ففي اقدام الحسين على بيعة يزيد انحراف عن أصل من اصول الدين من حيث أن السياسة الدينية للمسلمين لا ترى في ولاية العهد وراثة الملك إلا بدعة هرقلية دخيلة على الاسلام، ومن حيث أن اختيار شخض يزيد مع ما عرف عنه من سوء السيرة، وميله الى اللهو وشرب الخمر، ومنادمة القرود ليتولى منصب الخلافة عن رسول الله (ص) اكبر وزر يحل بالنظام السياسي للاسلام.
    يتحمل وزره كل من شارك فيه ورضى عنه، فما بالك اذا كان المقدم على ذلك هو ابن بنت رسول الله .
    كان خروج الحسين اذا أمرا يتصل بالدعوة والعقيدة اكثر مما يتصل بالسياسة والحرب " (4) .
    5 - العلائلي يقول العلائلي :
    " وهناك واجب على الخليفة اذا تجاوزه وجب على الامة اسقاطه، ووجبت على الناس الثورة عليه وهو المبالغة باحترام القانون الذي يخضع له الناس عامة، والا فاي تظاهر بخلافه يكون تلاعبا وعبثا ، ومن ثم وجب على رجل القانون أن يكون اكثر تظاهرا باحترام القانون من أي شخص آخر، واكبر مسؤولية من هذه الناحية، فاذا فسق الملك ثم جاهر بفسقه وتحدى الله ورسوله والمؤمنين لم يكن الخضوع له إلا خضوعا للفسق وخضوعا للفحشاء والمنكر، ولم يكن الاطمئنان إليه الا اطمئنانا للتلاعب والمعالنة الفاسقة .
    هذا هو المعنى التحليلي لقوله (ع) :
    " ويزيد رجل فاسق، وشارب للخمر وقاتل النفس المحرمة، معلن بالفسق " (5) .
    هذه بعض الاراء التي أدلي بها جماعة من العلماء في الزام الامام شرعا بالخروج على حكم الطاغية يزيد، وانه ليس له أن يقف موقفا سليبا أمام ما يقترفه يزيد من الظلم والجور .


    2 - مسؤولية الاجتماعية :
    وكان الامام (ع) بحكم مركزه الاجتماعي مسؤولا أمام الامة عما منيت به من الظلم والاضطهاد من قيل الامويين، ومن هو أولى بحمايتها ورد الاعتداء عنها غيره فهو سبط رسول الله (ص) وريحانته، والدين دين جده، والامة أمة جده، وهو المسؤول بالدرجة الاولى عن رعايتهما .
    لقد راى الامام أنه مسؤول عن هذه الامة، وانه لا يجدي باي حال في تغيير الاوضاع الاجتماعية التزام جانب الصمت، وعدم الوثوب في وجه الحكم الاموي الملئ بالجور والاثام، فنهض (ع) باعباء هذه المسؤولية الكبرى، وأدى رسالته بامانة واخلاص، وضحى بنفسه وأهل بيته وأصحابه ليعيد على مسرح الحياة عدالة الاسلام وحكم القران .
    3 - اقامة الحجة عليه :
    وقامت الحجة على الامام لاعلان الجهاد، ومناجزة قوى البغي والالحاد، فقد تواترت عليه الرسائل والوفود من أقوى حامية عسكرية في الاسلام، وهي الكوفة فكانت رسائل أهلها تحمله المسؤولية أمام الله إن لم يستجب لدعواتهم الملحة لانقاذهم من عسف الامويين وبغيهم ، ومن الطبيعي أنه لو لم يجيبهم لكان مسؤولا أمام الله، وأمام الامة في جميع مراحل التاريخ، وتكون الحجة قائمة عليه .
    4 - حماية الاسلام :
    ومن أوكد الاسباب التي ثار من أجلها حفيد الرسول (ص) حماية الاسلام من خطر الحكم الاموي الذي جهد على محو سطوره، وقلع جذوره واقبار قيمه، فقد أعلن يزيد وهو على دست الخلافة الاسلامية الكفر والالحاد بقوله :
    لعبت هاشم بالملك فلا خبر * جاء ولا وحي نزل
    وكشف هذا الشعر عن العقيدة الجاهلية التي كان يدين بها يزيد فهو لم يؤمن بوحي ولا كتاب، ولا جنة ولا نار، وقد راى السبط أنه ان لم يثار لحماية الدين فسوف يجهز عليه حفيد أبي سفيان ويجعله أثرا بعد عين، فثار (ع) ثورته الكبرى التي فدى بها دين الله، فكان دمه الزاكي المعطر بشذى الرسالة، هو البلسم لهذا الدين، فان من المؤكد أنه لو لا تضحيته لم يبق للاسلام اسم ولا رسم، وصار الدين دين الجاهلية ودين الدعارة والفسوق، ولذهبت سدى جميع جهود النبي (ص) وما كان ينشده للناس من خير وهدى، وقد نظر النبي (ص) من وراء الغيب واستشف مستقبل امته، فراى بعين اليقين، ما تمنى به الامة من الانحراف عن الدين، وما يصيبها من الفتن والخطوب على أيدي أغيلمة من قريش، وراى أن الذي يقوم بحماية الاسلام هو الحسين (ع ) فقال (ص) كلمته الخالدة :
    " حسين مني وأنا من حسين " فكان النبي (ص) حقا من الحسين لان تضحيته كانت وقاية للقران، وسيبقي دمه الزكي يروي شجرة الاسلام على ممر الاحقاب والاباد .
    5 - صيانة الخلافة :
    ومن المع الاسباب التي ثار من أجلها الامام الحسين (ع) تطهير الخلافة الاسلامية من أرجاس الامويين الذين نزوا عليها بغير حق.. فلم تعد الخلافة - في عهدهم كما يريدها الاسلام - وسيلة لتحقيق العدل الاجتماعي بين الناس، والقضاء على جميع أسباب التخلف والفساد في الارض .
    لقد اهتم الاسلام اهتماما بالغا بشان الخلافة باعتبارها القاعدة الصلبة لاشاعة الحق والعدل بين الناس، فاذا صلحت نعمت الامة باسرها ، واذا انحرفت عن واجباتها فان الامة تصاب بتدهور سريع في جميع مقوماتها الفكرية والاجتماعية.
    .. ومن ثم فقد عنى الاسلام في شانها أشد ما تكون العناية، فالزم من يتصدى لها بان تتوفر فيه النزعات الخيرة والصفات الشريفة من العدالة والامانة، والخبرة بما تحتاج إليه الامة في مجالاتها الاقتصادية والادارية والسياسية، وحرم على من فقد هذه الصفات أن يرشح نفسه للخلافة.. وقد تحدث (ع) في أولى رسائله الى أهل الكوفة عن الصفات التي يجب أن تتوفر فيمن يرشح نفسه الى امامة المسلمين وادارة شؤونهم قال (ع) :
    " فلعمري ما الامام إلا العامل بالكتاب، والاخذ بالقسط، والدائن بالحق، والحابس نفسه على ذات الله " (6) .
    فمن تخلى بهذه الصفات كان له الحق في تقديم نفسه لامامة المسلمين وخلافتهم، ومن لم يتصف بها فلا حق له في التصدي لهذا المركز الخطير الذي كان يشغله الرسول (ص).
    .. ان الخلافة الاسلامية ليست مجرد سلطة زمينة على الامة، وانما هي نيابة عن الرسول (ص) وامتداد ذاتي لحكومته المشرقة .
    وقد راي الامام الحسين أن مركز جده قد صار الى سكير مستهتر لا يعي الا شهواته ورغباته، فثار (ع) ليعيد للخلافة الاسلامية كيانها المشرق وماضيها الزاهر .
    6 - تحرير ارادة الامة :
    ولم تملك الامة في عهد معاوية ويزيد ارادتها واختيارها فقد كانت جئة هامدة لا وعي فيها ولا اختيار، قد كبلت بقيود ثقيلة سدت في وجهها منافذ النور والوعي، وحيل بينها وبين ارادتها .
    لقد عمل الحكم الاموي على تخدير المسلمين وشل تفكيرهم، وكانت قلوبهم مع الامام الحسين، الا انهم لا يتمكنون من متابعة قلوبهم وضمائرهم فقد استولت عليها حكومة الامويين بالقهر، فلم يملكوا من أمرهم شيئا ، فلا ارادة لهم ولا اختيار، ولا عزم ولا تصميم فاصبحوا كالانصاب لا وعي فيهم ولا حراك، قد قبعوا أذلاء " صاغرين تحت وطاة سياط الامويين وبطشهم " .
    لقد هب الامام الى ساحات الجهاد والفداء ليطعم المسلمين بروح العزة والكرامة، فكان مقتله نقطة تحول في تاريخ المسلمين وحياتهم ، فانقلبوا راسا على عقب، فتسلحوا بقوة العزم والتصميم، وتحرروا ومن جميع السلبيات التي كانت ملمة بهم، وانقلبت مفاهيم الخوف والخنوع التي كانت جاثمة عليهم الى مبادئ الثورة والنضال، فهبوا متضامنين في ثورات مكثفة، وكان شعارهم (يا لثارات الحسين) فكان هذا الشعار هو الصرخة المدوية التي دكت عروش الامويين وازالت سلطانهم .
    7 - تحرير اقتصاد الامة :
    وانهار اقتصاد الامة الذي هو شرايين حياتها الاجتماعية والفردية فقد عمد الامويين بشكل سافر الى نهب الخزينة المركزية والاستئتار بالفئ وسائر تمرات الفتوح والغنائم، فحازوا الثراء العريض، وتكدست في بيوتهم الاموال الهائلة التي حاروا في صرفها، وقد اعلن معاوية امام المسلمين ان المال مال الله، وليس مال المسلمين فهو أحق به، ويقول سعيد بن العاص :
    انما السواد بستان قريش، وقد أخذوا ينفقون الاموال على اغراضهم السياسية التي لا تمت بصلة لصالح الامة.
    أما مواد انفاقهم البارزة فهي :
    أ - شراء الضمائر والاديان، وقد تقدمت الشواهد المؤيدة لذلك عند البحث عن سياسة معاوية الاقتصادية .
    ب - الانفاق على لجان الوضع لافتعال الاخبار التي تدعم الكيان الاموي وتحط من قيمة أهل البيت، وقد المعنا الى ذلك بصورة مفصلة .
    ج - الهبات الهائلة والعطايا الوافرة للوجوه والاشراف لكم افواههم عما تقترفه السلطة من الظلم للرعية .
    د - الصرف على المجون والدعارة، فقد امتلئت بيوتهم بالمغنين والمغنيات وادوات العزف وسائر المنكرات .
    هذه بعض الموارد التي كان ينفق عليها الاموال، في حين أن الجوع قد نهش الامة وعمت فيها المجاعة، وانتشر شبح الفقر في جميع الاقطار الاسلامية سوى الشام فقد رفه عليها لانها الحصن المنيع الذي كان يحمي جور الامويين وظلمهم .
    وقد ثار الامام الحسين (ع) ليحمي اقتصاد الامة ويعيد توازن حياتها المعاشية، وقد صادر أموالا من الخراج كانت قد ارسلت لمعاوية، كما صادر اموالا اخرى ارسلت من اليمن الى خزينة دمشق في أيام يزيد ، وقد انفقها على الفقراء والمعوزين، وكان (ع) اكثر ما يعاني من الالام هو انه يرى الفقر قد أخذ بخناق المواطنين، ولم ينفق شئ من بيت المال على انعاش حياتهم .
    8 - المظالم الاجتماعية :
    وانتشرت المظالم الاجتماعية في انحاء البلاد الاسلامية، فلم يعد قطر من الاقطار إلا وهو يعج بالظلم والاضطهاد من جورهم، وكان من مظاهر ذلك الظلم ما يلي :
    1 - فقد الامن وانعدم الامن في جميع أنحاء البلاد، وساد الخوف والارهاب على جميع المواظنين، فقد أسرفت السلطة الاموية بالظلم، فجعلت تاخذ البرئ بالسقيم، والمقبل بالمدبر، وتعاقب على الظنة والتهمة، وتسوق الابراياء بغير حساب الى السجون والقبور، وكان الناس في عهد زياد يقولون :
    " انج سعد فقد هلك سعيد " ولا يوجد أحد الا وهو خائف على دمه ، وماله، فثار الامام الحسين (ع) لينقذ الناس من هذا الجور الهائل .
    2 - احتقار الامة وكان الخط السياسي الذي انتهجه الامويون العمل على اذلال الامة والاستهانة بها وكان من مظاهر ذلك الاحتقار انهم كانوا يختمون في اعناق المسلمين كما توسم الخيل علامة لاستعبادهم كما نقشوا على اكف المسلمين علامة لاسترقاقهم كما يصنع بالعلوج من الروم والحبشة (7) وقد هب الامام (ع ) في ميادين الجهاد ليفتح للمسلمين أبواب العزة والكرامة، ويحطم عنهم ذلك الكابوس المظلم الذي احال حياتهم الى ظلام قاتم لا بصيص فيه من النور .
    9 - المظالم الهائلة على الشيعة :
    وذهبت نفس الامام الحسين أسى على ما عانته الشيعة - في عهد معاوية - من ضروب المحن والبلاء، فقد أمعن معاوية في ظلمهم وارهاقهم وفتك بهم فتكا ذريعا، وراح يقول للامام الحسين :
    " يا أبا عبد الله علمت أنا قتلنا شيعة أبيك فحنطناهم وكفناهم وصلينا عليهم ودفناهم " (8) وقد بذل قصارى جهوده في تصفية الحساب معهم، وقد ذكرنا عرضا مفصلا لما عانوه في عهد معاوية وخلاصته .
    1 - اعدام اعلامهم كحجر بن عدي، وعمرو بن الحمق الخزاعي وصيفي بن فسيل وغيرهم .
    2 - صلبهم على جذوع النخل 3 - دفنهم أحياءا 4 - هدم دورهم 5 - عدم قبول شهادتهم
    6 - حرمانهم من العطاء 7 - ترويع السيدات من نسائهم 8 - اذاعة الذعر والخوف في جميع أوساطهم إلى غير ذلك من صنوف الارهاق الذي عالوه، وقد ذعر الامام الحسين (ع) مما حل بهم، فبعث بمذكرته الخطيرة لمعاوية التي سجل فيها جرائم ما ارتكبه في حق الشيعة، وقد ذكرناها في البحث عن حكومة معاوية .
    لقد كانت الاجراءات القاسية التي اتخذها الحكم الاموى ضد الشيعة من اسباب ثورته فهب لانقاذهم من واقعهم المرير، وحمايتهم من الجور والظلم .
    10 - محو ذكر اهل البيت :
    ومن ألمع الاسباب التي ثار من أجلها أبو الشهداء (ع) هو ان الحكم الاموي قد جهد على محو ذكر أهل البيت (ع) واستئصال ماثرهم ومناقبهم وقد استخذم معاوية في هذا السبيل أخبث الوسائل وهي :
    1 - افتعال الاخبار في الحط من شانهم.
    2 - استخدام أجهزة التربية والتعليم لتربية النشئ على بغضهم.
    3 - معاقبة من يذكر مناقبهم باقصى العقوبات.
    4 - سبهم على المنابر والماذن وخطب الجمعة وقد عقد الامام الحسين (ع) مؤتمرة السياسي الكبير في مكة المكرمة وأحاط المسلمين علما بالاجراءات الخطيرة التي اتخذها معاوية إلى ازالة أهل البيت عن الرصيد السلامي...
    وكان (ع) يتحرق شوقا إلى الجهاد، ويود أن الموت قد وافاه ولا يسمع سب أبيه على المنابر والماذن .
    11 - تدمير القيم الاسلامية :
    وعمد الامويون إلى تدمير القيم الاسلامية، فلم يعد لها اي ظل على واقع الحياة الاسلامية وهذه بعضها :
    أ - الوحدة الاسلامية وأشاع الامويون الفرقة والاختلاف بين المسلمين فاحيوا العصبيات القبلية، وشجعوا الهجاء بين الاسر والقبائل العربية حتى لا تقوم وحدة بين المسلمين، وقد شجع يزيد الاخطل على هجاء الانصار الذين آووا النبي (ص) وحاموا عن دينه أيام غربة الاسلام ومحنته .
    لقد كانت الظاهرة البارزة في شعر ذلك العصر هي الهجاء المقذع فقد قصر الشعراء مواهبهم الاديبة على الهجاء والتفنن في أساليب القذف والسب للاسر التي كانت تنافس قبائلهم، وقد خلى الشعر الاموي عن كل نزعة انسانية أو مقصد اجتماعي، وتفرد بظاهرة الهجاء، وقد خولف بذلك ما كان ينشده الاسلام من الوحدة الشاملة بين أبنائه .
    ب - المساواة وهدم الامويون المساواة العادلة التي أعلنها الاسلام، فقدموا العرب على الموالي واشاعوا جوا رهيبا من التوتر والتكتل السياسي بين المسلمين ، وكان من جراء ذلك أن الف الموالي مجموعة من الكتب في نقض العرب وذمهم، كما ألف العرب كتبا في نقص الموالي واحتقارهم، وعلى راس القائمة التي اثارت هذا النحو من التوتر بين المسلمين زياد بن أبيه فقد كان حاقدا على العرب، وقد عهد الى الكتاب بانتقاصهم .
    وقد خالفت هذه السياسة النكراء روح الاسلام الذي ساوى بين المسلمين في جميع الحقوق والواجبات على اختلاف قومياتهم .
    ج - الحرية ولم يعد أي مفهوم للحرية ماثلا على مسرح الحياة طيلة الحكم الاموي فقد كانت السلطة تحاسب الشعب حسابا منكرا وعسيرا على كل بادرة لا تتفق مع رغباتها، حتى لم يعد في مقدور أي أحد أن يطالب بحقوقه ، أو يتكلم ياي مصلحة للناس فقد كان حكم النطع والسيف هو السائد في ذلك العصر .
    لقد ثار أبو الاحرار لينقذ الانسان المسلم وغيره من الاضطهاد الشامل وبعيد للناس حقوقهم التي ضاعت في أيام معاوية ويزيد .
    12 - انهيار المجتمع :
    وانهار المجتمع في عصر الامويين، وتحلل من جميع القيم الاسلامية أما أهل العوامل التي أدت إلى انهياره فهي :
    1 - حرمان المجتمع من التربية الروحية فلم يحفل بها أحد من الخلفاء سوى الامام أمير المؤمنين (ع) فقد عني بها عناية بالغة إلا انه قد مني بالاحداث الرهيبة التي منعته من مواصلة مسيرته في اصلاح الناس وتقويم اخلاقهم .
    2 - امعان الحكم الاموي في افساد المجتمع وتضليله، وتغديته بكل ما هو بعيد عن واقع الاسلام وهديه .
    ان هذين العاملين - فيما نحسب - من أهم العوامل التي أدت على الى انهيار ذلك المجتمع.. اما مظاهر ذلك التحلل والانهيار فهي :
    1 - نقض العهود ولم يتاثم أغلب أبناء ذلك المجتمع من نقض العهود والمواثيق، فقد كان عدم الوفاء يها أمرا عاديا، ومتسالما عليه، وقد شجعهم على ذلك ( كسرى العرب)، فقد أعلن في خطابه بالنخيلة ان كل ما شرطه على نفسه للامام الحسن لا يفي به، وعمد الى نقض جيمع الشروط التي أعطاها له.. وكانت هذه الظاهرة من ابرز ذاتيات الكوفيين، فقد اعطوا للامام الحسين أعظم العهود والمراثيق على مناصرته، ومناجزة عدوه إلا انهم خاسوا ما عاهدوا عليه الله فخذلوه وقتلوه .
    2 - عدم التحرج من الكذب ومن الامراض التي أصيب بها ذلك المجتمع عدم التحرج من الكذب وقد مني الكوفيون بذلك بصورة خاصة، فانهم لما أحاطوا بالامام الحسين (ع) - يوم الطف - لقتله، وجه (ع) سؤالا الى قادة الفرق الذين كاتبوه بالقدوم اليهم فقال :
    " يا شبث بن ربعي، ويا حجار بن ابجر، ويا قيس بن الاشعث ، ويا زيد بن الحرث، ألم تكتبوا إلي أن قد اينعت الثمار، واخضر الجناب وانما تقدم على جند لك مجندة.. " .
    ولم تخجل تلك النفوس القدرة من تعمد الكذب فاجابوه مجمعين :
    " لم نفعل " وبهر الامام فاندفع يقول :
    " سبحان الله ! ! بلى والله لقد فعلتم.. " .
    وقد جروا الى المجتمع بما اقترفوه من الاثام كثيرا من الويلات والخطوب، وتسلح بهم أئمة الظلم والجور الى اضطهاد المسلمين وارغامهم على ما يكرهون .
    3 - عرض الضمائر للبيع وقد كان من أحط ما وصل إليه ذلك المجتمع من الانحراف والزيغ عرض الضمائر والاديان لبيعها على السلطة جهارا، وقد المعنا الى ذلك بصورة مفصلة عند البحث عن عهد معاوية .
    4 - الاقبال على اللهو وأقبل المجتمع بنهم على اللهو والدعارة، وقد شجع الامويون بصورة مباشرة حياة المجون لزعزعة العقيدة الدينية من النفوس، وصرف الناس عما ينشده الاسلام من التوازن في سلوك الفرد .
    هذه بعض الامراض التي المت بالمجتمع الاسلامي، وقد أدت إلى تسيبه، وانهيار قيمه وقد ثار الامام الحسين (ع) ليقضى على التذبذب والانحراف الذي منيت به الامة .
    13 - الدفاع عن حقوقه :
    وانبرى الامام الحسين (ع) للجهاد دفاعا عن حقوقه التي نهبها الامويون واغتصبوها، وأهمها - فيما نحسب - ما يلي :
    1 - الخلافة وآمن الامام الحسين (ع) - كابيه - أن العترة الطاهرة أولى بمقام رسول الله (ص) وأحق بمركزه من غيرهم، لانهم أهل بيت النبوة ، ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة، بهم فتح الله، وبهم ختم - على حد تعبيره - وقد طبع على هذا الشعور وهو في غضون الصبا، فقد انطلق الى عمر وكان على منبر رسول الله (ص) فصاح به .
    " انزل عن منبر أبي، واذهب الى منبر أبيك " .
    ولم ينفرد الامام الحسين بهذا الشعور وانما كان سائدا عند أئمة أهل البيت عليهم السلام فهم يرون أن الخلافة من حقوقهم لانهم الصق الناس برسول الله (ص) واكثرهم وعيا لاهدافه.. وهناك شئ آخر جدير بالاهتمام وهو ان الحسين (ع) كان هو الخليفة الشرعي بمقتضى معاهدة الصلح التي تم الاتفاق عليها، فقد جاء في بنودها ليس لمعاوية أن يعهد بالامر الى أحد من بعده والامر بعده للحسن، فان حدث به حدث فالامر للحسين " (9) وعلى هذا، فلم تكن بيعة يزيد شرعية، فلم يخرج الامام الحسين (ع) على امام من أئمة المسلمين - كما يذهب لذلك بعض ذوي النزعات الاموية وانما خرج (ع) على ظالم مغتصب لحقه .
    2 - الخمس والخمس حق مفروض لاهل البيت (ع) نص عليه القران وتواترت به السنة، ولكن الحكومات السابقة تناهيته فلم تؤد لهم منه شيئا لشل حركة المقاومة عند العلويين، وقد أشار الامام الحسين (ع) الى ذلك في حديثه مع أبي هرة الذي نهاه عن الخروج على بني أمية، فقال (ع) له :
    " ويحك أبا هرة ان بني أمية أخذوا مالي فصبرت " .
    واكبر الظن ان المال الذي أخذته بنو أمية منه هو الخمس، وقد أعلن ذلك دعبل الخزاعي في رائعته التي انشدها أمام الرضا (ع) في خراسان بقوله :
    أرى فيئهم في غيرهم متقسما * وايديهم من فيئهم صفرات
    والتاع الامام الرضا (ع) فجعل يقلب يديه وهو يقول :
    " انها - والله - لصفرات " وقد أقض مضاجع العلويين منعهم من الخمس باعتباره أحد المصادر الرئيسية لحياتهم الاقتصادية .
    ولعل الامام الحسين قد استهدف بنهضته ارجاع هذا الحق السليب لاهل البيت (ع) .
    14 - الامر بالمعروف :
    ومن أوكد الاسياب التي ثار من أجلها أبي الضيم (ع) اقامة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر فانهما من مقومات هذا الدين، والامام بالدرجة الاولى مسؤول عنهما.
    وقد أدلى (ع) بذلك في وصيته لاخيه ابن الحنفية التي اعلن فيها عن اسباب خروجه على يزيد، فقال (ع ) " اني لم اخرج أشرا، ولا بطرا، ولا ظالما، ولا مفسدا، وانما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي أريد أن أمر بالمعروف وأنهى عن المنكر " .
    لقد انطلق (ع) الى ميادين الجهاد ليقيم هذا الصرح الشامخ الذي بنيت عليه الحياة الكريمة في الاسلام، وقد انهارت دعائمة أيام الحكم الاموي فقد أصبح المعروف في عهدهم منكرا، والمنكر معروفا، وقد انكر عليهم الامام في كثير من المواقف، والتي كان منها خطابه الرائع امام المهاجرين والانصار، فقد شجب فيه تخاذلهم عن نصرة الحق و دحض الباطل، وايثارهم للعافية، وقد ذكرناه في الحلقة الاولى من هذا الكتاب .
    ومما قاله (ع) في هذا المجال امام اصحابه واهل بيته يوم الطف :
    " الا ترون الى الحق لا يعمل به، وإلى الباطل لا يتناهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء ربه " لقد آثر الموت على الحياة، لانه يرى الحق قد تلاشى والباطل قد استشرى .
    15 - اماتة البدع :
    وعمد الحكم الاموي الى نشر البدع بين المسلمين، التي لم يقصد منها إلا محق الاسلام، والحاق الهزيمة به، وقد اشار الامام (ع) إلى ذلك في رسالته بعثها لاهل البصرة يقول (ع) :
    " فان السنة قد اميتت والبدعة قد احييت " (10) .
    لقد ثار (ع) ليقضي على البدع الجاهلية التي تبناها الامويون ، ويحيي سنة جده التي اماتوها، فكانت نهضته الخالدة من اجل اماته الجاهلية ونشر راية الاسلام .
    16 - العهد النبوي :
    واستشف النبي (ص) من وراء الغيب ما يمنى به الاسلام من الاخطار الهائلة على أيدي الامويين، وانه لا يمكن باي حال تجديد رسالته وتخليد مبادثه إلا بتضحية ولده الامام الحسين (ع) فانه هو الذي يكون الدرع الواقي لصيانة الاسلام فعهد إليه بالتضحية والفداء، وقد أدلى الحسين بذلك حينما عدله المشفقون عليه من الخروج الى العراق فقال (ع) لهم :
    " أمرني رسول الله (ص) بامر وأنا ماض إليه.. " .
    ويقول المؤرخون :
    ان النبي (ص) كان قد نعى الحسين الى المسلمين وإحاطهم علما بشهادتهم وما يعانيه من أهوال المصائب، وكان - باستمرار - يتفجع عليه ويلعن قاتله، وكذلك أخير الامام أمير المؤمنين (ع) بشهادته وما يجرى عليه، وقد ذكرنا في الحلقة الاولى من هذا الكتاب الاخبار المتواترة بذلك.. وكان الامام الحسين (ع) على علم وثيق بما يجرى عليه فقد سمع ذلك من جده وأبيه وقد أيقن بالشهادة، ولم يكن له أي أمل في الحياة فمشى إلى الموت بعزم وتصميم امتثالا لامر جده الذي عهد إليه بذلك.
    17 - العزة والكرامة :
    ومن أوثق الاسباب التي ثار من أجلها ابو الاحرار هو العزة والكرامة ققد أراد الامويون ارغامه على الذل، والخنوع، فابي إلا أن يعيش عزيرا تحت ظلال السيوف والرماح، وقد أعلن سلام الله عليه ذلك يوم الطف بقوله :
    " الا وان الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة ، وهيهات منا الذلة يابى الله لنا ذلك ورسوله، ونفوس أبية، وانوف حمية من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام.. " .
    وقال (ع) :
    " لا أرى الموت الا سعادة والحياة مع الظالمين الا برما.. " .
    لقد عائق الموت بثغر باسم في سبيل ابائه وعزته، وضحى بكل شئ من أجل حريته وكرامته .
    18 - غدر الامويين وفتكهم :
    وايقن الامام الحسين (ع) ان الامويين لا يتركونه، ولا تكف أيديهم عن الغدر والفتك به حتى لو سالمهم وبايعهم، وذلك لما يلي :
    1 - ان الامام كان ألمع شخصية في العالم الاسلامي، وقد عقد له المسلمون في دخائل نفوسهم خالص الود والولاء لانه حفيد نبيهم وسيد شباب أهل الجنة، ومن الطبيعي انه لا يروق للامويين وجود شخصية تتمتع بنفوذ قوي :
    ومكانة مرموقة في جميع الاوساط فانها تشكل خطرا على سلطانهم وملكهم .
    2 - ان الامويين كانوا حاقدين على النبي (ص) لانه وترهم في واقعة بدر، وألحق بهم الهزيمة والعار، وكان يزيد يترقب الفرص للانتقام من أهل البيت النبي (ص) لياخذ ثاراث بدر منهم، ويقول الرواة إنه كان يقول :
    لست من خندف إن لم انتقم * من بني احمد ما كان فعل
    ولما استوفى ثاره وروى احقاده بابادتهم أخذ يترنهم ويقول :
    قد قتلنا القرم من ساداتهم * وعدلناه ببدر فاعتدل
    3 - ان الامويين قد عرفوا بالغدر ونقض العهود، فقد صالح الحسن معاوية، وسلم إليه الخلافة ومع ذلك فقد غدر معاوية به فدس إليه سما فقتله، واعطوا الامان لمسلم بن عقيل فخانوا به.. وقد ذكرنا في البحوث السابقة مجموعة من الشخصيات التي اغتالها معاوية خشية منهم .
    وقد اعلن الامام الحسين (ع) ان بني أمية لا يتركونه يقول (ع ) لاخيه محمد بن الحنفية :
    " لو دخلت في حجر هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقتلوني " وقال (ع) لجعفر بن سليمان الضبعي :
    " والله لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة - يعني قلبه الشريف - من جوفي " .
    واختار (ع) أن يعلن الحرب ويموت ميتة كريمة تهز عروشهم وتقضي على جبروتهم وطغيانهم .
    هذه بعض الاسباب التي حفزت أبا الاحرار إلى الثورة على حكم يزيد.
    راي رخيص :
    ووصف جماعة من المتعصبين لبني أمية خروج الامام على يزيد بانه كان من اجل الملك والظفر بخيرات البلاد، وهذا الراي ينم عن حقدهم على الامام بما احرزه من الانتصارات الرائعة في نهضته المباركة التي لم يظفر بمثل معطياتها أي مصلح اجتماعي في الارض، وقد يكون لبعضهم العذر لجهلهم بواقع النهضة الحسينية، وعدم الوقوف على اسبابها، لقد كان الامام على يقين باخفاق ثورته في الميادين العسكرية، لان خصمه كان يدعمه جند مكثف أولو قوة واولو باس شديد، وهو لم تكن عنده أية قوة عسكرية ليحصل على الملك، ولو كان الملك غايته - كما يقولون - لعاد إلى الحجاز او مكان آخر حينما بلغه مقتل سفيره مسلم بن عقيل، وانقلاب الكوفة عليه، ويعخمل حينئذ من جديد على ضمان غايته، نجاح مهمته لقد كان الامام على علم بان الاوضاع السائدة كلها كانت في صالح بني امية وليس منها مما يدعمه او يعود لصالحه، يقول ابن خلدون :
    " ان هزيمة الحسين كانت امرا محتما لان الحسين لم تكن له الشوكة التي تمكنه من هزيمة الامويين لان عصبية مضر في قريش، وعصبية قريش في عبد مناف وعصبية عبد مناف في بني امية، فعرف ذلك لهم قريش وسائر الناس لا ينكرونه " (11).
    لقد كانت ثورة الامام من اجل غاية لا يفكر بها اولئك الذين فقدوا وعيهم، واختيارهم فقد كان خروجه على حكم يزيد من اجل حماية المثل الاسلامية والقيم الكريمة من الامويين الذين حملوا معول الهدم..
    يقول بعض الكتاب المعاصرين .
    " ويحق لنا أن نسال ما ذا كان هدف الحسين عليه السلام، وماذا كانت القضية التي يعمل من أجلها ؟ أما لو كان هدفه شخصيا يتمثل في رغبته في اسقاط يزيد ليتولى هو بنفسه الخلافة التي كان يطمع إليها، ما وجدنا فيه هذا الاصرار على التقدم نحو الكوفة رغم وضوح تفرق الناس من حوله، واستسلامهم لابن زياد، وحملهم السلاح في اعداد كثيرة لمواجهته والقضاء عليه .
    ان أقصر الناس نظرا كان يدرك ان مصيره لن يختلف عما آل إليه فعله، ولو كان الحسين بهذه المكانة من قصر النظر لعاد إلى مكة ليعمل من جديد للوصول إلى منصب الخلافة.. ولو كان هدفه في أول الامر الوصول الى منصب الخلافة ثم لما بلغه مصرع ابن عمه قررموا صلة السفر للثار من قاتليه - كما يزعم بعض الباحثين - استجابة لقضية اهله واقاربه، لو كان هذا هدفه لادرك ان جماعته التي خرجت معه للثار وهي لا تزيد على التسعين رجالا ونساءا واطفالا لن تصل إلى شئ من ذلك من دون ان يقضى على افرادها جميعا، وبغير ان يضحي هو بنفسه ضحية رخيصة في ميدان الثار.
    ومن ثم يكون من واجبه للثار ان يرجع ليعيد تجميع صفوف انصاره واقربائه، ويتقدم في الجمع العظيم من الغاصبين والموتورين .
    فالقضية اذا ليست في الجمع ثار والهدف ليس هدفا شخصيا، وانما الامر أمر الامة، والقضية كانت للحق، والاقدام اقدام الفدائي الذي أراد أن يضرب المثل بنفسه في البذل والتضحية، ولم يكن اصرار الحسين على التقدم نحو الكوفة بعد ما علم من تخاذل أهلها ونكوصهم عن الجهاد إلا ليجعل من استشهاده علما تلتف حوله القلة التي كانت لا تزال تؤمن بالمثل وتلتمس في القادة من ينير لها طريق الجد في الكفاح.. وتحريكا لضمائر المتخاذلين القاعدين عن صيانة حقوقهم ورعاية صوالحهم" .
    والم هذا القول بالواقع المشرق الذي ناضل من أجله الامام الحسين فهو لم يستهدف أي مصلحة ذاتية، وانما استهدف مصلحة الامة وصيانتها من الامويين .

    تخطيط الثورة :
    ودرس الامام الحسين (ع) أبعاد الثورة بعمق وشمول، وخطط أساليبها بوعي وايمان، فراى أن يزج بجميع ثقله في المعركة، ويضحي بكل شئ لانقاذ الامة من محنتها في ظل ذلك الحكم الاسود الذي تنكر لجميع متطلبات الامة.. وقد أدرك المستشرق الالماني ماريين تخطيط الامام الحسين لثورته، فاعتبر أن الحسين قد توخى النصر منذ اللحظة الاولى ، وعلم النصر فيه، فحركة الحسين في خروجه على يزيد - كما يقول - انما كانت عزمة قلب كبير عز عليه الاذعان، وعز عليه النصر العاجل ، فخرج باهله وذويه ذلك الخروج الذي يبلغ به النصر الاجل بعد موته ، ويحيي به قضية مخذولة ليس لها بغير ذلك حياة .
    لقد أيقن ابو الشهداء (ع) ان القضية الاسلامية لا يمكن أن تنتصر إلا بفخامة ما يقدمه من التضحيات فصمم بعزم وايمان على تقديم أروع التضحيات وهذه بعضها :
    1 - التضحية بنفسه :
    واعلن الامام (ع) عن عزمه على التضحية بنفسه، فاذاع ذلك في مكة فاخبر المسلمين ان أوصاله سوف تتقطع بين النواويس وكربلا، وكان في أثناء مسيرته الى العراق يتحدث عن مصرعه، ويشابه بينه وبين أخيه يحيى بن زكريا وان راسه الشريف سوف يرفع إلى بغي من بغايا بني أمية كما رفع راس يحيى إلى بغي من بغايا بني اسرائيل .
    لقد صمم على الموت واستهان بالحياة من أجل أن ترتفع راية الحق وتعلو كلمة الله في الارض وبقي صامدا على عزمه الجبار فلم يرتهب حينما أحاطت به الجيوش الهائلة وهي تبيد أهل بيته وأصحابه في مجزرة رهيبة اهتز من هولها الضمير الانساني، وقد كان في تلك المحنة الحازبة من أربط الناس جاشا، وأمضاهم جنانا، فلم ير قلبه ولا بعده شبيها له في شدة باسه وقوة عزيمته، كما لا يعرف التاريخ في جميع مراحله تضحية أبلغ أثرا في حياة الناس من تضحيته عليه السلام فقد بقيت صرخة مدوية في وجوه الظالمين والمتسبدين .
    2 - التضحية باهل بيته :
    وأقدم أبو الشهداء (ع) على أعظم تضحية لم يقدمها أي مصلح اجتماعي في الارض، فقد قدم أبناؤه وأهل بيته وأصحابه فداءا لما يرتايه ضميره من تعميم العدل واشاعة الحق والخير بين الناس .
    وقد خطط هذه التضحية، وآمن بانها جزء من رسالته الكبرى ، وقد أذاع ذلك وهو في يثرب حينما خفت إليه السيدة أم سلمة زوج النبي تعذله عن الخروج، فاخبرها عن قتله وقتل أطفاله.. وقد مضى إلى ساحات الجهاد وهو متسلح بهذا الايمان، فكان يشاهد الصفوة من أصحابه الذين هم من أنبل من عرفتهم الانسانية في ولائهم للحق، وثم يتسابقون إلى المنية بين يديه، ويرى الكواكب من أهل بيته وأبنائه، وهم في غضارة العمر وريعان الشباب، وقد تناهبت أشلاءهم السيوف والرماح ، فكان يامرهم بالثبات والخلود إلى الصبر قائلا :
    " صبرا يا بني عمومني، صبرايا أهل بيتي لا رايتم هوانا بعد هذا اليوم أبدا ! ! " .
    واهتزت الدنيا من هول هذه التضحية التي تمثل شرف العقيدة، وسمو القصد وعظمته المبادئ التي ناضل من أجلها، وهي - من دون شك - ستبقى قائمة على ممر القرون والاجيال، تضئ للناس الطريق، وتمدهم باروع الدروس عن التضحية في سبيل الحق والواجب .
    3 - التضحية بامواله :
    وضحى أبي الضيم بجميع ما يملك فداءا للقران، ووقاية لدين الله ، وقد هجمت - بعد مقتله - الوحوش الكاسرة من جيوش الامويين على مخيمه فتناهبوا ثقله ومتاعه حتى لم يتركوا ملحفة او ازارا على مخدرات الرسالة الا نهبوه، ومثلوا بذلك خسة الانسان حينما يفقد ذاتياته ، ويمسخ ضميره .
    4 - حمل عقائل النبوة :
    وكان من اروع ما خططه الامام العظيم (ع) في ثورته الكبرى حمله لعقائل النبوة ومخدرات الرسالة الى كربلاء، وهو يعلم ما سيجري عليهن من النكبات والخطوب، وقد اعلن ذلك حينما عذله ابن عباس عن حملهن معه الى العراق، فقال له :
    " قد شاء الله ان يراهن سبايا.. " .
    لقد اراد (ع) بذلك ان يستكمل اداء رسالته الخالدة في تحرير الامة وانقاذها من الاستبعاد الاموي.
    وقد قمن تلك السيدات بدور مشرق في اكمال نهضة أبي الشهداء (ع) فايقظن المجتمع بعد سباته ، وأسقطن هيبة الحكم الاموي، وفتحن باب الثورة عليه، ولولا هن لم يتمكن أحد أن يفوه بكلمة واحدة أمام ذلك الطغيان الفاجر، وقد أدرك ذلك كل من تامل في نهضة الامام ودرس ابعادها " وقد ألمع إليها بعض العلماء والكتاب، وفيما يلي بعضهم :
    1 - الامام كاشف الغطاء وأكد الامام الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء رحمه الله في كثير من مؤلفاته أن الغاية من خروج الامام بعائلته الى كربلا اكمالا لنهضته وبلوغا إلى هدفه في تحطيم دولة الامويين يقول :
    " وهل تشك وترتاب في أن الحسين (ع) لو قتل هي وولده، ولم يتعقبه قيام تلك الحرائر في تلك المقامات بتلك التحديات لذهب قتله جبارا، ولم يطلب به أحد ثارا ولضاع دمه هدرا، فكان الحسين يعلم أن هذا علم لابد منه، وأنه لا يقوم به إلا تلك العقائل فوجب عليه حتما أن يحملهن معه لا لاجل المظلومية بسببهن فقط، بل لنظر سياسي وفكر عميق، وهو تكميل الغرض، وبلوغ الغاية من قلب الدولة على يزيد، والمبادرة إلى القضاء عليها قبل أن تقضي على الاسلام وتعود الناس الى جاهليتها الاولى.. " (12) .
    2 - أحمد فهي يقول الاستاذ السيد أحمد فهمي :
    " وقد أدرك الحسين أنه مقتول إذ هو يعلم علم اليقين قبح طوية يزيد، واسفاف نحيزته، وسوء سريرته فيزيد بعد قتل الحسين ستمتد يده الى أن يؤذي النبي (ص) في سلالته من قتل الاطفال الابرياء، وانتهاك حرمة النساء، وحملهن ومن بقي من الاطفال من قفرة الى قفرة ومن بلد الى بلد، فيثير مراى اولئك حفيظة المسلمين، فليس ثمة اشنع، ولا أفظع من التشفي والانتقام من النساء والاطفال بعد قتل الشباب والرجال فهو بخروجه بتلك الحالة أراد أن يثار من يزيد في خلافته، ويقتله في كرامته، وحقا لقد وقع ما توقعه، فكان لما فعله يزيد وعصبته من فظيع الاثر في نفوس المسلمين، وزاد في اضعانهم ما عرضوا به سلالة النبوة من هتك خدر النساء، وهن اللاتي ما عرفن إلا بالصيانة والطهر والعز والمنعة، مما اطلق السنة الشعراء بالهجاء والذم ، ونفر أكثرر المسلمين من خلافة الامويين، واسخط عليهم قلوب المؤمنين ، فقد قتله الحسين أشد من قتله إياه " (13) .
    3 - أحمد محمود صبحي يقول الدكتور احمد محمود صبحي :
    " ثم رفض - يعني الحسين - إلا أن يصحب أهله ليشهد الناس على ما يقترفه اعداؤه بما لا يبرره دين ولاوزاع من انسانية، فلا تضيع قضيته مع دمه المراق في الصحراء فيقترى عليه أشد الافتراء حين يعدم الشاهد العادل على كل ما جرى بينه وبين أعدائه، تقول الدكتورة بنت الشاطئ :
    افسدت زينت أخت الحسين على ابن زياد وبني أمية لذة النصر، وسكبت قطرات من السم الزعاف في كؤوس الظافرين وان كل الاحداث السياسية التي ترتبت بعد ذلك من خروج المختار وثورة ابن الزبير وسقوط الدولة الاموية وقيام الدولة العباسية ثم تاصل مذهب الشيعة انما كانت زينب هي باعثة ذلك ومثيرته (14) .
    أريد أن أقول ما ذا يكون الحال لو قتل الحسين ومن معه جميعا من الرجال الا أن يسجل التاريخ هذه الحادثة الخطيرة من وجهة نظر أعدائه فيضيع كل اثر لقضيته مع دمه المسفوك في الصحراء.. " (15) .
    هذه بعض الاراء التي تدعم ما ذكرناه من أن خروج الحسين (ع) بعائلته لم يكن الغرض من إلا بلورة الراي العام، وايضاح المقاصد الرفيعة التي ثار من أجلها ومن أهمها القضاء على دولة الامويين التي كانت تشكل خطرا مباشرا على العقيدة الاسلامية وهناك راي آخر أدلى به العلامة المغفور له الشيخ عبد الواحد المظفر، وهو ان الحسين انما خرج بعائلته خوفا عليها من اعتقال الامويين وزجها في سجونهم قال :
    " الحسين لو أبقى النساء في المدينة لوضعت السلطة الاموية عليها الحجر، لا بل اعتقلتها علنا وزجتها في ظلمات السجون، ولابد له حينئذ من أحد أمرين خطيرين كل منهما يشل أعضاء نهضته المقدسة ! اما الاستسلام لاعدائه واعطاء صففته لهم طائعا ليستنفذ العائلة المصونة وهذا خلاف الاصلاح الذي ينشده، وفرض على نفسه القيام به مهما كلفه الامر من الاخطار، أو يمضي في سبيل احياء دعوته، ويترك المخدرات اللواتي ضرب عليهن الوحي سترا من العظمة والاجلال، وهذا مالا تطيق احتماله نفس الحسين الغيور ولا يرادع امية رادع من الحياء، ولا يزجرها زاجر من الاسلام .
    ان امية لا يهمها اقتراف الشائن في بلوغ مقاصدها، وادراك غاياتها فتتوصل الى غرضها ولو بارتكاب أقبح المنكرات الدينية والعقلية .
    ألم يطرق سمعك سجن الامويين لزوجة عمرو بن الحمق الخزاعي ، وزوجة عبيد الله بن الحر الجعفي واخيرا زوجة الكميت الاسدي " (16).
    وعلى أي حال فقد حطم الامام بخروجه لعائلته جميع مخططات السياسة الاموية ونسف جميع ما أقامه معاوية من معالم الظلم، فقد قمن عقائل الوحي بدور فعال ببث الوعي الاجتماعي، وتعريف المجتمع بواقع الامويين وتجريدهم من الاطار الديني، ولولاهن لاندرست معالم ثورة الحسين، وذهبت ادراج الرياح .
    إن من ألمع الاسباب في استمرار خلود ماساة الامام الحسين (ع ) واستمرار فعالياتها في بث الاصلاح الاجتماعي على امتداد التاريخ هو حمل ودائع الرسالة وعقائل الوحي مع الامام فقد قمن بدور مشرق ببلورة الراي العام، فحملن راية الايمان التي حملها الامام العظيم، ونشرن مبادءه العليا التي استشهد من أجلها، فقد انبرت حفيدة الرسول (ص) وشقيقة الحسين السيدة زينب بنت امير المؤمنين (ع) الى ساحات الجهاد، وهي تدك حصون الظالمين، وتدمر جميع ما احرزوه من الانتصارات في قتل اخيها، وتلحق بهم الهزيمة والعار، وتملا بيوتهم ماساة وحزنا .
    لقد اقبلت قائدة المسيرة الحسينية عقيلة الوحي زينب (ع) الى ساحة المعركة وهي تشق صفوف الجيش تفتش عن جثمان اخيها الامام العظيم فلما وقفت عليه شخصت لها ابصار الجيش، واستحال الى سمع فماذا تقول أمام هذه الخطوب المذهلة التي تواكبت عليها ؟ انها وقفت عليها غير مدهوشة لم تذهلها الرزايا التي تميد منها الجبال، فشخصت يبصرها الى السماء ؟ وهي تقول بحماسة الايمان وحرارة العقيدة قائلة :
    " اللهم تقبل منا هذا القربان " .
    واطلقت بذلك أول شرارة للثورة على الحكم الاموي بعد أخيها، وود الجيش أن تسبخ به الارض فقد استبان له عظم ما اقترفه من الاثم وانه قد أباد عناصر الاسلام، ومراكز الوعي والايمان .
    ولما اقتربت سبايا اهل البيت (ع) الى الكوفة خرجت الجماهير الحاشدة لاستقبال السباسا فخطبت فيهم عقيلة الوحي خطابا مثيرا ومذهلا واذا بالناس حيارى لا يعون ولا يدرون قد استحالت بيوتهم إلى ماتم وهم يندبون حظهم التعيس ويبكون على ما اقترفوه من الجرم، وحينما انتهت الى دار الامارة استقبلها الطاغية متشفيا باحط واخس ما يكون التشفي قائلا :
    " كيف رايت صنع الله باخيك ؟ " وانطلقت عقيلة بني هاشم ببسالة وصمود فاجابته بكلمات النصر والظفر قائلة :
    " ما رايت إلا جميلا هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا الى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاج وتخاصم فانظر لمن الفلج يومئذ ثكلتك أمك يابن مرجانة " .
    واخزت هذه الكلمات ابن مرجانه فكانت اشق عليه من ضرب السيوف وطعن الرماح، ولما انتهت إلى الشام هزت العرش الاموي بخطابها المثير الرائع، وحققت بذلك من النصر ما لم تحققه الجيوش...
    لقد كان حمل الامام الحسين لعائلته قائما على أساس من الوعي العميق الذي احرز به الفتح والنصر .
    وبهذا ينتهي بنا الحديث عن بعض اسباب الثورة الحسينية ومخططاتها .

    المصدر / حياة الإمام الحسين بن علي (عليهما السلام) / الجزء الثاني / تأليف باقر شريف القرشي.


  7. #27
    ....
    sajaya ruh

    الإمام الحسين(عليه السلام)في المنظور الغربي


    شهد بالإمام الحسين(عليه السلام) العظماء من فلاسفة الغرب، وإليك ماذكره المسيو ماربين في كتابه (السياسة الاسلامية) بعين لفظ المعرب، قال من جملة كلام طويل:

    لا يشك صاحب الوجدان إذا دقّق النظر في أوضاع ذلك العصر، وكيفية نجاح بني أمية في مقاصدهم واستيلائهم على جميع طبقات الناس وتزلزل المسلمين، أنّ الحسين قد أحيا بقتله دين جدّه وقوانين الاسلام، وإن لم تقع تلك الواقعة ولم تظهر تلك الحسيّات الصادقة بين المسلمين لاجل قتل الحسين، لم يكن الاسلام على ماهو عليه الان قطعاً، بل كان من الممكن ضياع رسومه وقوانينه، حيث كان يومئذ حديث العهد.

    عزم الحسين إنجاح هذا المقصد وإعلان الثورة ضدّ بني أمية من يوم توفي والده، فلما قام يزيد مقام معاوية خرج الحسين من المدينة، وكان يظهر مقصده العالي ويبث روح الثورة في المراكز المهمة الاسلامية كمكة والعراق وأينما حلّ، فازداد به نفرة قلوب المسلمين التي هي مقدمة الثورة من بني أمية، ولم يكن يجهل يزيد مقاصد الحسين، وكان يعلم أنّ الثورة إذا أعلنت في جهة والحسين قائدها مع تنفر المسلمين عموماً من حكومة بني أمية وميل القلوب وتوجه الانظار إلى الحسين، عمّت جميع البلاد، وفي ذلك زوال ملكهم وسلطانهم، فعزم يزيد قبل كلّ شيء من يوم بويع على قتل الحسين.

    ولقد كان هذا العزم أعظم خطأ سياسي صدر من بني أمية، الذي جعلهم نسياً منسياً، ولم يبق منهم أثر ولا خبر.

    وأعظم الادلّة على أنّ الحسين أقدم على قتل نفسه، ولم تكن في نظره سلطنة ولا رئاسة، هو: أنّه مضافاً إلى ما كان عليه من العلم والسياسة والتجربة التي وقف عليه زمن أبيه وأخيه في قتال بني أمية، كان يعلم أنه مع عدم تهيئة الاسباب له واقتدار يزيد لا يمكنه المقاومة والغلبة، وكان يقول من يوم توفي والده إنه يقتل، وأعلن يوم خروجه من المدينة أنه يمضي إلى القتل، وأظهر ذلك لاصحابه والذين اتبعوه من باب إتمام الحجة، حتّى يتفرق الذين التفوا حوله طمعاً بالدنيا، وطالما كان يقول: خير لي مصرع أنا ملاقيه.

    ولو لم يكن قصده ذلك ولم يكن عالماً عامداً، لَجَمَعَ الجنود ولسعى في تكثير أصحابه وزيادة استعداده، لا أن يفرق الذين كانوا معه.
    ولكن لمّا لم يكن له قصد إلاّ القتل، مقدمة لذلك المقصد العالي وإعلان الثورة المقدسة ضد يزيد، رأى أنّ خير الوسائل إلى ذلك الوحدة والمظلومية، فإن أثر هكذا مصائب أشدّ وأكثر في القلوب.


    من الظاهر أنّ الحسين مع ما كانت له من المحبوبية في قلوب المسلمين في ذلك الزمان، لو كان يطلب قوة واستعداداً لامكنه أن يخرج إلى حرب يزيد جيشاً جراراً، ولكنه لو وضع ذلك لكان قتله في سبيل طلب السلطنة والامارة، ولم يفز بالمظلومية التي انتجت تلك الثورة العظيمة، هذا هو الذي سبب أن لا يبقي معه أحداً إلاّ الذين لا يمكن انفكاكهم عنه، كأولاده وإخوانه وبني إخوته وبني أعمامه وجماعة من خواص أصحابه، حتى أنّه أمر هؤلاء أيضاً بمفارقته، ولكنهم أبوا عليه ذلك، وهؤلاء أيضاً كانوا من المعروفين بين المسلمين بجلالة القدر وعظم المنزلة، وقتلهم معه مما يزيد في عظم المصيبة وأثر الواقعة.

    نعم، إن الحسين بمبلغ علمه وحسن سياسته بذل كمال جهده في إفشاء ظلم بني أمية، واظهار عداوتهم لبني هاشم، وسلك في ذلك كل طريق، لما كان يعلم من عداوة بني أمية له ولبني هاشم، ويعرف أنهم بعد قتله يأسرون عياله وأطفاله، وذلك يؤيد مقصده، ويكون له أثر عظيم في قلوب المسلمين، سيما العرب، كما وقع ذلك حملهم معه وجاء بهم من المدينة.

    نعم، إن ظلم بني أمية وقساوة قلوبهم في معاملاتهم مع حرم محمد وصباياه أثّر في قلوب المسلمين تأثيراً عظيماً لا ينقص عن أثر قتله وأصحابه، ولقد أظهر في فعله هذا عقيدة بني أمية في الاسلام وسلوكهم مع المسلمين، سيّما ذراري نبيهم.

    لهذا كان الحسين يقول في جواب أصحابه والذين كانوا يمنعونه عن هذا السفر: إني أمضي الى القتل.

    ولما كانت أفكار المانعين محدودة وأنظارهم قاصرة لا يدركون مقاصد الحسين العالية، لم يألوا جهدهم في منعه، وآخر ما أجابهم به أن قال لهم: شاء الله ذلك، وجدّي أمرني به، فقالوا: إن كنت تمضي إلى القتل فما وجه حملك النسوة والاطفال؟ فقال: إن الله شاء ان يراهن سبايا، ولما كان بينهم رئيساً روحانياً لم يكن لهم بد عن السكوت.

    ومما يدلّ على أنه لم يكن له غرض إلاّ ذلك المقصد العالي الذي كان في نفسه، ولم يتحمل تلك المصائب لسلطنة وامارة، ولم يقدم على هذا الخطر من غير علم ودراية، كما يصوره بعض المؤرخين من أنّه قال لبعض ذوي النباهة قبل الواقعة بأعوام كثيرة على سبيل التسلية: إنّ بعد قتلي وظهور تلك المصائب المحزنة يبعث الله رجالاً يعرفون الحق من الباطل يزورون قبورنا ويبكون على مصابنا ويأخذون بثأرنا من أعدائنا، وأولئك جماعة ينشرون دين الله وشريعة جدّي، وأنا وجدّي نحبهم، وهم يحشرون معنا يوم القيامة.

    ولو تأمّل المتأمّل في كلام الحسين وحركاته، يرى أنّه لم يترك طريقاً من السياسة إلاّ سلكه في إظهار شنائع بني أمية وعداوتهم القلبية لبني هاشم ومظلومية نفسه، وهذا مما يدلّ على حسن سياسته وقوة قلبه وتضحية نفسه في طريق الوصول إلى المقصد الذي كان في نظره، حتى أنّه في آخر ساعات حياته عمل عملاً حيّر عقول الفلاسفة، ولم يصرف نظره عن ذلك المقصد العالي مع تلك المصائب المحزنة والهموم المتراكمة وكثرة العطش والجراحات، وهو قصة الرضيع، لما كان يعلم أنّ بني أمية لا يرحمون له صغيراً، رفع طفله الصغير تعظيماً للمصيبة على يده أمام القوم، وطلب منهم أن يأتوه شربة من الماء، فلم يجيبوه إلاّ بالسهم.

    ويغلب على الظن أنّ غرض الحسين من هذا العمل تفهيم العالم بشدة عداوة بني أمية لبني هاشم، وأنّها إلى أي درجة بلغت، ولا يظن أحد أنّ يزيد كان مجبوراً على تلك الاقدامات الفجيعة لاجل الدفاع عن نفسه، لانّ قتل الطفل الرضيع في ذلك الحال بتلك الكيفية ليس هو إلاّ توحش وعداوة سبعية منافية لقواعد كل دين وشريعة.

    ويمكن أن تكون هذه الفاجعة كافية في افتضاح بني أمية ورفع الستار عن قبائح أعمالهم ونياتهم الفاسدة بين العالم، سيما المسلمين، وأنّهم يخالفون الاسلام في حركاتهم، بل يسعون بعصبية جاهليه إلى اضمحلال آل محمد وجعلهم أيدي سبا.

    ونظراً لتلك المقاصد العالية التي كانت في نظر الحسين، مضافاً إلى وفور علمه وسياسته التي كان لا يشك فيها اثنان، لم يرتكب أمراً يوجب مجبورية بني أمية للدفاع، حتّى أنّه مع ذلك النفوذ والاقتدار الذي كان له في ذلك العصر، لم يسع في تسخير البلاد الاسلامية وضمّها إليه، ولا هاجم ولاية من ولايات يزيد، إلى ان حاصروه في واد غير ذي زرع، قبل أن تبدو منه أقل حركة عدائية، أو تظهر منه ثورة ضد بني أمية.

    لم يقل الحسين يوماً سأكون ملكاً أو سلطاناً وأصبح صاحب سلطة، نعم كان يبث روح الثورة في المسلمين بنشره شنائع بني أمية واضمحلال الدين إن دام ذلك الحال، وكان يخبر بقتله ومظلوميته وهو مسرور.

    ولما حوصر في تلك الارض القفراء أظهر لهم من باب إتمام الحجّة بأنهم لو تركوه لرحل بعياله وأطفاله، وخرج من سلطة يزيد، ولقد كان لهذا الاظهار الدال على سلامة نفس الحسين في قلوب المسلمين غاية التأثير.

    قتل قبل الحسين ظلماً وعدواناً كثير من الرؤساء الروحانيين وأرباب الديانات، وقامت الثورة بعد قتلهم بين تابعيهم ضد الاعداء، كما وقع مكرراً في بني إسرائيل، وقصة يحيى من أعظم الحوادث التأريخية، ومعاملة اليهود مع المسيح لم ير نظيرها إلى ذلك العهد، ولكن واقعة الحسين فاقت الجميع.


    المأتم الحسيني / عبد الحسين شرف الدين.

  8. #28
    ....
    sajaya ruh

    ثقافة عاشوراء في بلاء كربلاء




    البلاء و كربلاء:

    البلاء يعطي معنى الألم والمشقة كما ويعطي أيضا معنى الاختبار والامتحان.

    وأغلب الشداد والمصائب تكون تمحيصا للناس في دنياهم للتمسك بالدين. وكربلاء (كرب وبلاء) هي مزيج من المحن والآلام الشديدة، وكانت أكبر اختبار تاريخي لأهل الحق والباطل لأجل أن يحددوا مواقفهم.

    لما بلغ سيد الشهداء تلك البقعة، سأل: ما اسم هذا الموضع؟ فقيل له: كربلاء. فدمعت عيناه وراح يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من الكرب والبلاء)) وقد أيقن بأن شهادته هو وأصحابه في هذا المكان فقال: ((هذا موضع كرب وبلاء، ها هنا مناخ ركابنا، ومحط رحالنا وسفك دمائنا))(مروج الذهب للمسعودي:59).

    كان اختلاط اسم هذه الأرض بالمصائب والشدائد قد نقل من قبل هذا على لسان بعض الأولياء؛ فعيسى عليه السلام عندما مرّ بها بكى وقال: إنها أرض كرب وبلاء(بحار الأنوار 253:44).

    وحينما كان الحسين طفلا مع أمه تحمله أخذه النبي صلى الله عليه وآله وقال: لعن الله قاتلك. فسألته فاطمة عليها السلام: وأين يقتل ولدي؟ قال: ((موضع يقال له كربلاء وهي دار كرب وبلاء علينا وعلى الأمة [الأئمة]))(بحار الأنوار264:44).

    إذا اعتبرنا كربلاء أرض البلاء، فهي موضع اختبار لإخلاص وفداء ومحبة أبي عبدالله عليه السلام وأهل بيته وأصحابه الذين تجلى جوهرهم الذاتي وبعدهم الرفيع ومدى صدق عقيدتهم وادعائهم، في بوتقة الآلام والشهادة والمحن والمصائب. وظهرت فيها أيضا ماهية أهل الكوفة وأدعياء نصرة الحسين، وانكشفت من خلالها حقيقة الحكام الأمويين تجاه سبط الرسول وحجة الله.

    وقد أشار أبو عبدالله عليه السلام إلى دور البلاء في اكتشاف جوهرة التدين، ومدى الالتزام في خطابه في منزل يقال له ((ذي حسم)) أو في كربلاء -وفق رواية أخرى- حين قال: ((...إن الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت معايشهم فإن محصوا بالبلاء قل الديانون))(تحف العقول:245).

    وأي امتحان أشد من أن يرى حجة الله وهو محاصر من قبل أعدائه وهم يخذلونه طمعا في مغانم دنيوية أو خوفا من الموت. وعندما كان الإمام يطلب النصرة طوال مسيره ولا يلقى منهم رغبة في الجهاد أو قدرة على التضحية، كان يأمرهم بالابتعاد عن المنطقة ويقول: ((فوالله لا يسمع واعيتنا أحد ولا ينصرنا إلا (هلك) أكبه الله في نار جهنم))(أنساب الأشراف174:3،بحار الأنوار379:44).

    إضافة إلى ما تضمنته كربلاء من امتحان عظيم، فقد كانت في الوقت نفسه سببا للتقرب من الله وعلو الدرجة، كما اختُبر إبراهيم وإسماعيل بأمر الذبح، وكما أُمر إبراهيم بأن يترك ذريته بواد غير ذي زرع. واختبره الله أيضا بنار نمرود حين ألقي في سعيرها.

    وقدم سيد الشهداء أيضا اثنين وسبعين قربانا إلى مسلخ العشق، وكان هو الذبح العظيم، وقربان آل الله، وتعرّض عياله في صحراء الطف لصنوف الأذى والعذاب والعطش.

    وخرجوا كلهم من ذلك الاختبار بوجوه وضاءة، وكان كلام سيد الشهداء في اللحظات الأخيرة دليلا على الرضا والتسليم: ((إلهي رضا لقضائك وتسليما لأمرك)).

    وكان في كلام فاطمة بنت الإمام الحسين إشارة إلى أن كربلاء كانت موضع ابتلاء لأمة الرسول وللعترة، ففشل فيها الآخرون، وأبلى فيها آل الرسول بلاء حسنا: ((فإنا أهل البيت ابتلانا الله بكم وابتلاكم بنا فجعل بلاءنا حسنا))(رياض القدس341:2).

    وهكذا يمكن أيضا النظر إلى عاشوراء من زاوية ((البلاء)) واعتبار ((الابتلاء)) تمهيدا لتجسيد البعد الإلهي لشهداء سبيل الله. وعلى زائر الحسين أن يجسد في ذهنه صورة لجميع أنواع البلاء والشدائد والمصائب والخوف والعطش، وأن كربلاء أرض كرب وبلاء.

    ثقافة عاشوراء:

    المراد منها مجموعة القيم والمفاهيم ، والأحاديث والأهداف ، والدوافع وأساليب العمل ، والمعنويات والخلق الرفيع الذي قيل أو فعل في ثورة كربلاء ، أو الذي تجسد في أحداث تلك النهضة . وهذه القيم والمعتقدات تجلت في كلمات سيد الشهداء وأصحابه وولده ، وفي سلوكهم أيضا . وينبغي أن تُستقى ثقافة عاشوراء ممن كانت لهم صلة عملية وفكرية وقلبية بعاشوراء . وقبل ان يحاول الآخرون والأجيال اللاحقة والمحللون المتأخرون عن الواقعة نشر ثقافة عاشوراء عليهم أولاً أن يتمثلوا في أقوالهم وتطلعاتهم دور صانعي ملحمة عاشوراء ، وان يعرضوا هذه الثقافة مباشرة وبلا واسطة .

    هذه الثقافة يمكن استخراجها من كتب الزيارات ، والمقاتل ، والرجز ، والخطب ، ومن خلاله دراسة أحداث ووقائع عاشوراء . وإذا ما وجدت هذه الثقافة لدى أي شعب وفي أي موضع كان فهي كفيلة بخلق حادثة كحادثة كربلاء ، وتربية الناس على مقارعة الظلم والدفاع عن الحق .

    ثقافة عاشوراء هي أساس البناء العقائدي والفكري الذي كان يتحلى به الإمام الحسين عليه السلام وشهداء كربلاء ، وسبايا أهل البيت عليه السلام ، واليها يعزى انبثاق تلك الملحمة وديمومة ذكراها . ويمكن تلخيص مجموع تلك القيم والمفاهيم تحت العناوين التالية :

    التصدي لتحريف وقارعة ظلم الطواغيت وجور الحكومات ، وعزة الإنسان وكرامته ، وترجيح الموت الأحمر على الحياة الذليلة ، وانتصار الدم على السيف ، والشهادة على الفاجعة ، وحب الشهادة واستقبال الموت ، وإحياء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير من السنن الإسلامية ، والرجولة والمروءة حتى في التعامل مع العدو ، ورفض المساومة مع الجور والرضوخ للظلم ، وقصد إصلاح المجتمع ، والعمل بالتكليف لنيل رضى الله ، والعمل بالتكليف سواء أدى الى النصر أم الى الشهادة ، والجهاد والفداء الشامل ، والتضحية بالنفس في سبيل إحياء الدين ، ومزج العرفان بالحماسة ، والجهاد بالبكاء ، والقيام المخلص لله ، والصلاة في أول وقتها ، والشجاعة والثبات في مقابل العدو ، والصبر والمقاومة في سبيل الهدف حتى الموت ، والإيثار ، والوفاء ، وغلبة الفئة القليلة المحقة على الفئة الكثيرة من أهل الباطل ، ومناصرة إمام الحق ، والبراءة من حكام الجور ، وصيانة كرامة الأمة الإسلامية ، وتلبية نداء استجابة المظلومين ، وتضحية الناس في سبيل القيم وما الى ذلك .

    ويمكن الاتيان لكل واحد من المحاور المذكورة بوثيقة وسند من كلام الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه أو أسلوب سلوكهم ومواقفهم وجهادهم وشهادتهم لنجعل من هذا المسرد الثقافي ومسندا بشكل أدق وأوثق ، وهذه الثقافة السامية والغنية التي تجسدت في صنّاع ملحمة عاشوراء يجب أن تتواصل أيضا لدى السائرين على خط الإمام الحسين ، ولدى من يدّعون السير على خطاه . وعلى ورثة هذه الثقافة أن يناصروا الحركات المستمدة من ثورة كربلاء ، ويناهضوا السائرين على طريق أعداء سيد الشهداء عليه السلام ، لأن الراضين بتلك الجريمة ملعونون ، وقد جاء في زيارة عاشوراء : " فلعن الله أمة سمعت بذلك فرضيت به

  9. #29
    مساعد المدير
    ام محمد
    تاريخ التسجيل: May-2014
    الدولة: روح إيليا وشمس الشموس
    الجنس: أنثى
    المشاركات: 62,081 المواضيع: 1,039
    صوتيات: 1 سوالف عراقية: 2
    التقييم: 121900
    مزاجي: I do not care about anyone
    المهنة: Graduate without appointment
    أكلتي المفضلة: دولمة
    موبايلي: iphone مال هسة +_-
    آخر نشاط: منذ دقيقة واحدة
    مقالات المدونة: 19
    شكرآ للطرح غاليتي
    جزاك الله خيرآ

  10. #30
    من أهل الدار
    استغفر الله ربي
    تاريخ التسجيل: September-2014
    الدولة: العراق
    الجنس: أنثى
    المشاركات: 1,307 المواضيع: 27
    التقييم: 343
    مزاجي: الحمد لله ...
    مقالات المدونة: 16
    اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم والعن عدوهم..
    لبيك يا حسين..فداك نفسي يا حسين ..يا لثارات الحسين..
    السلام عليك وعلى الارواح التي حلت بفنائك..السلام هلى عقيلة بني هاشم سيدتي ومولاتي السيدة زينب عليها السلام..
    السلام عليك يا ابا الفضل العباس..السلام عليك يا مسلم بن عقيل ..السلام على اولاد مسلم..السلام على علي بن الحسين..السلام على اولاد الحسين..السلام على اصحاب الحسين..السلام على عبد الله الرضيع..
    اللهم العن يزيد بن معاوية وشمر ..اللهم العن عبيد الله بن زياد..اللهم العن حرملة ..
    بارك الله بكِ..وفقك الله.في ميزان حسناتك

صفحة 3 من 11 الأولىالأولى 12 345 ... الأخيرةالأخيرة
تم تطوير موقع درر العراق بواسطة Samer

قوانين المنتديات العامة

Google+

متصفح Chrome هو الأفضل لتصفح الانترنت في الجوال